مراجعات (3) النخب السورية و تعدد المفاهيم
مقدمة:
كثيرا مايشبه المجتمع في الدولة الواحدة بالبحيرة من الماء التي تمتاز من سواها؛ بخلقها، و بحركة الحياة فيها، و بالانسجام الحاصل فيها، أو بعدمه بعامة.
وبقدر ماتكون منسجمة بين مكوناتها، بقدر ماتكون هادئة و ناعمة، وداخلة في دائرة المفيد. و عكس ذلك يكون الاضطراب و التصادم بين تلك المكونات، و هذه مسألة يقاس عليها في المجتمعات كافة، مع الأخذ بالاعتبار العوامل الخارجية، التي تمتد من شرق أو غرب إلى الداخل، فتشكل محرضا عاما في دائرة المجتمع الواحد، الذي سرعان مايسوده الصخب بسبب من تلك التدخلات، حيث في لحظة ما، و هي اللحظة الأخطر، في حياة تلك المجتمعات يكون الانفجار، فتتحول تلقائيا إلى الفوضى، فتنهار البنى الاجتماعية، و تدخل في خانة الصراع فتصعب السيطرة.
و سورية من حيث الواقع منذ الاستقلال و حتى مابعد 2011م. لاتخرج عن هذه الدائرة؛ فمقدماتها الأولية التي أعقبت الاستقلال هي التي أدت إلى نتائج مابعد 2011 و كانت جزءا منه. فقد تحولت الأوضاع الاجتماعية و السياسية الاقتصادية، التي كانت في أثناء الاستقلال شبه راكدة إلى متحركة و من ثم إلى متشابكة؛ تحتدم فيها الصراعات، حتى كان ما كان منها؛ و سبب كل ذلك باختصار: تعدد المفاهيم و تضادها، و من ثم تصادمها.
وقد كانت المفاهيم يومئذ صادرة عن تعدد الرؤى و تداخلها. و مهما قيل عن الرؤى فإنها تنشأ و تتكون عادة في دوائر ثقافية شبه مغلقة؛ فتعدد بتعدد المكونات، و تختلف باختلافها، وذلك هو أصل ماحدث، و ما سيحدث حتى بعد هذا التاريخ. الأمر الذي تطلب منا التفصيل فيه: بتجرد، و بصدق، و بموضوعية.
أولا - المفهوم:
يعد المفهوم نتاج في العلاقة، بين اثنين أو أكثر. و له خصوصية القربى. و نسيجه المعرفي أكثر خصوصية. و عندما تأخذ به العصبة أولو القوة تكون أكثر تمكنا، و أكثر قدرة على التحكم و السيطرة في المواقف، و على التحرك في اللحظة الحرجة. و هويته ذاتية جدا، و انتماؤه و التزامه بصدران عن تلك الذاتية، التي في لحظة ما تتحول إلى قوة مضادة.
ثانيا – تعدد المقاهيم:
تتعدد المفاهيم بتعدد المكونات التي تغطي رقعة المجتمع الواحد، و بتعدد الثقافات التي تصدر عنها تلك المفاهيم، و بتعدد الهموم و المشكلات التي تشغل ناس ذلك المجتمع، و بتعدد القوى الفاعلة على الساحتين الداخلية و الخارجية، و بتعدد الرؤى التي تصدر عن ذلك. و التي هي نتاج المدارس التعليمية ( القديمة و الحديثة) و التي يجمعها الصح و الخطأ في خانة واحدة. بالرغم من تباعدها، و صعوبة التقائها.
المدارس التعليمية:
توصف المدارس في سورية بأنها قديمة و حديثة. و القديمة منها نوعان:
النوع الأول - المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك الطوسي سنة447هـ.
النوع الثاني - بالمدارس التبشيرية التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر الميلادي. وقد كانت واسعة الانتشار في بلاد الشام بخاصة.
