إعلان ترامب.. بداية الصفقة أم نهايتها؟
هل يشكل قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمةللكيان الصهيوني نهاية لمبادرته الموعودة بشأن تحقيق تسوية سلمية طال انتظارها للقضية الفلسطينية، والتي عُرفت بصفقة القرن، أم أنّها بداية عملية لهذه الصفقة، سنشهد خلال الأسابيع والشهور المقبلة تقدمًا حثيثًا باتجاهها؟
لعلّ مشروعية التساؤل تنبع من تضارب تصريحات بعض الزعماء العرب، ومن حجم ردة الفعل الدولية المعارضة للقرار، ومن المدى الذي يمكن لتحركات شعبية في العالمين العربي والإسلامي أن تصل إليه في الضغط على أنظمتها، وعلى المصالح الأميركية فيها، ومن توقّع هبّات جماهيرية تصل إلى مستوى انتفاضة مستمرة في فلسطين كلها، يمكن أن تؤدي إلى فرض وقائع جديدة تعرقل مسار التسوية الحالي، وتوقّف التطبيع العربي الرسمي، وتؤشر إلى انتهاء مرحلة، وبداية أخرى تعيد البوصلة نحو فلسطين.
منذ أكثر من أسبوع، تسربت الأنباء الأولى عن عزم ترامب نقل سفارته إلى القدس، بعد ذلك خرجت تسريبات أخرى عن تأجيل قراره، حينها ظنّ قادة عرب وفلسطينيون عديدون أنّ بإمكانهم تسجيل نصر وهمي، وبطولة مزيفة، وإقناع شعوبهم بأنّ تصريحاتهم ومواقفهم أدّت بأميركا إلى التراجع عن قرارها. لكن بعد خطاب ترامب بدت تصريحاتهم باهتةً تتراوح ما بين الاستنكار الخجول والتحذير الحكيم من ترك المنطقة فريسة للإرهاب، من دون أن يتفضل علينا أحدهم، ويخبرنا عن الإجراءات والتدابير التي سيتخذها لمواجهة هذا القرار المصيري.
كان المثال الفلسطيني الرسمي حاضرًا، فبعد الحديث عن فقدان الولايات المتحدة دورها في
عملية السلام، وأنّها لم تعد وسيطًا نزيهًا (وكأنّها كانت يومًا)، وعن التنبؤ بانهيار عملية السلام برمتها، والدعوة إلى المقاومة والمصالحة سبيلاً وحيداً للمواجهة، جاء خطاب الرئيسمحمود عباس باهتًا، ودون مستوى الحدث؛ لم يقل لنا كيف سيواجه هذا القرار، ولم يدعُ إلى مقاومة أو تصدٍّ، أو يعلن وقف التنسيق الأمني أو انهيار عملية السلام، أو حتى فقدانه الثقة بالولايات المتحدة. اقتصر خطابه على التزامه بما سيقرّره الأشقاء العرب! ودعوة المجلس المركزي لاجتماع عاجل بحضور "الفصائل" كافة.
إذا كان الرئيس محمود عباس جادًا في التصدي لخطوات ترامب، فإنّ عليه، إضافة إلى الخطوات الداخلية مثل وقف التنسيق الأمني والمصالحة بين حركتي فتح وحماس وإلغاء اتفاق أوسلو، أن يتقدّم فورًا، ومن دون إبطاء، بشكوى عاجلة إلى مجلس الأمن باسم فلسطين ضدّ الولايات المتحدة الأميركية، بموجب الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة، بسبب انتهاكها القانون الدولي، وتعريضها السلم والأمن الدوليين للخطر. ولن يكون للولايات المتحدة الحق في استخدام حق النقض (الفيتو) إذا قُدّمت الشكوى من فلسطين، باعتبار الولايات المتحدة الدولة المشتكى عليها، وفقًا للبند الثالث من المادة 27 التي تنص على: "في القرارات المتخذة تطبيقًا لأحكام الفصل السادس، والفقرة 3 من المادة 52، يمتنع من كان طرفًا في النزاع عن التصويت". هل تجرؤ السلطة على القيام بهذه الخطوة الحاسمة، وهي ما زالت متردّدة في تقديم دعواها أمام محكمة الجنايات الدولية، على الرغم من صدور التقرير الأولي للادعاء العام بهذا الخصوص، بحيث بات الطريق ممهدًا أيضًا لإدانة إسرائيل بجرائم الحرب، ومنها الاحتلال والاستيطان والأبرتهايد.
