الإكراه في القتل

الطيب عبد الرازق النقر

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

مما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن هناك عدة جرائم يتفاوت فيها تأثير الإكراه بحسب الفعل الذي جعل المكره يقدم على ارتكابه، هذه الجرائم ترتفع فيها العقوبة مع بقاء الفعل المحرم، والعلة في ذلك هو عدم وجود الإختيار الذي يمثل عنصر المسؤولية الجنائية، فجرائم السرقة والقذف واتلاف مال الغير، ترتفع فيها العقوبة عن الجاني المُكره، نظراً لأن هذه الجرائم لا يخر منها عماد المجتمع، ويتداعى بنيانه، فهي حتماً ليست كجرائم القتل والجرح التي ينعكس صداها على أمن المجتمع واستقراره، لذا لا يجوز التساهل معها مهما كانت درجة الإكراه، فالمُكْرَه الذي يتوعده أحدهم بالويل والثبور إذا لم يقدم على فعل ما يبتغيه منه، يجب أن يضرب الشخص المهدد عرض الحائط بوعيده ، ولا يلتفت لتهديد ذلك الباغى، بل يرفض ويلح في الرفض، ويفوض أمره لله ويصدح بذلك للغاشم المستبد الذي يروم منه أن يفدى نفسه بقتل آخر، أما إذا رضخ لتهديد  المُكْرِه وتشبث بالحياة، وقتل المجنى عليه لإستبقاء نفسه، فنجد أن الفقهاء قد اتفقوا على عقابهما معاً، ولكنهم اختلفوا في كيفية العقاب، فنجد أن مذهب المالكية والحنابلة والرأى الصحيح السائد عند الشافعية أن يقتص ممن أكره أحدهم  على قتل انسان، وممن أقدم على ارتكاب الجريمة، حتى يدرء عن نفسه القتل ويتقي شر رجل يصاوله بأفدح الخطوب، فعندهم"يقتل المُكرِه بالكسر أي لتسببه  كالمُكرَه لمباشرته"،  وذلك"لأن المُكْرِهِ تسبب إلي قتله بما يقتل غالباً، أشبه ما لو أنهشه حية، أو أسداً، أو رماه بسهم. والمُكْرَه قتله ظلماً لإستبقاء نفسه، فلزمه القصاص".

فالقتل فعل يفضي إلي الوفاة، ويجعل من حلّ به رهين رمسه، وقد انقطع ما بينه وبين الأهل والخلان، إذن هو فعل قد وجد من شخصين في واقع الأمر، مِنْ المُكْرَِه الذى باشر الفعل"كمضطر قتل إنساناً ليأكله فيقتص منه، ولأن الإكراه يولد في المُكرَه داعية القتل غالباً له ليدفع الهلاك عن نفسه، وقد آثرها بالبقاء فصارا شريكين"، هو و المُكْرِهِ الذي تسبب في وفاة المجني عليه بتهديده ووعيده الذي قصم ظهر من باشر القتل خوفاً وفرقاً، لأجل ذلك يجب القصاص على كلاهما.

ومذهب الحنفية  أن يقتصر القصاص على الحامل أي المحرض دون المباشر لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي اخرجه أحمد والطبراني وغيرهما :"رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولعل القول الذي سْلِمَ من عوارض العلل، وشُفِيّ من سطوة الأمراض، أن عفو الشئ عفو عن موجبه، وظاهر الحديث يجلجل بقول مفاده أن الفعل الذي نتج عن اكراه محض يترتب عنه العفو من تبعة ذلك الفعل لمن باشره، فهو لم يقدم عليه بمحض ارادته واختياره، على ضوء ذلك يجب أن يتحمل تبعة ذلك الفعل القاتل الحقيقى الذي حرضه على ارتكاب الجرم، وأسرف في تهديده، وغلا في وعيده، بأن يقتله شر قتله إذا لم يقتل الشخص الذي ينشد موته، ويرتجى وفاته، فصاحب التهديد هو الحامل على القتل بل هو القاتل الحقيقي، والآخر الذي باشر الفعل لا يعدو عن كونه مجرد آلة لصاحب الوعيد يحركها كيف يشاء، ولعلنا نجنح بعيداً عن شط الحقيقة إذا ذهبنا إلي أن إكراه الغاشم للجاني إكراه ملجئ لأنه كان بمقدوره أن يمتنع عن فعل يجعله يأكل كفيه حسرة، ويمضغ شفتيه ندماً، على ما اقترفته يداه، ولكنه لم يفعل إبقاء على نفسه.

 وهذا الرأى يتفق مع الرأى الضعيف في مذهب الشافعى، فلو أن شخصاً"أُكْرِهَ على قتل غيره بالقتل لا يُرَخّص له لإحياء نَفْسِهِ لأن دليل الرُّخصة خوف التلف، والْمُكْرَهُ عليه سواءُ في ذلك فسقط الْمُكْرَهُ ولأن قتل المسلم بغير حقّ ممّا لا يُستباح ُ لضرورةٍ ما، فكذا بالإكراه وهذا لا نزاع فيه"، وعند أبى يوسف رحمه الله"لا يجب القصاص عليهما، ولكن تجب الدية على الْمُكِْرِه وعند زُفَرَ رحمه الله يجب القصاص على الْمُكْرَِه دون الْمُكْرَه".

ونجد أن معظم القوانين الوضعية في البلدان العربية قد أخذت برأى الجمهور، فهى تقول بالتسوية بين من باشر القتل، وبين من أمره أو حرضه أو دفعه دفعاً لإقتراف جرمه المشهود، "فالمادة أربعون من قانون العقوبات المصري نصت في فقرتها الأولى أن كل من حرض على ارتكاب الفعل المكون للجريمة يعد شريكاً في الجريمة، إذا كان الفعل قد وقع بناء على هذا التحريض، وتنص المادة واحد وأربعون من هذا القانون على أن كل من اشترك في جريمة فعليه عقوبتها، إلا من استثنى قانوناً بنص خاص، وعلى ذلك فالقانون المصري يجعل من المحرض شريكاً في الجريمة مهما بلغ أثره فيها"، و طرق الإشتراك تتعدد صورها وأشكالها، فكل من حرض أو ساعد أو اتفق أو أزجى يد في سبيل تحقيق تلك الجريمة النكراء يشارك القاتل ويُعْدُ من عترة  القاتل، و الآمر بالقتل فهولاء جميعاً تواطئوا على اهدار دم القتيل وسلب حياته، فحرىُّ أن يساوى بينهم في العقوبة والنكال، ولعل هذا يتفق مع جوهر الشريعة فقد روى سعيد بن المسيب في الحديث الذي أخرجه البيهقي في سننه الكبرى عن أبى هريرة رضي الله عنه روى حديثاً مفاده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقى الله يوم القيامة مكتوب على جبهته آيس من رحمة الله"، ولعل من أظهر وسائل التحريض الوعد والوعيد، وبذل المحرض ما له من سلطة أو جاه على المباشر حتى يحقق له مبتغاه.