هل النفوذ الأميركي ينحسر فعلاً؟

صبحي غندور

[email protected]

هناك مقولةٌ تتردّد الآن كثيراً مفادها أنّ النفوذ الأميركي في العالم ينحسر، وبأنّ الولايات المتحدة تشهد حالاً من الضعف في مواقع عديدة في العالم.

طبعاً، تعتمد هذه المقولة على ما حدث في السنوات العشر الماضية من بروز للدورين الروسي والصيني في أزماتٍ دولية مختلفة ومن ظهور لمجموعة "البريكس"، التي تضمّ إضافةً إلى روسيا والصين كلاً من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، كمثال على وجود تعدّدية قطبية في عالم اليوم، بعد هيمنة القطب الأميركي الأوحد عقب انتهاء "الحرب الباردة" وسقوط المعسكر الشيوعي الذي كان يُنافس القطب الأميركي لنصف قرنٍ من الزمن.

صحيح أنّ الولايات المتحدة قد فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها ومشاريعها في حروب وصراعات مختلفة حدثت في السنوات العشر الماضية. وصحيحٌ أيضاً أنّ هناك سعياً روسياً وصينياً دؤوباً لتكريس نظام متعدّد الأقطاب في العالم. وصحيحٌ كذلك أنّ عدّة دول في قارات العالم تحبّذ الآن حصول تعدّدية قطبية. لكن هل النفوذ الأميركي ينحسر فعلاً ؟ وهل تتصرّف أميركا الآن على أساس وجود تعدّدية قطبية في العالم، أو في الحدّ الأدنى، هل سلّمت واشنطن بهذه المتغيّرات الدولية الجارية حالياً؟!.

الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلّب رؤيةً دقيقة لواقع أزمات دولية حاصلة الآن، ولكيفيّة الانتشار الأميركي الراهن في العالم. فالرئيس الأميركي أوباما عاد مؤخّراً من جولة آسيوية كان هدفها الأول تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية مع دولٍ تُشكّل بيئةً جغرافية مهمّة للصين، وبعضها (كاليابان) له مشاكل مع الصين وتاريخٌ سيء في العلاقات. ومن بين الدول الأربع التي زارها أوباما، ثلاثٌ منها تحتوي على وجود عسكري أميركي مهم منذ الحرب العالمية الثانية: اليابان، الفيليبيين وكوريا الجنوبية. وهناك الآن قرار أميركي بتحويل ما يُقارب ثلثي القوة البحرية الأميركية إلى منطقة المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا. فواشنطن تقوم الآن بخطواتٍ استباقية لمنع تحوّل القوة الاقتصادية الصينية إلى قوّة عسكرية ضخمة منافسة للولايات المتحدة.

أمّا محاولات التحجيم الأميركي لروسيا فهي متعدّدة رغم حرص واشنطن على عدم حدوث تصادم عسكري مع القوة العسكرية الروسية، التي هي الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة وتملك صواريخ نووية عابرة للقارات ولم تصطدم معها أميركا في أسوأ ظروف "الحرب الباردة"، حيث حرصت موسكو وواشنطن (كما تحرصان الآن) على إبقاء الصراعات بينهما في ساحات الآخرين، ومن خلال الحروب بالوكالة عنهما وليس بالأصالة منهما. ولعلّ الأزمة الأوكرانية، وقبلها جورجيا، ومعها الآن سوريا، لأمثلة عن كيفية سعي واشنطن لتحجيم النفوذ الروسي العالمي، ولمشاركة روسيا في مناطق هي محسوبةٌ كلّياً لموسكو. فالبعض يتصوّر الآن أنّ موسكو تنتصر في المسألة الأوكرانية بينما واقع الحال هو أنّ واشنطن ومعها "الناتو" قد وصلا إلى الحدود الإستراتيجية المباشرة للاتحاد الروسي، بعد أن امتدّا أصلاً إلى دول أوروبا الشرقية وأصبح جزءٌ من هذه الدول عضواً في حلف "الناتو".

