رئيس أركان الجيش الإيراني في تركيا
"معاً لمواجهة الإرهاب" بهذا العنوان صدّرتْ صحيفةُ "جمهوري إسلامي" مقالها الرئيس بمناسبة زيارة رئيس الأركان الإيراني اللواء محمد باقري الذي سافر إلى تركيا في أول زيارة لمسئول إيراني على هذا المستوى منذ العام 1979.
لا شكّ بأنَّ هذه الزيارة شكّلت الزيارة محطّة مهمّة في العلاقات بينَ البلدين ولتدشين تنسيق غير مسبوق من خلال التعاون العسكري والأمني إزاء القضيتين الكردية والسورية، بعد تسريبات صحفية إيرانية عن زيارة مرتقبة لوزير المخابرات الإيراني إلى أنقره، بعدَ سنواتٍ عجافٍ تمخّضَ عنها سيلٌ من الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، تخللها سعي طهران لبناء مجال حيوي على حساب العالم العربي وتركيا، إلى جانب اتهام تركي مباشر لإيران بإثارة النزاعات المذهبية، وممارسة سياسة عدوانية تجاه دول الإقليم من خلال توظيف الأزمتين العراقية والسورية .
حسب الفهم الإيراني فإنّ هذه الزيارة تمثل فرصة تاريخية مهمة نتيجة تزامنها مع مجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية التي بدأت تلقي بتداعياتها السلبية على الأمن القومي في إيران؛ وفي مقدمتها الحالة الصراعية التي بدأت تتصاعد بعد وصول إدارة (ترامب) التي شرعت بفرض عقوبات متعددة الأشكال على طهران، وزيادة احتمالية إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي من جديد، وهذا مما يرشّح عودة العلاقات بين واشنطن وطهران إلى دائرة الصراع من جديد، وما زاد من مغزى الزيارة تزامنها مع فترة أثّرت فيها المستجدات الإقليمية بظلالها، ولا سيّما مع المملكة العربية السعودية، وموضوع الحصار على قطر الذي وظفته إيران ببراعة تامّة، هذا إلى جانب بيئة داخلية إيرانية باتتْ تعاني من مشاكل اجتماعية وأمنية وحدودية استدعت تدخل الجيش والأجهزة الأمنية في كثير من الحالات .
تشابكتْ هذه المتغيرات وغيرها مجتمعةً، لتضعفَ إيران داخلياً وخارجياً، وزاد من ذلك زيادة وتيرة العمليات التي تقودها التنظيمات والمليشيات المعارضة التي زادت قوتها وأدوارها، وأضعف من قدرة إيران على حماية أمن حدودها، وهذا برز من خلال مؤشر زيادة أنشطة تنظيم (داعش) وحزب العمال الكردستاني وقدرته لتنفيذ عمليات في العمق الإيراني، إلى جانب تصاعد وتيرة نشاطات أجهزة الاستخبارات الأجنبية ولاسيّما المخابرات الأميركية والموساد الإسرائيلي وغيرها، مما راكم من شكوك الإيرانيين على أن هناك مؤامرة دولية وإقليمية يتم تدبيرها لإيران، خاصة مع إعلان واشنطن الصريح عن دعمها لإجراء انقلاب سلمي في إيران .
شهدتِ العلاقات التركية الإيرانية حالات من التذبذب، وعدم الاستقرار منذ الثورة الإيرانية عام 1979، على الرغم من التفاعل الاقتصادي الكبير، بيد أن انخفاض مستوى العلاقات والتعاون العسكري شكل الحلقة الأضعف في علاقات أنقره وطهران . ويعود ذلك لجملة من الأسباب المتعلقة بطبيعة التحالفات الإقليمية والدولية، ووجود تركيا ضمن نظام الدفاع الغربي بصفتها عضو في الناتو ودور المتغير الدولي الحاضر بقوة في المعادلة العسكرية التركية، إلى جانب التضارب في تعريف الأمن، وتضارب الأهداف والاستراتيجيات، وموقف المؤسسة العسكرية والأمنية التركية المرتابة والمتخوفة من النظام الإيراني، كذلك علاقات إيران المشبوهة مع حزب العمال الكردستاني.
