العقاد وصلاة الجمعة

حينما دسَّ حسين أحمد أمين على محمود محمد شاكر!

أثار بعض الأدباء الغبار من جديد حول شخصية العملاق/ عبّاس محمود العقّاد؛ فاتهموه؛ بأنه لم يكن يصلّي؛ وبأنه كان يقيم ندوته الأسبوعية الشهيرة صبيحة يوم الجمعة، ولا يقوم لصلاة الجمعة عند حلول وقتها!

ومن أسفٍ؛ أن بعض الأقلام تلقَّفت هذا الكلام؛ فصدَّقته؛ وقامت ببناء نتائج خطيرة عليه؛ وأرادت الترويج لمثل هذا الكلام؛ وتناست أن هناك قدراً من العقل في هذه القضية؛ لا بد أن نحتكم إليه؛ وأول هذه البدهيات العقلية؛ أنْ نسأل معاصري الأستاذ/ العقاد؛ ومَن ارتادوا صالونه؛ مِن الثقات العدول المشهود لهم بالعلم والخلق والمروءة والفضل.

شهادة(أبو همّام)

ومن هؤلاء الكبار الأعلام شهود صالون العقاد أصحاب الشهادات؛ الدكتور الراحل/ عبد اللطيف عبد الحليم(أبو همّام)(1945-2014م) الذي كان يواظب على حضور صالون العقّاد حتى رحيل صاحبه؛ ذكر في إحدى الندوات؛ ردّاً على هذه الأقلام التي لم تر العقاد؛ ولم تشهد صالونه؛ فاتهمته بما ليس فيه؛ قائلاً في شهادته التاريخية: "إنَّ صالون الأستاذ/ العقّاد كان يبدأ صبيحة يوم الجمعة، وينتهي قبل الصلاة؛ وأنه صلّى الجمعة كثيراً مع العقّاد"!

شهادة ناصر الأسد

 وهناك شهادة العلاّمة الأردني الدكتور الراحل/ ناصر الدين الأسد؛ وكان من رواد صالون الأستاذ/ العقّاد؛ ثم من مرتادي ندوة الأستاذ/ شاكر بعد رحيل العقاد؛ فقد نفى في حوارٍ لي معه منشورٍ بجريدة(الشعب)المصرية قبل عقدٍ من الزمان؛ كل هذه الاتهامات؛ فقال: "إنني لا أتصور كاتباً عملاقاً؛ بحجم العقّاد؛ أخلص لبحوثه الإسلامية؛ حتى صارت العمدة؛ وتلقَّفتها الناس ثقةً في صاحبها؛ إلاّ وهو من أصحاب المجاهدة بالنفس، والطاعة، والقربي إلى الله؛ وإلاّ؛ فكيف يأتيه مددُ السماء؛ وهو يُنْكِر ربَّ السماء؟! فالقول الفصل؛ هو أن الأستاذ العقّاد كان يُصَلِّي ويصوم ويحج؛ ولا ننسى أنه؛ رجلٌ محسودٌ؛ وأعداؤه أكثر من محبيه وعارفي فضله وحجمه؛ لذلك؛ دسُّوا له مثل هذه التلفيقات والتخريقات والإساءات؛ وهو منها براءٌ"!

على أن ما يتكئ عليه هؤلاء في اتهاماتهم للعقاد؛ هو حوار كان قد أجراه الكاتب اليساري/ حسين أحمد أمين مع الأستاذ/ محمود محمد شاكر، وهو منشور في كتابه(شخصيات عرفتها) ص 85) من الكتاب؛ قال فيه الأستاذ/ محمود شاكر؛ بحسب رواية حسين أحمد أمين عن العقاد: " ما يُحَيِّرني منه هو موقفه من الإسلام، فهو في مجالسه الخاصة وندواته الأسبوعية التي حرصتُ على حضور بعضها، كان يبدو صريح الإلحاد، صريح الاستخفاف بالعقائد، وقد تبدر منه فيها من التعابير ما يصدم مشاعر بعض جُلاّسه... ومع ذلك فما أكثر ما كتبه من كتب ومقالات في نصرة الإسلام والطعن على المستشرقين الطاعنين فيه، بل والتهجم على أقباط مصر، كما في المقالات التي كتبها لصحيفة "الدستور" عامي 1908 و1909م، وهو لا يزال دون العشرين.. ثم "العبقريات" المشهورة التي بدأت بعبقرية محمد عام 1942 – أثر العرب في الحضارة الأوربية – الفلسفة القرآنية – الديمقراطية في الإسلام – فاطمة الزهراء – بلال – أبو الأنبياء الخليل إبراهيم – الإسلام في القرن العشرين: حاضره ومستقبله – مطلع النور وطوالع البعثة المحمدية – حقائق الإسلام وأباطيل خصومه- التفكير فريضة إسلامية – المرأة في القرآن الكريم – الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين – الإنسان في القرآن الكريم – ما يقال عن الإسلام – الإسلام دعوة عالمية... مثل هذا الكم الضخم دليل على عمق انشغال فكر الرجل بالإسلام، وربما على إخلاصه في الإيمان به، وامتعاضه من أي مساس به يأتي من قبل الغرب ومستشرقيه. وهو كمٌ لا يمكن الاقتصار في تفسيره على القول بأن الثلاثينيات – عقب الأزمة الاقتصادية العالمية التي مسّت آثارها مصر، وعقب اشتداد ساعد جماعة الإخوان المسلمين وانتشار تأثيرها – شهدت تحولاً ملحوظاً من جانب عدد كبير من الكتاب في مصر إلى الكتابة عن الإسلام تطلّعاً إلى مزيد من الشعبية والرواج لكتبهم، ومزيد من العائد المادي "!

