أنقذوا المصالحة من محمود عباس
الذين صفقوا، أو رحبوا بحرارة، لبيان المصالحة الذي صدر في القاهرة بين وفدي حماس وفتح، عليهم أن يتابعوا بالحرارة نفسها التصريحات التي صدرت وتصدر عن محمود عباس وكبار معاونيه وممثليه. لأنها كلها ذاهبة باتجاه تخريب المصالحة، وتخييب آمال من يظنون أن المصالحة بأي ثمن أفضل من الانقسام، أو يعتبرونها ستخرج "الزير من البير".
محمود عباس جاء إلى المصالحة، أو في الأدق، إلى القاهرة، كارهاً مضطراً بعد أن كان مندفعاً بكل قواه، بل كالأسد الهصور، لينقض على قطاع غزة وفرض شروطه على حماس والجهاد وقطاع غزة. وبهذا ينهي الانقسام. وفوجئ بالتحرك المصري في استدعاء وفد من حماس وإجراء محادثات ناجحة بينه وبين المخابرات العامة المصرية بعد قطيعة ممتدة. ثم انضمام محمد دحلان إلى ما جرى من تفاهمات. الأمر الذي وجه رسالة شديدة اللهجة إلى محمود عباس تقول له: تذكر أنك لا تستطيع أن تتجاهل مصر، وتتصرف ضد قطاع غزة من دون مشاورتها وإشرافها، حتى لو كان دونالد ترامب أو نتنياهو يدعمانك.
هذه الرسالة هي التي جاءت بمحمود عباس إلى القاهرة. ومن ثم المحادثات بين وفده ووفد حماس، و"الوصول" إلى ما صدر من بيان أعلن الاتفاق باتجاه المصالحة. وقد بالغ البعض بالترحيب به من دون الأخذ بعين الاعتبار أن محمود عباس لا يريد المصالحة إلاّ وفقاً لشروطه، التي هي شروط ترامب ونتنياهو والرباعية. أما الدليل على ذلك ما صدر من تصريحات من قبل عباس ومعاونيه في أثناء المحادثات بين وفدَيْ فتح وحماس، وبعد صدور البيان المشترك. وذلك بالرغم من أنها عادت لتخفت، بعد ضغوط مصرية لكي تنجح المحادثات ولو بخطوة أولى، ولبعض الوقت.
على أن تلك التصريحات قد خفتت من دون التخلي عنها من جانب محمود عباس. فما هي تلك التصريحات وما معناها؟ إنها اشتراط وضع يد سلطة رام الله على سلاح المقاومة وأنفاقها وأمنها في قطاع غزة، تحت شعار: سلاح واحد (سلاح السلطة)، وبقرار واحد (محصور عملياً بقرار الرهان على أمريكا والمفاوضات مع العدو) وبأجهزة أمنية واحدة (أجهزة التنسيق الأمني مع العدو). وهو ما يلتقي مع شروط نتنياهو وغرينبلات مندوب ترامب والرباعية.
إن تسليم السلاح والأنفاق والأمن لأجهزة التنسيق الأمني مع العدو جريمة كبرى وخيانة عظمى. بل هو تسليم لقطاع غزة للاحتلال والاستيطان كما هو الحال في الضفة الغربية. وخصوصاً بعد الذي وصلته المقاومة من قوة استراتيجية في معادلة الصراع مع العدو. وقد أثبتت جدارتها بالانتصار في ثلاث حروب.
وينقل يحيى السنوار على لسان قائد كتائب عز الدين القسام محمد ضيف قوله: "إذا فكر العدو بارتكاب حماقة ضد شعبنا ومقدساتنا فإننا سنكسر جيشه كسراً لا تقوم له بعده قائمة". وهذا الكلام المسؤول يقوله ضيف وينقله السنوار وهما وكتائب عز الدين القسام وسرايا القدس على خط النار في مواجهة الحرب في أية لحظة.
فيا لسياسة محمود عباس حين يشترط على المصالحة أن تُسَلَّم أسلحة المقاومة في قطاع غزة لأجهزته الأمنية التي ستسلمها بدورها إلى الكيان الصهيوني أو تتلفها. ويا لسياسته الرامية إلى تطبيق التنسيق الأمني على قطاع غزة كما يحصل في الضفة الغربية. أي عودة الاحتلال والاستيطان إلى القطاع بعد أن يأمن من مقاومة مسلحة كما هو آمن منها في الضفة الغربية.
ثمة مشكلة، مضاعفة هنا، مئات المرات، حين يريد محمود عباس أن يضع يده على سلاح المقاومة ويصادره لحساب "سلاح واحد" و"قرار واحد" و"أجهزة أمنية واحدة". وذلك من ناحية الاختلاف كماً ونوعاً بين سلاح المقاومة وأنفاقها في قطاع غزة والسلاح الذي صادره من فصائل المقاومة، بالقوة والخداع، في الضفة الغربية بعد توقيعه على الاتفاق الأمني وبناء أجهزة أمنية أشرف عليها، من الألف إلى الياء، الجنرال الأمريكي- الصهيوني كيث دايتون. فسلاح المقاومة وأنفاقها في قطاع غزة أحدث معادلة استراتيجية استثنائية في التاريخ الفلسطيني بين الشعب الفلسطيني والجيش الصهيوني. والدليل ثلاث حروب كبرى شنها العدو وفشل فيها. وإذا أضفنا ما ألمح إليه محمد ضيف قائد كتائب عز الدين القسام من مستوى وصلته المقاومة استعداداً للمواجهة القادمة، فسيكون الاقتراب من هذا السلاح باتجاه مصادرته جريمة كبرى لا تغتفر تفوق ما حدث في الضفة الغربية مئات المرات.
