الانتفاع بالحريات ، ونقاش حول الدساتير
[ إن السنوات الأربع التي سبقت الانقلاب العسكري الناصري ، كانت من أعمق السنوات أثراً في تاريخنا المصري ، فقد استطاع الإخوان – في القدر المتاح من الحريات الدستورية - أن يجمعوا شملهم ، وينمّوا كيانهم ، ويؤكدوا بقاءهم !
وانـزاح حكم الأقليات ، ورجع حزب الوفد إلى الحكم ، وكان نجاحه الكاسح سبباً في أن الأستاذ مصطفى أمين ، وهو عدو الوفد المبين ، يقول معلقاً على هذه النتيجة : لكل داء دواء إلا الوفد...!
ولم أكن يوماً أنتمي إلى حزب الوفد ، فقد عرفت حسن البنا وأنا طالب في الرابعة الثانوية ، بمعهد الإسكندرية الديني ، ويشرفنى أني كنت تلميذاً لهذا الرجل ، بيد أنني حسن الدراسة لديننا ودنيانا ، برئ من العلل التي تشوِّه النظر ، وتفسد الحكم على الأمور .
واعتقادي أنه لو تم تفاهم بين الهيئتين الشَّعبيتين لنجتْ مصر من النكسة الهائلة التي وقعت فيها بعد ذلك .
وما أحببت هذا التفاهم إلا لشيء واحد ، هو ضمان بقاء الدستور الذي نالته مصر 1923، والذي يوفر للمصريين من الحريات – لو نُفِّذ - ما يمنع الفرعنة ، ويحمي المستضعفين من الهوان .
إنني – أنا الداعي المسلم - لا أحتاج إلا إلى الحرية ، لأؤدِّي واجبي ، وأُنجح رسالتي ، ويوم أفقد الحرية أفقد كياني كلَّه!
إن الإسلام لا يحتاج إلا لهذه الحرية كي ينتشر وينتصر!
وإذا كان بعض الفاشلين في العرض أو القاصرين في الفقه يخشَوْن هذه الحرية فليجاوزوا ميداناً لا يستطيعون أعباءه ، وليحترفوا شيئاً آخر غير الدعوة الإسلامية...!
وكان ظني أن الإخوان بعد مقتل مرشدهم وحلِّ جماعتهم في ظل استبداد مسعور ، سوف يستفيدون من التجربة ، ويستبقون في مصر ضمانات الكرامة الإنسانية ، ومعالم الحياة العامة ، أفذلك وقع؟
كلا... لقد مشى الأمر في طريق آخر!
وقد أحزنني وأنا في معتقل "الطور" أن الإخوان عموماً يرفضون أي اتهام لسياستهم ، وقد قلت: إنه بعد هزيمة "أحد" وقع اللوم على "البعض" من الصحابة ، فلماذا لا نفتِّش في مسالكنا الخاصة والعامة ، فقد يكون بها ما يستدعي التغيير! وما يفرض تعديل الخطة؟ لكن هذا التفكير لم يلق ترحيباً...!
والواقع أن الفكر السياسي عند جمهرة المتدينين يتّسم بالقصور البالغ ، إنهم يرون الفساد ولا يعرفون سببه ، ويقرؤون التاريخ ولا يكشفون عبره ، ويقال لهم كان لنا ماض عزيز ، فلا يعرفون سرّ هذه العزة ، وانهزمنا في عصر كذا ، فلا يدركون سبب هذه الكبوة ، ويشعرون أن العالم الغربيَّ بزغ نجمه ، فلا يدرسون ما وراء هذا البزوغ ...!
قلت لأحدهم –وكان يكابرني- ما الفرق بين دستور سنة 1923م ؛ والدستور الذي جاء بعد أيام الانقلاب الناصري فقال بعد تحيُّر : لا أدري ولا يضرني هذا الجهل!
قلت: تدري فقط أن تثير الشغب حول الصلاة بالنعل أو بدونها ، وحول انتقاض الوضوء من لمس المرأة أو عدم انتقاضه!
فإذا اتصل الأمر بقدرة حاكم ما على تخريب البيوت وتعمير السجون ، وحرق الكرامات ، وترويع العائلات ؛ قلت: الجهل بأسباب ذلك لا يضر !
إن العودة إلى الكتاب والسنة عنوان جميل ، وسيكون هذا العنوان على فراغ قاتل يوم يتاح للفراعنة أن يتخطفونا مستندين إلى دستور وضعوه ، لم نعرف نحن لِمَ وُضع وكيف؟
قال لي آخ آخر يرقب الحوار : لا تنس أن الدستور الذي نَوَّهتَ به مستورد من الخارج!
قلت : لا أنسى ذلك ، إنه فعلاً مترجم ، ومنقول عن جملة من الدساتير الأوربية الحديثة ، وليس كل ما جاء من الخارج يعاب .
إن القوم حصّنوا أنفسهم ضد المظالم المتوقعة بهذه المبادئ القانونية .
فإذا كنا في مصر نتعرض لذات المرض ، فلا حرج من مواجهته بالحصانة المجرّبة!
إننا نرفض الاستيراد إذا كان ما نجلبه مضاداً لما عندنا ، أو كان عندنا ما يغني عنه .
ومن حقي أن أرتقب من الإخوان كراهية من آذَوهْهم ، وأهانوا إيمانهم ، وكانوا يد الاستعمار العالمي التي بطشت بهم، وزلزلت أركانهم! وأن نُترجم هذه الكراهية إلى موقف سياسي صلب ضدّ الأقليات السياسية أو الأحزاب المصنوعة لخدمة فرد مسلّط .
وعلى أية حال فإنني سوف أعدّ من كبائر الإثم والفواحش ، تزوير الانتخابات ، وكبْت الحريات، والافتيات على الجماهير ، وسأسلك هذه الجرائم مع أنواع الخنا والربا ، والسرقات الكبرى ، وسأعتبر الحياد في مواجهة هذه الانحرافات خيانة لله ولرسوله ولجماعة المسلمين ].
من #مذكرات_الغزالي #قصة_حياة
وسوم: العدد 813