المشروع الفلسطيني بين حلّ الدولة الواحدة وحلّ الدولتين

تهدف هذه المقالة إلى تفكيك الوهم السائد بأنّ المشروع الوطني الفلسطيني يجب، وبالضرورة، أن يتراوح إطاره النظري بين حلّ الدولتين الذي لفظ أنفاسه الأخيرة أو يكاد، وحلّ الدولة الواحدة بديلا مزعوما لا غنى عنه لحلّ الدولتين المتهاوي. رافضًا حصر المشروع الوطني الفلسطيني ضمن هذين الإطارين، مستندًا في ذلك إلى تحليل (وتفكيك) المخاطر التي تندرج تحتها تلك الأفكار في هذه المرحلة، والتي ستؤدي، برأي كاتب المقالة، إلى مزيدٍ من التنازلات المجانية للعدو، وتغييب فرصة بناء مشروع وطني فلسطيني حقيقي، يسعى إلى دحر الاحتلال وتحرير فلسطين من الكيان الصهيوني.

بداية، حلّ الدولتين هو الحلّ الذي سعت إليه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وقدّمت خلاله تنازلات متدرجة، منذ مشروع النقاط العشر عام 1974 وحتى اتفاق أوسلو، وإعادة إنتاج هذا الاتفاق في عهد الرئيس محمود عباس. واعتُبر هذا الحلّ بمنزلة المشروع الوطني الفلسطيني طوال هذه الحقبة التاريخية، قبل أن نشهد أخيرا نعيه على أيدي أصحابه، كان آخرها خطبة الرئيس محمود عباس في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، وأعلن فيها أنّ الاحتلال أنهى عمليًا حلّ الدولتين، وأنّه حل لم يعد قابلًا للتطبيق، مهددًا باللجوء إلى حلّ الدولة الواحدة بديلا طبيعيا لفشله وانهياره. وهو شعار ردّده كثيرًا قادة في السلطة الوطنية، بل إنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لم يستثنه من قائمة خياراته، حين أعلن أنّه سيدعم ما يتفق عليه الطرفان من صيغ، أكانت حلّ الدولتين أم الدولة الواحدة.

بعد أكثر من 43 عامًا على برنامج النقاط العشر، وبعد ربع قرن على اتفاق أوسلو، بات جليّا أنّ مشروع حلّ الدولتين لم يعد يمثّل الإطار الأصلح للمشروع الوطني الفلسطيني، فقد قدّمت  

القيادة الفلسطينية جميع ما لديها من تنازلاتٍ وُصفت بالمرونة، لكنّ جنازير الدبابات الصهيونية سحقتها، وجدران المستوطنات لم تُبقِ شيئًا يمكن التنازل عنه من الـ 22% الباقية، بعد أن سلّمنا للعدو بحقه في الـ 78% التي أقام عليها دولته، وبعد أن أصبحت قضايا، مثل عودة اللاجئين، في مهب الريح، وبعد أن قسّم هذا الحلّ الشعب الفلسطيني إلى ضفةٍ وقطاع، قبل أن ينقسما مجددًا، وإلى فلسطينيي 1948 وفلسطينيي الشتات، من دون أن يتمكّن من جمعهم في مشروع وطني فلسطيني جامع لآلامهم وآمالهم.

دفع انهيار حلّ الدولتين سياسيين إلى تكرار الحديث عن حلّ الدولة الواحدة. ولكن من المهم الانتباه هنا إلى أنّ حلّ الدولة الواحدة الذي يُبشّرون به يختلف اختلافًا كليًا عن ذلك المشروع الذي تبنّته حركة فتح في نهاية الستينيات، والذي دعا إلى إقامة دولة ديمقراطية في فلسطين تتعايش فيها الأديان المختلفة، أو عن الأفكار التي طرحها الدكتور عزمي بشارة سابقًا، إذ إنّ ذلك كان يتضمن الخلاص من طبيعة الكيان الصهيوني وبنيته، مقدمة ضرورية لهذا الحلّ. 

في طليعة من يُبشّر الآن بالتحوّل نحو حلّ الدولة الواحدة أولئك الذين تبنّوا حلّ الدولتين أعوامًا طوالًا. وفي حقيقة الأمر، لا يعتبر هذا مؤشرًا جديًا على صدق دعواهم، بقدر ما هي رسائل تحذير وتهديد لنُخب اليمين الصهيوني من أنّ انهيار حلّ الدولتين سيقود بالضرورة إلى حلّ الدولة الواحدة التي يتوهمون أنّها ستُخلُّ بمبدأ نقاء الدولة اليهودية. 

