استحقاق المنصب رهين بالقدرة على التدبير
محمد شركي
عادة كل إنسان أن يصبو إلى المناصب طلبا للرفعة والعلو . والمنصب يطلق على الشرف والحسب وهو ما يعني الرفعة ، ولهذا يقال : " لفلان منصب " أي له حسب وشرف يرفعه . وانتقل إطلاق المنصب على كل مهمة في الدولة والتي ترفع من يمارسها على قدر ما لها من شأن في المجتمع . وهكذا تصنف المناصب في مختلف الوظائف إلى عليا ودنيا وما بينهما . ونظرا للأنانية التي جبل عليها الإنسان فإن طموحه للحصول على المنصب لا حدود له دون التفكير في ما يقابل هذا المنصب من كفاءة وقدرة . ويتهافت كثير من الناس على المناصب ولا يبالون بما تتطلبه من شروط ومؤهلات . والمناصب لها شأن ،ويطلق الشأن على الأمر لقوله تعالى في سورة يونس الآية 3 : (( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر )) ، وقوله تعالى في نفس السورة الآية 31 : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والبصر ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر)) وقوله في سورة الرعد الآية 2 : (( الله الذي رفع السماء بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ويدبر الأمر)) وقوله تعالى أيضا في سورة السجدة الآية 5 : (( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون )) . فعندما نتأمل لفظة الأمر في هذه الآيات نجدها تعني الشأن . ولفظة أمر ذات دلالة مرتبطة بالإمارة والملك لأن فعل أمر ـ بكسر الميم وضمها ـ إمرة وإمارة يعني صار أميرا ، والإمارة لها شأن لهذا تسمى أمرا ،و يسمى أصحابها بأولي الأمر.والإمارة أو الأمر مراتب أعلاها منصب الرئاسة أو الإمامة العظمى . وإذا تأملنا نسبة الله عز وجل لذاته المقدسة فعل التدبير في الآيات السابقة نجده يسوق هذا الفعل في سياق الحديث عما خلق من سماوات وأرض وما فيهما من نجوم وكواكب، وما فيهما من مخلوقات ،وما يطرأ عليها من تعاقب بين موت وحياة ، و من بينها الإنسان بسمعه وبصره . ويرد ذكر الأمر عند الله عز وجل مقترنا بالتدبير ، وهو من فعل دبر ـ بتضعيف الباء ـ الذي يعني العناية بالشيء وتنظيمه فضلا عن دلالات أخرى منها التفكر في الشيء والنظر في عواقبه . فالله عز وجل يذكر تدبيره أي قدرته على العناية بما خلق من مخلوقات . ويفهم من ذلك أن كل من رغب في شأن أو أمر وجب عليه أن يكون قادرا على تدبيره عناية وتنظيما .
بعد هذا التمهيد الذي أرت به الكشف عن دلالة لفظتي الأمر والتدبير نعود إلى قضية تهافت الناس على المناصب أو على الأمر دون امتلاك القدرة على تدبيره . وكثير من الخلق إنما يتطفل على الأمور أو المناصب ، والتطفل نسبة إلى شخص كان يسمى طفيلا ، وكان يحضر الولائم دون أن يدعى إليها ، وصار هذا النعت يلصق بكل من يفعل مثل فعله . والتطفل على المناصب إنما يكون بطلبها دون امتلاك القدرة والكفاءة على تدبيرها تماما كما يحضر الطفيل الولائم دون امتلاك الدعوة . ومما كرس التطفل على المناصب المحسوبية التي تمارسها أحزاب وهيئات وجهات نافدة في المجتمع ترشح أتباعها وتدفعهم لطلب المناصب وهم لا يملكون ما يؤهلهم لتدبيرها. ومن المناصب التي ابتليت بمثل هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر مناصب وزارة التربية عندنا لأن الأحزاب تتهافت على هذه الوزارة ، ذلك أنه بمجرد فوز وزير من حزب ما بها فإنه يعمد إلى أتباع حزبه يسند إليهم مناصب الوزارة كمديرين ونواب ورؤساء أقسام ومصالح وهلم جرا . وهكذا تتبادل الأحزاب مناصب هذه الوزارة وتوزعها على أتباعها كما توزع الغنائم دون التفكير فيما تتطلبه من قدرة على تدبيرها . وبسبب ذلك يلجأ الراغبون في هذه المناصب إلى التنقل بين الأحزاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وإلى تغيير الجلود الحزبية كما تفعل الثعابين ، وهو أمر يتداول من لهم صلة بهذه الوزارة بالتندر طرائف أصحابه بسخرية واستهزاء ، وقد حازوا الخزي بسبب ذلك ، ونكب منهم من نكب ، وسرح من سرح سراحا غير جميل بعد تطفله على مناصب عاث فيها فسادا . والشاهد على التطفل على مناصب وزارة التربية الوطنية هو الفشل في ما تقتضيه من تدبير ،ذلك أن مشاكل المتطفلين عليها لا تعد ولا تحصى وروائحها تزكم الأنوف ، ومع ذلك يبدون تشبثا بها وكأنهم أهل لها وأحق بها ،والحقيقة أن نصيبهم من التدبير لا يتجاوز ما تحيل عليه المادة اللغوية في فعل دبر من دلالات بعيدة عن العناية من مثل المدابر وهو صاحب القدح غير الفائز، أو دابر بمعنى قاطع وخالف ، أو دبر بمعنى ولى ومات ، أو الدبرة والدبار ـ بكسر الدال ـ وتعني الهزيمة وهي من الإدبار ، أو الدبار ـ بفتح الدال ـ وهو الهلاك ، أو الدبري وهو ما يأتي بعد فوت الحاجة إليه . فعندما نتأمل كثيرا ممن أسندت إليهم مناصب وزارة التربية الوطنية لا نجد لهم كفاءة على التدبير وحظهم من معاني لفظة دبر أنهم مدابرون أي أصحاب قدح غير فائز ، وأصحاب دبرة ودبار أي هزائم وهي يومية لا تعد ولا تحصى ، وأصحاب مدابرة وهي الاختلاف مع غيرهم ، كما أنهم أصحاب دبر أي أموات بسبب العجز الفاضح عن التدبير . والمثير للسخرية أن الواحد منهم مع يقينه التام والراسخ بعجزه عن تدبير ما أسند إليه من منصب يطمع في منصب أعلى منه ، ولا يخجل من طمعه، ولا يندى له جبين وقد حرم ما الوجه . وبعضهم يرى نفسه أهلا لمنصب فوق الذي هو فيه لا يمنعه منه إلا وقف التنفيذ . ويرحم الله عز وجل من عرف قدره وجلس دونه .ويغفر الله عز وجل لمن أخفق في التدبير واعترف واستغفر وانصرف عما لا يعرف إلى ما يعرف.