لا شكّ بأنَّ إستراتيجية إيران لنسج علاقات جديدة مع المؤسسة العسكرية والأمنية التركية يندرجُ ضمن إطار سعيها الحثيث للتخلص من عزلتها الإقليمية والدولية والحصول على شهادة وحسن سلوك في مجال مكافحة الإرهاب، فضلًا على أنها إستراتيجية لفك عرى التحالف الإسلامي الذي شكلته الرياض .
حاولتْ طهران التعامل ببراعة مع القضايا الإقليمية المستجدة لتكون المدخل للتقارب مع أنقره؛ وفي مقدمته رفض الجانبين القاطع الاستفتاء المقرر في إقليم كردستان العراق في سبتمبر من هذا العام، حيث تجاوز الرفض إلى حد التهديد بعمل عسكري مشترك، بين البلدين على اعتبار أن هذا الاستفتاء يهدد الأمن القومي الإيراني والتركي على حد سواء، إلى جانب تأثيره الخطير على استقرار المنطقة وأمنها، وهو ما يعني وجود خشية حقيقية لدى الجانبين من أن تنعكس نتائج الاستفتاء على القضية الكردية في تركيا وإيران على اعتبار أن أكراد البلدين قد يطالبون لاحقاً بمثل هذا الاستفتاء، مما يهدّد وحدة الدولتين الجغرافية والديموغرافية، في ظل الصمت والدعم الدولي غير المعلن لما يجري .
كذلك رفعتْ طهرانُ شعار التنسيق والتعاون العسكري والأمني ضد «حزب العمال الكردستاني» بشقيه التركي والإيراني، ويأتي هذا الاتفاق بعد سنوات من دفع تركيا لكلف أمنية باهظة، أسهمت في اتهام تركية لإيران بدعم «حزب العمال الكردستاني» وحليفه السوري «حزب الاتحاد الديموقراطي» وجناحه العسكري «وحدات حماية الشعب» كورقة رابحة لإضعاف تركيا من خلال استهداف أمنها واستقراها، وهو ما كانت إيران تساوم أنقره عليه من خلال إستراتيجية تخدم الملفات التي برعت إيران بها .
في مقابل ذلك عظّمت وسائل الإعلام الإيرانية المحسوبة على الحرس الثوري الإيراني من شأن تكثيف التعاون الإيراني مع تركيا في موضوع مناطق خفض التوتر التي أنشئت في سوريا، وتحديداً في الشمال حيث محافظة إدلب التي تحوّلت إلى قبلة للمجموعات المسلحة على رغم من سيطرة «جبهة النصرة» مؤخراً على كامل المحافظة تقريباً، ويأتي تدشين هذا التعاون بعد سنوات من الاتهامات المتبادلة التي وجهتها كل دولة إلى الأخرى .
لا شكّ بأنَّ التعاون المعلن لا يعني بأيِّ شكلٍ أنَّ البلدين قد نجحا في تصفير المشاكل بينهما؛ فالعواملُ التي تغذّي التوتر الحاصل في العلاقات التركية الإيرانية ما زالت موجودة، ولا يمكنُ تجاوزها بأيّ حالٍ من الأحوال، لكن يمكن القولُ أنَّ المتغيرات الإقليمية والدولية الطارئة، وحالة التوتر السياسي الحاصل في العلاقات البينية الخليجية، إلى جانب التوتر الحاصل في علاقات تركيا مع المجموعة الأوروبية وغيرها، قد أسهمت في دفع الدولتين لبناء مقاربة مؤقتة بما يخدم المصالح المشتركة في العلاقات التركية الإيرانية، وقد يكونُ التعاون العسكري والأمنيّ هو البداية لتدشين المسار الجديد.
د. نبيل العتوم
رئيس وحدة الدراسات الإيرانية
مركز أميه للبحوث والدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 735