بين الدنيا والآخرة
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :
" ركبت من بيروت ، وكان معي أخي ناجي ، فقعدنا في المقصف (البوفيه) نأكل شيئاً قبل السفر
ونشرب الشاي . وكان المقصف ممتلئاً بالناس ، كراسيّهم مزدحمة يكاد الكرسي يمسّ الكرسي ، وكلٌّ يأكل ويشرب كما كنا نشرب ونأكل ، فإذا بالمكبّر يخرج منه الصوت :
" ركاب الطيارة الهولندية المسافرون إلى جزيرة جاوة " فيترك ناسٌ طعامَهم وشرابَهم ويقومون ...
ثم ينادي ركابَ الطائرة البريطانية المسافرة إلى لندن فيقوم ناس ..
ثم ينادي ركابَ الطائرة البلجيكية المسافرة إلى الكونغو ..
و طائرة البان أمريكان المسافرة إلى نيويورك ..
فرأيتُ أن هذا هو مثال الدنيا :
ناس يعيشون ، يأكلون ويشربون ويجمعون الأموال ويحرصون عليها ويظنون أنهم خالدون ، لا يدرون متى يخرج النداء يدعو هذا أو يدعو ذاك ، فَمَن دُعِيَ ترك ما كان فيه وأسرع ، لا يأخذ إلى الطيّارة مائدةَ المطعم ولا كرسيَّ القهوة ، بل يتركها ليأتي غيره فيجلس عليها ، لا يأخذ معه إلا حقيبته ، إن كانت حقيبته مُعدَّة معلقة حملها وسار ، فإن كان عند وصول الطيارة مُفرَّقَ الأمتعة لم يجمع أمتعته ولم يُعِدَّ حقيبته ، اضطرَّ أن يدَعها ويرحل بغيرها
فإذا أردتم أن تحملوا معكم من حسناتكم حينما تُدعَون الدعوة التي لابدَّ منها للقاء ربكم فكونوا مستعدين .
وكما يجمع المسافِرُ متاعَه في الحقيبة ليحملها ويمشي ، يستعِدّ المرء بالتوبة وقضاء الحقوق ،
فكونوا دائماً في حال التوبة ،
انظروا كل يومٍ فيما اقترفتم من سيئات فتوبوا إلى الله منها ،
وإن كان عليكم حقوقٌ فأدّوها حتى تكونوا مستعدّينَ ،
فإذا دُعِيتُم إلى ذلك السفر الذي لا بُدّ منه ،
السفر إلى الآخرة ، كنتم دائما متهيئينَ له .
وكما كان الناس في مطار بيروت قاعدينَ معاً ثم أُخذوا ، هذا إلى حَرّ الكونغو وهذا إلى وَحشة الصحراء
وهذا إلى ملاهي باريس ، كذلك يكون الناس في الدنيا ، يكونون متجاورين في المساكن مشتركين في التسابق إلى خيرات الدنيا والحرص عليها ، وإذا بهم يُدعَونَ فجأة ، فيذهب هذا إلى النعيم المقيم وهذا الى العذاب الأليم " .
من مقالة : (بين الدنيا والآخرة ) . كتاب : نور وهداية
وسوم: العدد 813