ولا ندري؛ وفق منهج الجرح والتعديل، ووفق مبادئ العقل؛ كيف لنا أن نصدِّق حسين أحمد أمين في دعاواه تلك؛ وهو رجل معروف بالعداء للفكر الإسلامي؛ ولأعلامه في القديم والحديث هذا أولاً؛ وثانياً: لأن الكتاب من تأليف حسين أحمد أمين، وليس الأستاذ/ شاكر؛ وربما دسَّ حسين أحمد أمين على الأستاذ/ شاكر، وتقوَّل عليه، وزاد! وهو ما نميل إليه؛ لأن العقاد وشاكر من مدرسة فكرية وأدبية واحدة؛ هي مدرسة التراث؛ فلا يُعقل أن يتهم الأستاذ/ شاكر أستاذه/ العقاد بمثل هذه التهم التي لم تثبت واقعاً، ولا تاريخاً على العقاد؛ حتى بشهادة ألد خصومه!

وإذا لم يُصدِّق أحدٌ كلامي هذا؛ فما عليه إلا مراجعة سلسلة مدائح الأستاذ/ شاكر للعملاق/ العقاد؛ وهي تقريظات تنم عن إعجاب شاكر القوي بمنهجية العقاد، وفكره، وأدبه، ولغته، وفهمه العميق للإسلام؛ وها هي ذي:

مدائح شاكر للعقاد

فبالرجوع إلى جمهرة مقالات شاكر صفحة(735-740) المجلد الثاني؛ وهي من جمع تلميذه الدكتور/ عادل سليمان جمال؛ والتي صدرت عن مكتبة الخانجي بالقاهرة؛ يقول شاكر في مقالته المؤرَّخة والمنشورة من قبل في سنة 1942م في مجلة المقتطف القاهرية؛ مُقَرِّظاً كتاب العقّاد(عبقرية عمر): "إنَّ كل فصلٍ من هذا؛ يستوقف الناظر فيه؛ فلا أدري ما آخذ منه، وما أدع! ولقد جاهد العقاد؛ فأبلى  بلاء حسناً .. إنما كان يقاتل تاريخاً مختلطاً مبعثراً؛ قد أهمله أهله، وآراءً باغيةً قد رمى بها قومٌ عزَّتهم عن أنفسهم قوةُ أيامهم وعلوّ سلطانهم، وتكاذيبٌ قد تجمَّل بها المستضعفون من الكُتّاب. ولقد دلَّ بهذا الكتاب على أن التاريخ العربي والإسلامي؛ إذا استوى له كاتبٌ قد قرَّر المذهب على أصولٍ صحيحةٍ؛ استطاع أن ينفيَ عنه زغله، وأن يبعثه بعثاً جديداً بعد تراكم الأتربة التي قبرته أجيالاً طوالاً"!

ولم يكتفِ الأستاذ/ شاكر بهذا التقريظ؛ الذي كاله للعقاد حقاً وصدقاً؛ بل زاد؛ فقال في المقال نفسه: "ليس من الهيِّن؛ أن تكتب التاريخ الإسلامي على نمطٍ جديدٍ؛ فإنَّ عُدَّة الكاتب لهذا الأمر؛ تتنازعها قوىً مختلفة يجب أن تتوفر للكاتب، ولعلها قد توفَّرت للعقاد؛ فهو أديبٌ يتلقَّف معاني الكلام، وينفذ إلى ما وراءها، وهو مفكرٌ لا يدع للفكر منهجاً إلا ولج إليه، وهو واسع المعرفة؛ فهو يعرف المجهول من المعلوم؛ بأدق فكرٍ؛ وأحسن نفاذٍ؛ وبذلك استطاع أن يكتب للتاريخ الإسلامي فصلاً خالداً في شخصيةٍ خالدةٍ؛ هي الفاروق عمر بن الخطّاب".