قال الرئيس محمود عباس إن خطاب ترامب "إعلان من الولايات المتحدة بانسحابها من عملية السلام"، مع أنّ ترامب أعلن، في خطابه، عن إرسال نائبه مايك بنس إلى المنطقة خلال أيام، ما يشير بوضوح إلى أنّ إعلانه أخيراً هو خطوته الأولى باتجاه صفقته، وليس انسحابًا منها. وأعلن وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، أنّ القرار جاء بعد "التشاور مع أصدقاء وشركاء وحلفاء كثيرين".
من هم هؤلاء، وقد أعلن الاتحاد الأوروبي وبابا الفاتيكان ودول كثيرة رفضهم هذه الخطوة؟! وهل جاء هذا التشاور ضمن إطار تفعيل التسوية السياسية التي أُبلغ بتفصيلاتها الرئيس محمود عباس لدى زيارته الرياض أخيراً، ونشرت صحيفة نيويورك تايمز تحقيقًا مطولًا عنها، تضمن تقديم حلول بديلة للقدس بأن تُعتبر أبو ديس القريبة من القدس العاصمة الفلسطينية؟ وبذلك تكون خطوة الرئيس الأميركي ترامب بمثابة خطوة استباقية لاستثناء موضوع القدس من ملف المفاوضات، باعتباره قد حُسم أميركيًا، وبذلك تزول عقبة كبرى كانت تعيق التوصّل إلى حلّ، حيث أصبحت أمرًا واقعًا، كما حال الاستيطان الذي ااستُثني أيضًا من خطة ترامب، وفق تقرير "نيويورك تايمز" وتسريبات القيادة الفلسطينية عن اجتماع الرياض.
ليست زيارة نائب الرئيس الأميركي بعيدة، وقد يتضح الكثير خلالها عند لقائه الزعماء العرب، ومجرد إتمام هذا اللقاء سيعني، بكل أسف، أنّ هؤلاء تجاوزوا موضوع الاعتراف الأميركي
بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وما زالوا منغمسين في تفصيلات المبادرة السياسية الأميركية. وقد أصبح متوقعاً أن يتبع خطوة الاعتراف الأميركي تمرير الكنيست (البرلمان) الصهيوني قانون الدولة القومية الذي ينص على أنّ "دولة إسرائيل هي البيت القومي للشعب اليهودي"، وأنّ "حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يقتصر على الشعب اليهودي".
وبهذا القانون، تكتمل مبادرة ترامب التي تستثني القدس والاستيطان واللاجئين (حق العودة)، وتعتبرها موضوعات منتهية وغير قابلة للنقاش، وعلى السلطة الفلسطينية القبول بحكم ذاتي محدود لكانتونات ومعازل متفرقة قد يتطوّر لاحقًا إلى شكل كونفدرالي، بعد أن يُفرض الموضوع على الأردن. وتفيد تسريبات اجتماع الرياض أنّ الرئيس محمود عباس قد خُيّر بين قبول ذلك كله رزمة واحدة أو الاستقالة من موقعه.
خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إضافة إلى اعترافه بالقدس عاصمة "أبدية" للكيان الصهيوني، كان بمثابة إطلاق لمبادرته التي مهّدت لها جولات صهره كوشنر في المنطقة، ويبدو أنّها دخلت مرحلة التنفيذ، مستخدمة أدوات عربية تسعى إلى تطبيع علاقاتها مع العدو الصهيوني والتحالف معه، وحرف بوصلة الصراع عن فلسطين باتجاه أهداف أخرى.
قديمًا قال العرب "اشتدي أزمة تنفرجي"، ولعلّنا هنا مع اشتداد تلك الأزمة نكون قد وصلنا إلى نهاية ليلها الطويل، ذلك أنّ الخطوة الأميركية، والتي أرادوا منها أن تكون بداية عملية للبدء في تنفيذ "صفقة القرن"، من الممكن والعملي والواقعي والواجب أن تكون نهاية لهذه الصفقة ومقبرة لها، وبداية فعلية للعودة نحو القدس وفلسطين، وذلك كله يتوقف الآن، وقبل كل شيء، على إرادة شعب فلسطين وحراكه الشعبي، وعلى تضامن الجماهير العربية والإسلامية معه، فقد بلغت القلوب الحناجر، وما عاد لنا سوى الصدق والصبر، وطريق فلسطين ولا طريق سواها، إذا أردنا أن نبقى أمة بين الأمم.
وسوم: العدد 750