في مفهوم كفر أهل الكتاب في القرآن الكريم
تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي منذ أيام فيديو لشيخ الأزهر ، يحاول فيه أن يميز في مفهوم الكفر في القرآن الكريم ، الذي وصف به النصارى في قوله تعالى ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) . او قوله في أهل الكتاب جميعا قوله تعالى ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) . ومع أن شيخ الأزهر كان يحاول مفهوما صحيحا ، وحقيقة من حقائق الإسلام الكبرى ، إلا أنه مع الأسف لم ينجح في شرح حقيقة الخصوصية التي يتمتع بها الكتابي في التصور الاعتقادي الإسلامي ، أو في الحكم الشرعي في الشريعة الإسلامية ، ولم ينجح في التأصيل لها بل ظل يتلجلج في مترادفات لا معنى لها. وفي المقابل فقد انهالت استنكارات المستنكرين وإدانات الغلاة على شيخ الأزهر للمنحى الذي نحاه ، وكان في هؤلاء جملة من الأشخاص الموصفين بالعلم ، والذين ما زالوا يغذون مدرسة الغلو والتطرف في الثقافة الإسلامية ، وفي العقل الإسلامي .
إن اول ما يمكن أن نوضحه بين يدي هذه الحقيقة أن القرآن الكريم ليس رسالة جامعية بحثية ، يحدد فيها الباحث بطريقة مسبقة معاني المصطلحات ومحددات المفاهيم ، ثم يلتزمها حيثما وردت في ثنايا بحثه. القرآن الكريم كلام الله تعالى ، ولكلام الله تعالى لغته وله طرائقه في التعبير، وللقرآن الكريم مفاهيمه ومصطلحاته المطلقة التي تتحكم فيها سياقاتها اللغوية والشرعية على ما يقرره علماء التفسير وعلماء الأصول وعلماء العقيدة ؛ حسب قواعد كل علم من العلوم . إن مصطلحات مثل الإيمان والإسلام والكفر والظلم والفسق وغيرها كثير تتحكم سياقاتها في تحديد مفاهيمها ، وأبعادها الدلالية .
قال القرآن العظيم ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) وقال ( وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ) وقال ( لاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) وقال ( وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وقال ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ) ، فإذا أردنا أن نتتبع معنى الظلم في القرآن الكريم ودلالاته لما تأتى ذلك إلا في السياقات .، وسنجد أن للظلم في كل سياق دلالة ترتبط بالسياق الذي وردت فيه. فالشرك ظلم عظيم ، ولكن ما كل ظلم يسمى حسب سياق القرآن ظلما.
وكذا فإن معنى الإسلام ، ومعنى الإيمان ، ومعنى الفسق ومعنى الكفر كل أولئك المعاني تدور مع السياقات الدلالية ، لموقع كل لفظ في موقعه، ويظل المفسرون يؤكدون : يطلق الفسق ويراد به ..ويراد به ..ويراد ..به ..ويطلق الظلم ويراد به ..ويراد به .. ويطلق ....
وكذا الكفر له دلالاته في القرآن الكريم ، دلالاته التي تتحدد حسب سياقاته . التي لاتغيب عن المفسر وعن الأصولي وعن المتكلم وعن الفقيه .
إن قوله تعالى ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ..) وقوله ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ..) يوازيه ويفسره ويرسم محدداته أحكام الخصوصية التي منحها القرآن الكريم لأهل الكتاب من يهود ونصارى على مستوى العقيدة والتصور ، حين أمرنا أن نخاطبهم أو أن نبدأ جدالهم بالقول أولا ( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ) حقيقة عقيدية لا يمكن لمسلم أن يتجاوزها ، حين يريد أن يحدد دائرة الخلل في تصورات هؤلاء الناس أو في عقائدهم ، وهم يشاركونه في أصل الإيمان بحقيقة الألوهية ..
وكذا فإن ما يشارك في تحديد حقيقة الدائرة التي تحوط أهل الكتاب على مستوى الشريعة ، ما قررته الشريعة الإسلامية من خصوصية في جواز مخالطتهم ومؤاكلتهم ونكاح المحصنات من نسائهم ، خصوصية تميزية أو تفضيلية تتدخل في رسم حدود دائرة (الكفر) الذي نسبوا إليه في الآيتين موضع البحث مع التسليم ..
كفر اليهود والنصارى الذين يؤمنون بأصل رسالة السماء هو دون كفر عباد الأوثان أو عباد مظاهر الطبيعة ، هذا ما يقرره قوله تعالى ( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ) .
وكفر اليهود والنصارى الذين خصصتهم شريعة الإسلام بكثير من الأحكام التميزية ، منها أن تكون المحصنات من نسائهم أما لأبناء المسلمين ليس هو كفر عابد الوثن والشجر والبقر ..
فقه سبق إليه الإمام البخاري رحمه الله تعالى ، حين قرر أن الكفر لا يكون دائرة واحدة ، ولا طبقة واحدة فعنون في صحيحه ( كفر دون كفر) . وكما عنون البخاري كفر دون كفر ، يمكن أن نقول كفر فوق كفر أيضا ..
نعم اليهود والنصارى في العقيدة الإسلامية (كفار) بمفهوم من الكفر يخصهم دون سواهم من الكافرين . مفهوم يحتويه قوله تعالى ( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ..) نضع هذه الآية أمام قوله تعالى ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) أو قوله ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ) ثم نشكل فهمنا ونبني فقهنا ونحدد أرضية علاقاتنا أو جدالنا ..
فقه حقيقي هو أولا أصلٌ في عقيدتنا ، وأصلٌ في شريعتنا . وهو فقه نحن وأجيالنا ومجتمعاتنا أحوج ما نكون إليه لبناء الحياة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية المنفتحة على عالم أصبح كله دارا للدعوة ودارا للبلاغ ...
وسوم: العدد 720