لا؛ بل زاد الأستاذ/ شاكر في هذا المدح العقّادي الصرف المتسق مع الفكرة التي جمعتهما، والمدرسة التي ينتميان إليها؛ وهي مدرسة الأصالة والتراث؛ فوجدناه كتب مقالةً أخرى بعنوان(بين الرافعي والعقّاد) نشرها في مجلة الرسالة عام 1938م؛ ثم أعاد نشرها الدكتور عادل سليمان في جمهرة مقالات شاكر في المجلد الأول صفحة8؛ وقد كانت المعركة حول العقاد والرافعي على أشدها بين شاكر وسيد قطب؛ وفيها قال شاكر: "فالرافعي والعقاد أديبان قد أحكما أصول صناعتيهما؛ كلٌّ في ناحيته وغرضه، وأفنيا الليالي والسنين في ممارسة ما هو فيه وإليه، وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه .. ولقد شهدتُ أن الذي كان يكتبه الرافعي عن العقاد؛ لم يكن عندي مما يحملني على الحطِّ من منزلة العقاد التي كان ينزلها في نفسي؛ بل أستيقن أنَّ الذي يكتبه؛ إنما يُرادُ به النيل من غيظ العقّاد؛ لا من العقّاد نفسه .. وخليقٌ بنا؛ أنْ نطويَ الآن سيئة رجلين؛ قد تفارط أحدهما في غيب الله(الرافعي)، وبقيَ الآخر(العقّاد) تحوطه الدعوة الصالحة؛ بطول البقاء، وامتداد الأجل، وسداد العمل"!

إذاً؛ فهذا هو قول الأستاذ/ محمود محمد شاكر في مقاله(العودة) بمجلة الرسالة سنة 1940، والمنشور في جمهرة مقالاته صفحة(121) من المجلد الأول؛ الذي يقول فيه الأستاذ/ شاكر: " .. فهذا الأستاذ العقّاد، وكلنا يعلم أنه قلّما كان يتناول الأغراض الإسلامية بالتحرير والبحث؛ ولكنه منذ العدد الهجري للرسالة كتب مقالةً عن عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم العسكرية؛ ثم عن عبقريته السياسية؛ فاستوفى القول في ذلك وأشبعه، وردَّ كثيراً من الشُّبَه التي كان يُلبِس بها الأعاجم على الأغرار من شبابنا. وليس يستطيع مستشرقٌ؛ أن ينفذ في فهم التاريخ العربي، والاجتماع الإسلامي، والفلسفة الإسلامية؛ كما يستطيع كاتبٌ قارئٌ مُطَّلِعٌ؛ كالأستاذ العقّاد. ثم هو فوق ذلك؛ أديبٌ عربيٌّ يستطيع أن يجعل فطرته العربية الأدبية عوناً له على التغلغل في أسرار تاريخيةٍ مطموسةٍ، لا يُطيقها المستشرق؛ لفقدانه مثل هذه الفطرة؛ ثم لأن البيئة العلمية والاجتماعية التي نشأ فيها وتثقَّف(المستشرق) على أساسها، لا تُطاوِعه أو تلين له؛ حتى يكون في نظره إلى التاريخ العربي، أو الفلسفة الإسلامية؛ خرّاجاً ولاّجاً على طبيعة العرب، وطريقتهم في تداول معاني حياتهم، وحياة أفكارهم وفلسفتهم. ونحن نرجو ألا يُخْلِي الأستاذ العقّاد مباحثه من هذا النوع الجديد من الفكر في تاريخٍ تنقذف عليه كل يومٍ جهالاتٌ كثيرةٌ مُفْسِدةٌ، ليس لها أصلٌ، ولا بها قوةٌ"!

وبعد هذه السلسلة المتواصلة الرائعة؛ من التقريظ الشاكري للعقاد؛ فلا يُعقل أن نُصدِّق حسين أحمد أمين في تلفيقاته، وتخرَّصاته على الأستاذين/ العقاد وشاكر!

والقول الراجح في هذه القضية؛ أنها من صنع حسين أحمد أمين؛ وأننا لا يمكن أنه نصدِّقه في التقوَّل على الأستاذ/ شاكر؛ والدس عليه؛ لكي ينال هو من الأستاذ/ العقاد على حساب الأستاذ/ شاكر!

ولذلك؛ فالقول الفصل في هذه القضية الخطيرة؛ هو أن اتهام الأستاذ/ العقاد؛ بأنه كان لا يصلي الجمعة؛ هو من وضع حسين أحمد أمين، وليس الأستاذ/ شاكر! ولأن معظم تلامذة الأستاذ/ العقاد أجمعوا على أنه كان يصلي الجمعة؛ ولأن الأستاذ/ شاكر في كل مؤلفاته؛ كال التقريظ للأستاذ/ العقاد؛ ولم يهاجمه، أو يردد مثل تلك الاتهامات في أي مقال من مقالاته التي توجد بين أيدينا؛ فليراجعها المثقفون والمفكرون؛ ففيها الإجابة الشافية!

إذاً؛ فكلام الأستاذ/ شاكر هو الحاسم في جلاء الحقيقة؛ وليس الاتكاء على أقوال منسوبة للأستاذ/ شاكر وردت في كتاب مطعون في صاحبه!

وسوم: العدد 746