صناعة الجماعات الإرهابية
الإرهاب وسيلة من وسائل الإكراه يعود تاريخه إلى فترات غابرة في التاريخ البشري، والإرهاب مصطلح يشير إلى الأفعال العنيفة التي تهدف إلى خلق أجواء من الخوف والرعب، وغالباً ما يلجأ أشخاص أو جماعات إلى الإرهاب ضد جماعات منافسة تتبع ديانة أخرى أو نظاماً سياسياً منافساً؛ ما يعني أن للإرهاب هدفاً إديولوجياً يحاول الإرهابي من خلاله إثبات أحقية فكره، والتشكيك بفكر الخصم .
ولا تكاد تختلف أساليب الإرهابيين عن أساليب العصابات الإجرامية التي تحاول فرض سيطرتها بالقوة، غير عابئة بالضحايا الذين غالباً ما يكونون أبرياء !
ولا تختلف أوصاف الجماعات الإرهابية التي ظهرت في البلدان العربية خلال العقود القليلة الماضية عن صفات العصابات الإجرامية، رغم أنها تتخفى بشعارات إسلامية، والإسلام منها براء ! فقد ظهر واضحاً أن التكوين الفكري لهذه الجماعات يعاني من عورات فقهية خطيرة لاتمت إلى الإسلام بأية صلة؛ ونرصد في ما يأتي جملة من هذه العورات :
* الرؤية القاصرة والفهم المشوّه لنصوص القرآن الكريم والسنّة، واجتهادات علماء الإسلام .
* المسارعة إلى التكفير دون أسس شرعية .
* استسهال القتل دون تمييز؛ ودون مراعاة لحرمة الدم الآدمي، مع تجاهل فاضح للآيات والأحاديث التي تحذر من القتلإلا بحق .
* احتكار الصواب، وادعاء الحق المطلق، وإجبار الناس على القبول به، ورفض الآراء المخالفة مهما ساندها من براهين .
* وغيرها من العورات الفكرية التي أسهمت في تكوين رؤية فقهيّة شاذّة لدى هذه الجماعات التي أسهمت بتشويه الإسلام وتصويره دينَ تخريب وإرهاب وقتل .
ولا جدال بأن هذه السمات الشاذة التي تطبع التكوين الفقهيّ لهذه الجماعات يجعلها بعيدة كل البعد عن الإسلام، بل خارجة عن دائرته تماماً .
ولكي تكون الصورة أكثر إنصافاً وموضوعية؛ لابد من الاعتراف بوجود عوامل عديدة ساهمت في ظهور مثل هذه الجماعات؛ وشجعت على انتشارها والتحاق الناس بها، ونذكر من هذه العوامل:
• الدكتاتورية المتأصلة في الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية والإسلامية، وما دأبت هذه الأنظمة على ممارسته من ظلم شديد على الناس .
• إغلاق أبواب الأمل أمام الأجيال الجديدة للمشاركة في بناء الوطن، بحصر المشاركة في المؤيدين لولي الأمر، أو الحزب الحاكم .
• التمييز الطائفي في العديد من البلدان العربية والإسلامية؛ وما يسببه هذا التمييز من مظالم تقع على البعض لصالح الطائفة الحاكمة .
وقد راحت هذه المظالم تتفاقم آثارها السيئة - بمرور الوقت – ما ساهم بولادة هذه الجماعات المنحرفة التي حاولت تبرير ظهورها وشرعيتها بهذه الأفكار الشاذة مدعية أنها هي الطريق الصحيح للخلاص من هذه المظالم !
وهكذا كانت هذه الجماعات من أسوأ الثمار التي أثمرتها الدكتاتوريات في بلداننا، وأصبحت هذه الجماعات أبشع ظاهرة من الظواهرالتي تعانيه منها أمتنا اليوم!
ولا يفوتنا أن من العوامل المهمة التي ساهمت بظهور هذه الجماعات الإرهابية كذلك إفلاس الأنظمة السياسية داخلياً وخارجياً، وما جرته هذه الأنظمة على الأمة من هزائم ونكسات .. ما جعل الشباب يجدون في الإسلام الملجأ لمواجهة هذه الهزائم، وهذا ما هيأ الأمة لظهور "صحوة إسلامية" واعدة تبشر بالتغيير، وإصلاح ما أفسدته الدكتاتوريات والأنظمة.
وحين رأت الأنظمة الحاكمة ما تنطوي عليه هذه الصحوة من تهديد بدأت هذه الأنظمة بمحاربة الصحوة بكل سبيل، وبدؤوا يلصقون بها أسوأ الأوصاف، ويزجون قادتها وأفرادها في السجون مع التعذيب الذي تجاوز كل الحدود، ما جعل المعذبين يميلون عن الاعتدال إلى التطرف، وتبني أفكار شاذة رداً على ما تعرضوا له من اضطهاد وتعذيب ومهانة.
