لغو «الدولة الوطنية»
طلع علينا قبل شهور مصطلح «الدولة الوطنية» الذي راح يتردد في كتابات صفحات الرأي وتصريحات السياسيين العرب. قُدمت هذه الدولة بصفتها سفينة النجاة من الهاوية التي ألقت الثورات العربية، المنطقة في حضيضها.
تتبع مصدر المصطلح يوصل إلى سجال محدد هو ذاك الدائر بين الإسلام السياسي حامل مشروع الدولة الدينية العابرة للأوطان والأقوام، الممتدة من «الجمهورية الإسلامية» إلى «الخلافة». الرد على المشروع هذا يأتي من مؤيدي الأمر الواقع العربي بعبارة «الدولة الوطنية»، التي تمثل حبل الخلاص للعالم العربي والتي يتعين الدفاع عنها بكل السبل والوسائل، على ما قال الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في دبي قبل أيام.
لكن ما هي هذه «الدولة الوطنية»؟ وبماذا تختلف عن الدولة – الأمة على الطريقة الأوروبية؟ وعلى أي اقتصاد سياسي تقوم؟ ومن هي الفئة الاجتماعية التي تقودها؟ بداهة، لا جواب على هذه الأسئلة على رغم بساطتها. بل إن مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ضياء رشوان يذهب، في المناسبة ذاتها، إلى التشديد على أهمية الدفاع عن الدولة الوطنية «ديموقراطية كانت أم مستبدة». لماذا؟ لأن البديل عنها هو التشرد في الصحارى والموت الناجز...
فات السيدان أبو الغيط ورشوان أن «الدولة الوطنية» (المستبدة دائماً وغير الديموقراطية) هي النموذج القائم منذ أربعينات القرن العشرين على أقل تقدير، في المنطقة العربية. والأهم أنها تتحمل المسؤولية الأولى عن الوضع العربي الكارثي الحالي، ولم تكن الثورات العربية، التي لا يخفي كثيرون كراهيتهم الصريحة لها، غير رد فعل على الفشل التام لـ «الدولة الوطنية» بصيغتها المذكورة.
وفات الرجلان وكثر ممن يتبنون المقاربة عينها، ان الدولة أولا وآخرا وبين بين، هي جهاز ايديولوجي له مهمات اطنب المفكرون، من هوبز ولوك وهيغل وصولاً إلى جورجيو أغامبان وآلان تورين وغيرهما، في تفكيك آليات عملها وانحيازاتها وطرق السيطرة عليها ومن خلالها على المجتمع المعني، والعلاقات المركبة بين الدولة والمجتمع.
أضف إلى ذلك أن «الدولة الوطنية» التي يبدو أن ثمة تعمداً في إبقاء سماتها طي الغموض، ليست سوى الطبعة المنقحة للدولة العربية السابقة على الثورات التي يتمّ استغلال اخفاقها واتهامها بفتح الباب واسعاً أمام الإرهاب الإسلامي. وأن الدولة هذه لن تكون إلا أكثر استبداداً وفساداً وعسفاً على المواطنين العزل من كل الحقوق الذين لن يحصلوا من هذا المشروع سوى على الوعد (مجرد وعد) بالأمن والاستقرار الشبيه باستقرار المقابر. أما التشرد في الصحارى والموت المجاني فقد حصلا وبنجاح كبير بفضل الدولة الوطنية، لا غيرها.
غني عن البيان أن مسائل مثل دور المواطن الفرد وحقوق الجماعات العرقية والدينية والحريات العامة وفصل السلطات وتوازنها، لا وجود لها ولا قيمة في أذهان المروجين لهذا النوع من «الدولة الوطنية». فالمهم هو استعادة السيطرة على المجتمع وتطويعه وبعد ذلك لكل حادث حديث.
وإذا كان الإسلام السياسي يعدنا بإعادتنا إلى ماض يكتنفه الوهم ولا يتأسس إلا على العنف ولا أفق له غير شن الحرب على العالم بأسره، فإن أصحاب مقولة «الدولة الوطنية» لا يملكون غير المطالبة بجعل المستقبل تكراراً لا ينتهي للحاضر، من دون أي تصور لكيفية علاج الكوارث التي نعيش والتي ساهمت دولتهم المنشودة في حفر كهوفه الموبوءة. ويحفل التاريخ بنماذج سجناء رفضوا ترك زنازينهم حتى لو فتحت الأبواب أمامهم.
*كاتب لبناني.
وسوم: العدد 719