وعد (بلفور) ووعد (بلوم)

الدور الذي أعطي لليهود والعلويين

في سورية وفلسطين

طريف يوسف آغا

[email protected]

شرحت في مقالي السابق كيف استطاع الغرب الأوربي تحويل أعداء دول الشرق الأوسط من دوله، وخاصة انكلترا وفرنسا، إلى دول جارة أو بعيدة أو حكام جزارين محليين، وذكرت في ذلك السياق خصوصية سورية وفلسطين حيث قرر الغرب أن يسلط على كل واحدة منها طائفة بكاملها، وليس مجرد فرد أو عائلة، واضعاً كل واحدة من هاتين الطائفتين في موقع (ياقاتل يامقتول) مع كل من شعبي البلدين. وسأحاول في مقالي الحالي التركيز على هذه النقطة بالذات.

 لم يتعرض اليهود، إبتداءاً من العصور الوسطى ووصولاً إلى العصر الحديث، لمجازر أكثر وحشية من تلك التي تعرضوا لها على يد الأوربيين، وأقصد تلك التي لحقت بهم في بلادنا خلال الحملات الصليبية وكذلك في إسبانيا خلال عهد محاكم التفتيش وأيضاً في روسيا القيصرية وأخيراً على يد النازية الألمانية. وكيفية رسم (شكسبير) لملامح شخصية المرابي (شيلوك) في مسرحيته المشهورة (تاجر البندقية) يعطينا فكرة واضحة عن نظرة الأوربيين لليهود في ذلك الوقت. لاشك أن الأسباب التي أوصلتهم إلى المجازر المذكورة كانت مختلفة وتتناوب مابين دينية واقتصادية وسياسية، ولكن ليس هناك مايبرر ارتكاب مجازر التطهير العرقي مهما كانت الأسباب. ولما شكل اليهود في القرن التاسع عشر الحركة الصهيونية وبدؤا يبحثون عن وطن قومي يحميهم من غضب هذه الدولة أو انتقام تلك، كانت هناك عدة دول مرشحة لهذا الوطن مثل الأرجنتين في جنوب أمريكا وكينيا في إفريقيا بالاضافة لفلسطين. ولكن الأحزاب السياسية الأوربية، العلمانية منها والمسيحية بكافة أطيافها، كلها رأت في مصلحتها (إرسال) اليهود إلى فلسطين العربية وليس غيرها، فهم بذلك يحرقون عدوين تاريخيين لهما، أي للأوربيين، ببعضهما في حين يدعون صداقة الطرفين. وقد ذكرت في أعمال سابقة إلى أن الغرب الأوربي حين أقنع اليهود باختيار فلسطين، إنما أرسلهم إلى محرقة (مستقبلية) ستحرق الأخضر واليابس، وحينها يتمكن هو من العودة إلى بلادنا بعد أن تفني شعوبها بعضها، وإذا عدنا إلى معتقدات اليمين المسيحي المتطرف، سنجد أن هذا السيناريو بالذات يشكل الأساس في عقيدته ونظرته لدور العرب واليهود معاً كشرط لعودة السيد المسيح (ع). وقد دعيت في مقال سابق حكماء العرب واليهود إلى عدم الانسياق وراء (عداوة وهمية) هي ليست موجودة بينهما أصلاً ولكنها من تصنيع الغرب ليس إلا. كما ودعوت حكماء الغرب إلى ترك الماضي وشأنه والتعامل مع العرب واليهود وغيرهم من الشعوب على أسس إنسانية وعلى مبدأ (عش ودع غيرك يعيش)، ولكن يبدو في النهاية أن ثنائية (الجشع والعداوة) أقوى من هذا المبدأ أو من أي شئ آخر.

 كما وقع اليهود في فخ الغرب الأوربي، وقامت انكلترا بدور عراب دولتهم في فلسطين باصدارها وعد بلفور الشهير (1916)، فقد وقع العلويون في سورية في نفس الفخ، وقامت فرنسا بلعب دور عراب دولتهم في سورية. حصل ذلك بعد أن رفع وجهائهم وثيقتهم المشهورة (1936)، والتي عرفت فيما بعد باسم الوثيقة العلوية- الفرنسية، لحكومة الاحتلال حينها. فقد رفع هؤلاء الوجهاء، ومنهم (سليمان الأسد) جد (حافظ الأسد)، تلك الوثيقة لرئيس وزراء فرنسا حينها (ليون بلوم)، يطالبونه فيها بعدم جلاء جيوش دولته عن سورية، أو بمنحهم دولة في منطقة جبال الساحل تكون بحماية فرنسية. وقد برروا ذلك بخوفهم من انتقام الشعب السوري منهم بسبب تعاون طائفتهم مع الاحتلال وكذلك اختلاف العقيدة الدينية. واستغل الموقعون على تلك الوثيقة حقيقة كون رئيس الوزراء (بلوم) نفسه يهودياً، فأشاروا في فقرتها الرابعة بالتحديد إلى تعاطفهم مع اليهود ومع إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، مشبهين قضيتهم بالقضية اليهودية. وكما وجدت انكلترا أن تحرق العرب في فلسطين باليهود والعكس بالعكس، فقد وجدت فرنسا في العلويين نفس المواصفات لتنفيذ نفس المهمة في سورية، مستغلة إرثاً كبيراً من الفقر والتخلف المتفشيان فيهم، وكذلك شعورهم بالخوف والاضطهاد وافتقارهم لقادة حكماء يجنبوهم ماجرى لهم في الماضي ومايجري لهم اليوم.