و المدارس النظامية و المدارس التبشيرية متضادتان إلى درجة كبيرة جدا فالأولى إسلامية خالصة و غايتها الأساس تتمثل بتطهير المجتمع الإسلامي مماعلق به من خليط الثقافات التي دخلت إليه عن طريق الغلاة أو الفلسفات الإغريقية و الهندية و الفارسية، و قد كانت يومئذ شبه مسيطرة. و الثانية تبشيرية جدا و غايتها الأساس تتمثل بعودة ناشئة المسلمين إلى الدين المسيحي، أو بتلقينهم المفاهيم المسيحية الكنسية. و التي عدت في حينها طليعة الاستعمار إلى البلاد الإسلامية بعامة.
و هاتان المدرستان النظامية و التبشيرية لم تكن نشاطاتهما محدودة. فقد كانت كل واحدة منهما تسعى للسيطرة على المجتمع . و في عصر الاستعمار أحرزت المدارس التبشيرية قصب السبق على المدارس النظامية، بسبب من تبعيتها للاستعمار و بسبب من النخب الناشئة التي تربت في أحضانها، و بسبب من المدرسة الحديثة، التي كانت أكثر قربى من المدارس التبشيرية التي جمعتها معها ( وحدة المنهج ) فكلاهما تمتحان من إناء واحد. أما المدرسة الدينية التي وجدت نفسها مشمولة بقوانين العزل، وقد وصفت بالرجعية و المتخلفة، فقد كانت الأضعف بالرغم من الروح الجهادية التي تعمر نفوس طلبتها، الذين كانوا عصاميين في نشأتهم، و في كفاحهم من أجل البقاء، و في مواجهتهم تيار المبشرين بعامة.
وهذه المدارس الثلاث: النظامية و التبشيرية و الحديثة كانت حواضن النخب الناشئة منذ مطلع القرن العشرين، و حتى نهايته ولم تتوقف، و إذا ما أضيف إليها الكتاب ( المترجم) أو ( المؤلف) الذي أصبح متوافرا بكثرة في المكتبات العامة، و على الأرصفة التي كان يملؤها الباعة المتكسبون؛ نكون أمام أربعة مدارس هي على التوالي: المدرسة النظامية، و المدرسة التبشيرية، و المدرسة الحديثة، و المدرسة الحرة التي كان أستاذها المطلق( الكتاب) الذي يعد الأخذ منه في أدنى مستوياته علميا، و كانت تعد الأخطر على الناشئة، بسبب الثقافة السائبة التي جمعت بين الخبيث و الطيب في ماعون واحد. فالأبناء، لقنوا منها الافكار الوجودية و السريالية و الهروبية، و كذلك الأفكار الحداثاوية و العلمانية و العولماتية، و هي أفكار إضافتها إلى الخزين الثقافي أفضى إلى مافيه الشرذمة و الضعف، و هو أمر انعكس سلبا على الواقع السوري سيما في النصف الثاني من القرن العشرين،وقد أصبح بعض تلك النخب إن لم نقل أكثرها جنودا مجندة مع الاستعمار الذي وجد ضالته فيهم، فعمل على تأهليهم ، و تفعيل أدوارهم، و تمكينهم من أن يكونوا حكاما لشعوبهم!!
الثقافة الاجتماعية:
يمكن القول: أن كل مدرسة من المدارس الآنفة الذكر أنشأت ثقافة خاصة بها، اتسمت بسماتها، و تخصصت بخصوصياتها، و من ثم تبنت أهدافها، و عملت من اجل تمكينها. فعن المدرسة النظامية أخذ مفهوم الثقافة الإسلامية ذو الصبغة الأصولية، و عن المدرسة التبشيرية أخذ مفهوم الثقافة الكنسية المسيحية ذو الصبغة الليبرالية و العلمانية، و عن المدرسة الحديثة أخذت المفاهيم التي تجمع بين خواص المدرستين التبشيرية و النظامية فتولدت منها الثقافات الهجينة التي تجمع بين الخواص المتعددة الجنسيات في خانة واحدة، أما أولئك الذين أخذوا ثقافتهم من المكتبات العامة أو من على الأرصفة فتعددت مشاربهم بتعدد قراءاتهم، وقد كانت ثقافاتهم أكثر هجنة من سواها.
