دبلوماسية الظل فى سياسة اسرائيل الخارجية
تعكس زيارة رئيس الوزراء الهندى ناريندرا مودى لإسرائيل نجاحاً دبلوماسياً إسرائيلياً غير مسبوق لنوع جديد من دبلوماسية الظل الهادئة الطويلة الأمد التى تعتمد فى الأساس على توثيق العلاقات بين الدول عبر إنشاء شبكة استراتيجية من العلاقات الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الأيديولوجية مع قطاع عريض أو وازن فى كلا الدولتين يكون محورها الفائدة المزدوجة للطرفين أو حتى لأحدهما مقابل نفوذ سياسى للطرف الآخر. إن هذا النمط من العلاقات عادة ما ينشأ بين دول متطورة وأخرى نامية يُستثنى من هذا بعض الحالات الشاذة فى التاريخ المعاصر كالحالة الكوبية فى أمريكا اللاتينية فى ستينيات القرن الماضى بعد انتصار الثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو وتشى جيفارا، وكذلك الحالة المصرية فى أفريقيا فى فترة الحكم الناصرية بزعامة جمال عبد الناصر وكذلك الحالة الليبية فى العقد الأخير من حكم معمر القذافى فى أفريقيا، لكن الجديد فى الحالة الاسرائيلية الهندية يكمن فى حالة شبه التكافؤ بين الطرفين من حيث التصنيف التنموى؛ فكلا الدولتين يُعدان من الدول النامية المتطورة صناعياً؛ لكن من الواضح أن اسرائيل قد نجحت وعبر خمسة وعشرون عام من العلاقات الدبلوماسية مع الهند من صياغة شبكة من العلاقات المتطورة عبر دبلوماسية ظل جديدة هى دبلوماسية التكنولوجية المتطورة عبر شبكة علاقات واستثمارات اسرائيلية علمية مرموقة فى مجالات الطب وتكنولوجيا الزراعة وتكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الدوائر المتكاملة الالكترونية والاتصالات وتطبيقاتها العملية المدنية والعسكرية والأمنية مع مستويات واسعة ومتعددة داخل الهند؛ فى فترة كانت الهند فيها أحوج ما تكون لتلك التكنولوجيا فى أوج مرحلة التحول لقطاعات كبيرة من المجتمع الهندى من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية منخرطة فى التكنولوجيا الرقمية والبرمجية ورائدة فيها؛ كذلك كانت محصلة تلك الشبكة من العلاقات تسارع التنمية والتطور الهندى خاصة فى مجال تكنولوجيا الزراعة ومكافحة التصحر وتكنولوجيا التصنيع العسكرى والأمنى؛ وفتحت السوق الهندى على مصرعيه أمام اسرائيل وتحولت الهند لطرف محايد إن لم يكن مساند مستقبلاً لإسرائيل فى المحافل الدولية فى الصراع الفلسطينى الاسرائيلى .
إن زيارة السيد مودى لاسرائيل دون حتى المرور برام الله يعكس تحول كبير لكنه مدفوع الثمن فى السياسة الهندية التاريخية تجاه الصراع العربى الاسرائيلى؛ والتى كانت مساندة دوماً للحقوق العربية والفلسطينية نحو مرحلة جديدة من الحياد الذى لن يكون فى صالح الطرف الفلسطينى مطلقاً، والحالة الهندية مع اسرائيل هى فيض من غيث إذا ما ألقينا نظرة متفحصة على حجم الامتداد الاسرائيلى عبر دبلوماسية الظل الهادئة الاسرائيلية فى أفريقيا خلال العقدين الماضيين؛ وهو ما بات واضح الأثر فى تحول مواقف دول أفريقية عديدة و ووازنة كنيجيريا مثلاً تجاه الصراع الفلسطينى الاسرائيلى من مواقف مساندة للطرف الفلسطينى إلى محايدة وفى أحيانا عدة لمؤيدة لاسرائيل، وما كان لإسرائيل أن تنجح فى سياستها تلك لولا غياب الدور المضاد لها؛ فاسرائيل استغلت حاجة تلك الدول فى غياب الآخر بسد الفراغ الذى تركه العرب فى أفريقيا لعقود ومع سقوط نظام العقيد القذافى فى ليبيا الذى كان يلعب دور لا بأس به فى سد ذاك الفراغ، وسقوط أنظمة افريقية عديدة كان من بعده جنوب الصحراء الذى كان يدعمها؛ مما أتاح الفرصة لاسرائيل للاندفاع نحوها بقوة ودعمت الأنظمة الجديدة وليست حالة دول غرب ووسط أفريقيا كبوركينا فاسوا وغينيا بيساو ومالى وتشاد وغيرها إلا دليل دامغا على ذلك فتلك الدول كانت بأنظمتها قبل العام 2011من أكثر الدول الداعمة للحق الفلسطينى والعربى فى المحافل الدولية، لكن المشهد اليوم اختلف وليس أدل على ذلك من موقف بوركينا فاسوا التى صوتت ضد قرار اليونسكو الأخير بخصوص أحقية الفلسطينيين فى الحرم القدسى .
إن الفراغ الذى تركه العرب فى أفريقيا ودول ما يعرف بعدم الانحياز سابقاً لم يفتح شهية اسرائيل فى سده فحسب بل فتح شهيتها إلى الولوج داخل العالم العربى نفسه عبر نفس آليات دبلوماسية الظل الهادئة التى من الواضح أنها تنتظر إعلان صفقة القرن لتخرج من الظل إلى النور .
إن اسرائيل التى تستخدم هذه الدبلوماسية الناعمة مع للعرب والعجم لن تستطيع إخفاء عنصريتها تجاه حقوق الشعب الفلسطينى، ما دامت القضية الفلسطينية قائمة دون حل عادل وكل ما تقوم به من جهد دبلوماسى جبار لتثبيت مكانتها في العال لن تثبته وستسقطه أول كلمة حرة وشجاعة كتلك التى نطقت بها مندوبة كوبا فى اليونسكوا عندما رفضت الوقوف مع الواقفين دقيقة صمت على ضحايا المحرقة تلبية لدعوة مندوب اسرائيل وأخذت الكلمة بعد أن جلسوا لتدعوا القاعة من جديد للوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا إسرائيل من الفلسطينيين خلال سبع عقود من الاحتلال لتنتفض القاعة بالوقوف مرة أخرى مع التصفيق الحار وليسقط القناع الاسرائيلى ويمر قرار اعتبار المدينة القديمة فى الخليل بحرمها الابراهيمى جزء من التراث التاريخى الفلسطينى والانسانى فى مشهد انتصار تاريخى للعدالة الانسانية ولقضيتنا العادلة .
وستظل اسرائيل دولة ناقصة الشرعية مكذوبة الرواية التاريخية الاسطورية التى بنت كيانها على أساسها ما لم يقر لها الطرف الفلسطينى بذلك، قد نخسر الأنصار وقد يتحول الصديق إلى عدو والأخ لخصم لكن يبقى هذا وضع شاذ ومؤقت ما لم نُقر نحن الفلسطينيون ونرتضى بالاعتراف به وبإسرائيل كدولة يهودية.
وسوم: العدد 728