 مالم يذكره الموقعون على تلك الوثيقة أن خلافهم مع الشعب السوري لم يكن في جوهره لأسباب دينية، فقد عرف عن السوريين تسامحهم الديني والعرقي واحتضانهم للعديد من الهاربين من مجازر تعرضوا لها في بلادهم مثل الأرمن والشركس والشيشان وغيرهم. فالخلاف الجوهري مع العلويين، أو النصيريين كما هو اسمهم الأصلي، أنهم وبعد هربهم من منشأهم الأصلي في العراق إلى جبال الساحل السوري في العصر العباسي، خوفاً من الاضطهاد والقتل هناك على أيدي الشيعة والسنة معاً، أنهم تحالفوا مع كافة من غزا سورية بعد ذلك من مغول وصليبيين وفرنسيين. نعم تعرضوا لحملات انتقام واضطهاد في سورية، ولكن كان ذلك على يد الدولة العثمانية ومن قبلها الدولة الأيوبية، وهي حملات أتت رداً على محاولات أفراد منهم اغتيال رجال في الدولة مثل السلطان الناصر صلاح الدين وغيره. ومع ذلك، وبعد جلاء الفرنسيين عن سورية عام 1946، لم تسير حكومة (شكري القوتلي) الوطنية ولا من أتت بعدها الجيش إلى جبالهم للانتقام منهم لتعاونهم مع الاحتلال، بل عاملتهم كبقية الأقليات وفتحت لهم باب الدراسة والتحصيل العلمي والوظائف الحكومية والتطوع في الجيش، في حين كانت نخبتهم تتآمر مع فرنسا للوصول إلى الحكم عن طريق البعث والجيش معاً ليفعلوا بالشعب السوري مافعلوه في أيام صلاح جديد أولاً، ثم في عهد الأسد الأب والآن الابن: نهب البلد وهدم الحجر وحرق البشر.

 لقد استغل الغرب كما ذكرت قصر نظر اليهود من جهة وفقر وتخلف العلويين من جهة ثانية، وتعطش الاثنين لاقامة دولة، ليزجوا بهما في محرقة لامصلحة بها سوى للغرب المعادي لنا ولهم. ويشير المؤرخون المحايدون أن تباطؤ دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها انكلترا، قد حال دون إنقاذ الآلاف من اليهود في معتقلات هتلر قبل قتلهم، ولم يكن هناك تبرير لهذا التباطؤ حينها إلا أنه كان متقصداً. كما أن تباطؤ الغرب المتعمد بالتدخل في سورية اليوم، لايضر بالشعب السوري وثورته فقط، ولكنه يزيد من ضحايا العلويين أنفسهم والتي تجاوزت المئة الألف من خيرة شبابهم، ويزيد من شعور الكراهية الحقد بين الطرفين. وهو تباطؤ قد جر أيضاً أعداءاً آخرين للغرب إلى المحرقة السورية، وهم إيران والشيعة من كافة أنحاء العالم، وأيضاً الروس الذين تم توريطهم مؤخراً في أوكرانيا بعد توريطهم في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، ولايزال الغرب يعمل على توريط تركيا ولكن دون نجاح.

 في حين أن انكلترا لاتنكر وعد (بلفور)، فيبدو أن فرنسا قررت أن تبقي وعد (بلوم) سرياً، ولكن مايؤكد وجوده هو دورها في إقامة ورعاية الدولة العلوية في سورية فيما بعد. وكما ذكرت في سياق المقال، فيبدو أن ثنائية (الجشع والعداوة) ستبقى المحرك الرئيسي لسياسة الغرب اتجاهنا، وستبقى الطوائف والشعوب التي تعاني من الفقر والتخلف وانعدام القيادة الحكيمة ضحية لتلك الثنائية المدمرة. ويبدو أن ماجري لليهود والعلويين عبر التاريخ، ومايجري لهم الآن أو سيحصل في المستقبل، سيبقى هو نفسه مصير اللاعبين الصغار حين يتم الزج بهم في ملاعب الكبار من القوى العظمى لتحقيق مآربها.