وقد أكمل هذا المخطط المعادي للصحوة الإسلامية أعداء الأمة الذين رأوا في هذه الصحوة خطراً سوف يعصف بمخططاتهم الاستعمارية؛ فسعوا بكل ما لديهم من إمكانيات لقطع الطريق على هذه الصحوة بالتعاون مع الدكتاتوريات المشار إليها، وقد أدى هذا الضغط المضاعف على الإسلاميين المعتدلين إلى نوع من اليأس دفعهم إلى العنف والتطرف .
البداية المشؤومة :
هكذا ظهرت أشكال عديدة من الجماعات المتطرفة التي خرج معظمها من سجون الدكتاتورية، ولعل أول هذه الجماعات ظهوراً في عصرنا جماعة "التكفير والهجرة" التي نشأت داخل السجون المصرية في عهد الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" وتعرضت خلال اعتقالها لأسوأ أشكال التعذيب والمهانة؛ ولهذا بعد إطلاق سراح أفرادها انتشرت أفكارها وكثر أتباعها بين المصريين الذين ضاقوا ذرعاً بالدكتاتورية وبأجهزة الأمن الرهيبة، ما جعل هذه الجماعة تحيي فكر "الخوارج" الذين ظهروا في فترة ملتبسة من فترات التاريخ الإسلامي !
ويذكر بعض الباحثين أن هذه الجماعة لم يتبلور فكرها الشاذ وسلوكها المتطرف فقط بسبب المهانة والتعذيب الذي تعرضت له خلال سجنها، بل ساعدها في ذلك ضباط الأمن الذين وضعوا خطة شيطانية دربوا خلالها أفراد هذه الجماعة على أعمال العنف والتفجير والاغتيالات، ووعدوهم بالمساعدة – عند اللزوم - بعد خروجهم من السجن !
ما يعني أن التطرف والإرهاب صناعة أمنية متعمدة، وليست ظاهرة عفوية كما يظن الكثيرون، وقد كان من أهداف هذه الظاهرة الشيطانية، تأليب الناس ضد الجماعات الإسلامية عامة، وتشديد القبضة الأمنية على المجتمع تحت ستار محاربة الإرهاب والتطرف !
ومن المؤسف أن هذه الصناعة قد انتشرت بعد ذلك إلى بقية الأنظمة الدكتاتورية، وأصبحت منهجاً متبعاً لمحاربة كل ما هو إسلامي، مهما كان محايداً أو معتدلاً، وهذا ما رأيناه مثلاً في الجزائر خلال "العشرية السوداء" (1991 – 2002م) التي راح ضحيتها زهاء نصف مليون من الإسلاميين والمدنيين في ظروف غامضة، وتبين فيما بعد أن معظم الأحداث كانت من صناعة أجهزة الأمن !!؟
ثم رأينا مثلاً آخر أشد ظلامية وظلماً بظهور "داعش" وأخواتها من الجماعات الإرهابية في سوريا، هذه الجماعات التي ثبت أنها صنعت في سجون آل "الأسد" برعاية ضباط الأمن ، ثم أطلق سراحها لكي تدمر وتخرب بكل حرية في طول البلاد وعرضها دون أن يتعرض لها جيش النظام الأسدي بأي سوء !!؟
وهكذا بدأت هذه الجماعات الإرهابية المتطرفة تنتشر تحت عين أجهزة الأمن، مشكلة غطاء للدكتاتورية والمظالم التي يمارسها حكام لا يرقبون في الناس إلاً ولا ذمة .
هكذا كانت البداية المشؤومة التي تبعها ظهور موجات عنف غير مسبوقة هنا وهناك، وبدأنا نرى جماعات مختلفة انحرفت عن الفهم الصحيح للإسلام، مكوّنة لنفسها، مسارات شاذة مشحونة بالأمراض والكراهية ! صارت وبالاً على أمّة الإسلام باجتهاداتها المنحرفة، وأفعالها الشاذة .. بل سبّبت للأمة دماراً أدهى وأشد؛ بتأليبها العالم ضدّ الإسلام وأهله، حتى صار الإسلام - الذي جاء رحمة للعالمين - نقمة في نظر العالم !
إن هذه البداية المشؤومة يجب أن نقف عندها وقفة طويلة لكشف ملابساتها وأبعادها، لكي نعرف كيف يكون الخلاص من هذه الظاهرة التي تكاد تعصف بحاضر الأمة ومستقبلها، ولكي نحصن أجيالنا الجديدة كي لا تقع في هذه المصيدة الكارثة.
وسوم: العدد 755