ولا أعلم ما هو معيار "الانحسار" الأميركي إذا كانت الولايات المتحدة قد أضافت على أوروبا الغربية أوروبا الشرقية، وهي الآن تدقّ أبواب روسيا من خلال المراهنة على تقسيم أوكرانيا بين "شرق روسي" و"غرب أميركي"، ففي كلّ الأحوال ستكون روسيا خاسرة في الأزمة الأوكرانية حتّى لو سيطرت على القرم وعلى أجزاء من شرق أوكرانيا. فأوكرانيا هي أمام ثلاثة احتمالات: تسوية سياسية تقوم على نظام فيدرالي يُهيمن فيه "الناتو" سياسياً وأمنياً على العاصمة وعلى أجزاء من أوكرانيا، ودون إعلان الانضمام لحلف "الناتو"، أو حرب أهلية ستنتهي حتماً في تقسيم أوكرانيا، أو تورّط عسكري روسي مباشر في كل الأراضي الأوكرانية وصراعات مسلحة مع مجموعات مدعومة من "الناتو"، ممّا يستنزف روسيا في منطقة إستراتيجية مهمّة جداً للأمن القومي الروسي.

ويحضرني هنا ما قاله الرئيس الأميركي أوباما منذ أسابيع قليلة حينما سأله صحفي أميركي عن مدى صحّة ما يُقال بأنّ إيران تربح في سوريا وبأنّ واشنطن ضعيفة هناك، حيث ردّ أوباما أنّ سوريا كلّها كانت مع إيران قبل تفجّر الأزمة الدموية فيها، بينما إيران وحلفاؤها هم الذين يستنزفون الآن هناك. ولعلّ هذه النظرة الأميركية تنطبق أيضاً على النفوذ الروسي في سوريا، حيث كانت كل سوريا حليفة لروسيا بينما الآن هناك جماعات ومناطق على علاقة قوية جداً مع الولايات المتحدة. وفي أي تسوية مستقبلية للأزمة السورية سيكون هناك حضور لمن هم على علاقة جيدة مع واشنطن!.

   وإذا كان معظم أوروبا يدور الآن في الفلك الأميركي، وغالبية دول المنطقة العربية تقيم حكوماتها علاقات خاصة مع واشنطن، وإيران تتفاوض الآن مع واشنطن، والهند وباكستان كلاهما يحرص على تطوير العلاقات مع أميركا رغم ما بينهما من صراع طويل، والنفوذ الأميركي يمتدّ الآن إلى دولٍ إفريقية عديدة كانت إمّا تحت الوصاية الفرنسية أو مناطق صراع مع المعسكر الآخر في فترة "الحرب الباردة"، فأين يكون "الانحسار" الأميركي؟!.

هناك بتقديري فارقٌ كبير بين مقولة "الانحسار" وبين عدم نجاح واشنطن في السنوات الماضية بتحقيق كل ما كانت تريده أو ما خطّطت له من مشاريع. وهذا ينطبق على حربيها في العراق وأفغانستان، وعلى "مشروع الشرق الأوسطي الكبير"، وعلى الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، وعلى ما يحدث في سوريا، وعلى المراهنة على حكم "الأخوان المسلمين" في مصر. ففي هذه الحروب والأزمات فشلت واشنطن في تحقيق ما تريده بشكلٍ كامل لكنّها حتماً استطاعت استنزاف خصومها وجعلهم في موقع المدافع عن وجوده بعدما نجحت واشنطن جزئياً في تحجيم دورهم. فالولايات المتحدة لم تكسب حتماً معارك اقتلاع وجود أخصامها، لكنّها نجحت طبعاً في تحجيم نفوذهم وفي مدّ تأثيراتها على مناطق لم تكن محسوبة لها.

السياسة الأميركية ليست حتماً "قضاءً وقدراً"، وهي تشهد تقلباتٍ كثيرة وتغييراتٍ في الأساليب معتمدةً على نهجٍ "براغماتي"، لكن هدفها ما زال هو بقاء الولايات المتحدة القوّة الأعظم في العالم. وما فشل في ظلّ إدارة "جمهورية" سابقة من أسلوب الغطرسة العسكرية، يتمّ الان الاستعاضة عنه في ظلّ إدارة "ديمقراطية" بما اصْطُلِح على تسميته ب"القوة الناعمة"، وهو المصطلح الذي رافق مجيء أوباما للبيت الأبيض.

وهدف هذا المقال ليس التهويل بالقوة الأميركية أو بنقض توصيف عالم اليوم المتعدّد الأقطاب فعلاً، بل هو دعوة لفهم الواقع والانطلاق منه، وعدم اعتبار النجاح في الدفاع عن الوجود ببعض المواقع تراجعاً نهائياً من قبل "المهاجمين" أو قبولاً تلقائياً بحقوق "المدافعين".