و الثقافات الهجين و هي تجمع بين أنصاف الثقافات المتداخلة و المتنابذة أدت إلى هلهلة في النسيج الاجتماعي و إلى اضطراب و فوضى في أوساطه، فضلا عن التداخل الفكري الذي أدى إلى الخلط ، الذي كان له أثره السيء. على أكثر من صعيد؛ و على الأخص الأصعدة: الفكرية و السياسية و الاجتماعية. التي كانت تتطلب صدقا و دقة و امانة و موضوعية.
التضاد بين الثقافات:
عندما ظهرت المشكلة السورية في أعقاب الاجتياح الفرنسي لسورية و لبنان في أعقاب الحرب العالمية الأولى كانت النخب السورية هي المعنية أولا و آخرا بمواجهة الاستعمار و بقيام الدولة الوطنية المستقلة ذات السيادة، و بقيادتها كذلك. و كانت مصالح السوريين جميعا تقتضي تقديم ( التفاهم) على ( اللاتفاهم ) و إبعاد الأفكار العدائية التي كان يدندن بها الاستعمار و منها: ( الأفكار الطائفية ) التي لها خزينها الثقافي الخاص بها و كذلك ( الأفكار الليبرالية و العلمانية ) التي كان لها حضورها الاجتماعي و الذي لايبعد كثيرا عن الثقافة الكنسية. لكن ذلك لم يحدث؛ فبدلا من الانتباه لمخاطر تلك الثقافات، و الاعتصام بالثقافة الأم ذات الخصوصية الوطنية المحضة فقد دخلت معها في خانة التضاد وذلك من خلال مصطلح ( الرجعية ) الذي ألحق بالإسلاميين، و مصطلح ( الحرية ) الذي قذفته إليهم الليبرالية الغربية.
4- الخاتمة:
آ- إن نخب الهجين برؤاها و سلوكها المنحرف، و قد أصبحت جزءا من الصراع، باتت في حاجة إلى إعادة نظر في ثقافتها بعامة فهي التي جعلت المثقف المعاصر يحيد عما يجب أن يفعله فيدخل في خانة أعدائه طوعا؛ بل و ينتسب لهم بالرعم من الفواصل الثقافية التي كانت تفصل بين تلك النخب و هي فواصل كان ولايزال ينتشر على أطرافها الموانع التي يصعب اجتيازها على ( المنتمي ) و (الملتزم ) اللذين يحول انتماؤهم و التزامهم دون اجتيازها. و ذلك بسبب من خلط في المفاهيم، و من بعد عن الأصول، و من أخذ عن المشارب الملوثة!!!
ب- إن نخب الهجين هي التي كانت سببا في الشق و الشرذمة
فتعددت الشقوق و كثرت الشراذم إلى درجة جعل أمر لقائها متعذرا بالرغم من وحدة المصير التي تنتظر الجميع،
وهذا التضاد و هو تضاد قاتل بات يتطلب اليوم و أكثر من أي وقت مضى ضرورة البحث في حيثياته و معرفة أبعاده و خفاياه و ماهو عليه في سر أو علن.
و معرفة ذلك يعد بمثابة المقدمة الأولية لمعرفة مايجب فعله على الصعيدين الفردي و الاجتماعي.
ج- إن نخب الهجين هي التي سارعت إلى الدخول في الصراع
ضد الإسلاميين، وذلك منذ لاستقلال عن فرنسا، و خلال المراحل المتعاقبة، التي مرت بها سورية في ستينيات و سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي. و صراعها مع الإسلاميين، جعلها تغرد خارج سربها، و هي مسألة في حاجة إلى مواقف أكثر مسؤولية و أبعد بصرا من كل ماسبق؛ بل إلى إعادة نظر في المفاهيم و القناعات، و في الرؤى التي تشكلت في وقت ما، ثم تكشفت بعد عن أخطاء قاتلة في التربية و السلوك، و التي عدت و بشكل قاطع الأساس في كل ماحدث في سورية المعاصرة و حتى اليوم!!!
أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى
رئيس وحدة الدراسات السورية
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 744