في هذا جهل مطبق للحركة الصهيونية، ولمخططات اليمين الصهيوني الحاكم، والذي يزداد تطرفًا في غياب كامل لما يُدعى معسكر السلام الإسرائيلي. المخطط الصهيوني واضح، ولا يخشى هذه التهديدات الفارغة من أي محتوى أو مضمون، فهو يرفض حلّ الدولتين، ويريد الأرض الفلسطينية كلها من دون سكّان. يريد دولة واحدة يهودية، وليست دولة ثنائية القومية، دولة لا مكان للفلسطينيين فيها مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. هو يريد دولة أبارتهايد يكون فيها الفلسطينيون في كانتونات مغلقة، مواطنين من درجة عاشرة، قبل دفعهم إلى الرحيل. وأي مفاوضات ستجري حول هذا الموضوع لن تكون أحسن حالًا من مفاوضات حلّ الدولتين، ولن تخرج عن إطار حدّ أدنى من الحقوق المدنية في ظلّ مجتمعاتٍ منفصلة. 

والأدهى من ذلك أنّ بعضًا ممّن ينادي بهذا الحلّ يرى أنّه سيجنّبه مسائل كانت مطروحة في مفاوضات حلّ الدولتين، مثل تبادل الأراضي والمستوطنات وغيرهما. فما دُمنا سنكون في دولة واحدة، فإنّ هذه القضايا تصبح محلولة، ولا داعي لنقاشها أو التفاوض حولها. لذا فإن طرح مشروع الدولة الواحدة بهذه الصيغة، والدعوة إلى التفاوض بشأنها، لن يشكل إلا وهما وسرابا جديدين، وفي ظلّ موازين القوى الراهنة، سيشرعن ذلك ضم الجزء الباقي من الأرض الفلسطينية إلى الكيان الصهيوني، ويُحيل المجتمع الفلسطيني بأسره إلى مجتمع يعيش في ظلّ نظام الأبرتهايد الصهيوني، ولا يمكن أن يُشكّل أساسًا لمشروع وطني فلسطيني حقيقي، يسعى إلى إزالة الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين، والحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة. 

وبشأن المشروع الوطني الفلسطيني الذي علينا أن نسعى إليه، فإنه المشروع الذي يكفل وحدة  

الشعب الفلسطيني في جميع مناطق وجوده؛ في الأراضي المحتلة منذ عام 1948، والمحتل منها منذ 1967، والفلسطينيين اللاجئين في الشتات والمنافي، ويكفل وحدة قضيتهم وحقهم في العودة إلى أرضهم. ومن الجدير بالذكر أنّ تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) الذي أطلق في مارس/ آذار الماضي قرّر أنّ إسرائيل تمارس نظام الأبارتهايد على تجمعات الشعب الفلسطيني كلها، تحت مسمياتٍ مختلفة؛ فهناك المواطنة، ومصادرة الأراضي والاحتلال العسكري، ومنع عودة اللاجئين إلى ديارهم، في وقت يسمح فيه بعودة أي يهودي، ونيله الجنسية الإسرائيلية خلال دقائق من وصوله إلى الأرض الفلسطينية. وخلُص إلى اعتبار ذلك جريمةً ضد الإنسانية، وأنّ الحلّ الوحيد لها يتمثّل في تفكيك البنية الدستورية والقانونية للكيان الصهيوني، وما دون ذلك يُبقي الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني قائمًا.

المشروع الوطني الفلسطيني الجامع هو الذي يسعى إلى دحر الاحتلال، وتفكيك الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، عبر توحيد جهد الشعب الفلسطيني والأمة العربية وأحرار العالم لتحقيق هذا الهدف.

ويبقى السؤال، لماذا على الضحية دومًا أن تقترح الحلول على قاتلها؟ وما الذي استفدناه من تقديم التنازلات سعيًا إلى تسوية بحدّ أدنى ثبت فشلها؟ وهل صحيح أنّ تغيير الاستراتيجيات وتقديم التنازلات كان سرّ البقاء، أم أنّها كانت أساس تراجع مشروعنا الوطني من الثورة إلى "أوسلو" وما بعدها.

وخاتمة القول: لا مناص لنا من العودة إلى جذور قضيتنا وجعلها أساسًا راسخًا لمشروعنا الوطني الفلسطيني.

وسوم: العدد 747