ولهذا فإن الذين فرحوا ببيان المصالحة، والذين طالما سعوا إليها، وبذلوا الجهد الجهيد لتحقيقها، واعتبروا الانقسام كارثة الكوارث، عليهم، نعم عليهم، أن يقولوا لعباس، نريد مصالحة مع الحفاظ على سلاح المقاومة وأنفاقها وأمن ذلك السلاح وتلك الأنفاق، وقبلهما أمن أبطال المقاومة. نعم عليهم أن يقولوا له ابحث عن صيغة تؤمن وحدة السلطة، ولا تقترب من السلاح والمقاومة. طبعاً لا أحد يجرؤ أن يطالب بصيغة إيجابية بمعنى أن يكون محمود عباس جزءاً من مشروع المقاومة في فلسطين. لأنه يرفض ذلك رفضاً يصل إلى حد التطرف الجنوني. ولكن لا مصالحة مع محمود عباس إذا لم يقبل بالكف عن اشتراط وضع يده على سلاح المقاومة. فإما صيغة لتعايش، لتقاطع، لتوازٍ أو لتجاور بين السلطة والمقاومة وإما لا مصالحة.
إن الخطوات التي اتخذتها حماس بتقديم كل ما له علاقة بالسلطة في قطاع غزة لحكومة رامي الحمد الله عدا الاقتراب من سلاح المقاومة وأنفاقها وأمنهما يجعل كرة المصالحة في ملعب محمود عباس وفتح. بل في ملعب كل من يريدون المصالحة. ومن ثم يجب أن تتجه كل الضغوط على محمود عباس ورامي الحمد الله ووفد فتح للمفاوضات أن يكفوا عن محاولة المسّ بسلاح المقاومة وأنفاقها وأمنهما في قطاع غزة، وأن يجدوا صيغة للمصالحة تجمع بأي شكل بين المتناقضين: سلطة رام الله مع المقاومة في قطاع غزة. وإلاّ فهم مسؤولون عن فشل المصالحة وعودة الانقسام لأن فشل المصالحة وعودة الانقسام خيرٌ على الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية ومستقبل الصراع مع العدو الصهيوني، ألف مرّة، على مصادرة السلاح وتدمير الأنفاق وإرسال المقاتلين إلى التقاعد، أو إلى القتل المجاني، كما حدث للمقاومين في الضفة الغربية بعد 2006/2007.
وبالمناسبة إن ما وصله وضع المقاومة في قطاع غزة يجب أن ينظر إليه باعتباره ركناً أساسياً في الأمن القومي المصري والأمن القومي العربي والإسلامي.
الشيء الذي يصعب على الفهم فعلاً، ذلك الإصرار من قِبَل محمود عباس ومن يؤيده على التبرع المجاني مرة أخرى بمصادرة سلاح المقاومة. وذلك بعد تجربة مصادرة سلاح المقاومة في الضفة الغربية. ففي المرة الأولى ذهبت حسابات محمود عباس إلى أنه سيُكافأ على ذلك وعلى ما سيقدمه من تنسيق أمني بإعطائه "الدولة المنشودة" فكان المقابل المزيد من استيطان الضفة الغربية حتى قُضي على وهم "حل الدولتين"، وقضى تماماً على "اقتسام القدس" من خلال المفاوضات والتسوية. فقد اثبت عباس أنه "يجرب المجرب" ولا أحد، ولا شيء معاكس، يمكن أن يقنعه بغير ذلك. وأثبت أنه تاجر فاشل يشتري "سمكاً في بحر" ولم تصله سمكة واحدة منه. ويستمر في هذه التجارة الخاسرة دائماً. ولكن يبدو أن ثمة شيئاً آخر يصعب على الفهم يمثله الذين ما زالوا يؤيدونه بمطالبته بنظرية "سلاح واحد" شرطاً للمصالحة ولم يلحظوا أن ذلك يعني عودة للانقسام. فمن يريد المصالحة عليه أن يضغط على عباس ضغطاً مهولاً ليتخلى عن المطالبة بوضع يده على سلاح قطاع غزة، أولاً. أما ثانياً فلا مصالحة إذا لم تتجه فتح وفصائل المقاومة جميعاً لمواجهة الاحتلال والاستيطان اللذين يستشريان كل يوم في الضفة الغربية والقدس (ولا سيما في الخليل في هذه الأيام(.
وها هنا، أيضاً، يجب أن تتجه البوصلة إلى الضغط على محمود عباس ومن يؤيده. كما تتجه إلى الموقف الفلسطيني عموماً من أجل مواجهة الاحتلال والاستيطان. لأن هذا هو الخطر الداهم الذي يغيّر الوقائع على الأرض الآن، ولا أهمية للمصالحة إذا لم تتجه لدحر الاحتلال وتفكيك الاستيطان، وبلا قيد أو شرط. وهذا ما يمكن أن يحققه اجتماع قوة المقاومة في قطاع غزة، مع الانتفاضة الشبابية- الشعبية الشاملة، في القدس والضفة الغربية، مع المصالحة، ومع الشعب الفلسطيني كله.
وسوم: العدد 743