من بستان إقبال
هذا البستانُ الذي وصلتُ إليه بعد سيرةٍ طويلةٍ من الأمل والحذر، ومشيتُ إليه على طريقٍ طويلٍ جانباهُ الرّغبةُ والرّهبة، كنت أستروحُ شذاه العَطِر عن بعد، وأملُأ عيني من جمال ألوانه ولكن عن كثَبْ.
كان لاسمه وقعٌ خاصٌّ لم أعهده لأيّ اسمٍ عابر، فيمرّ بي كما يمرّ الأمل المعترضُ سنحتْ به فرصة، على حدّ تعبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله.
وكانت كلماته تترك في نفسي أثرها البالغ، تماماً كما تنقدحُ الفكرةُ بعد طولِ تفكّر.
وأنا المغرم بالأفكار المضيئة والأقوال الساطعة، أحفظها من صفحات الكتب، أو ألملمها من أوراق التقويم الملقاة هنا وهناك، ومن أقوال الخطباء على منابرهم والأدباء في محافلهم.
وكانت كلمةٌ من كلمات هذا الإنسان الفريد تصل بي إلى حدّ الإشباع الرّوحي، في عالم يقيم علاقاته مع كلّ شيءٍ إلا الرّوح.
فكما يقول إقبال:
تمدُّنُ عصركم جمعَ المزايا .. وليس بغائبٍ إلا الضّميرُ
كان محمد إقبال – رحمه الله – كالفكرة المهاجرة، ترى كلّ أرضٍ هي مدينتها المنوّرة، أو كالغيث المبارك، أينما وقع أشبع.
وكان قلبهُ المسافر لا يملّ من الترحال، فتراه حيثما ارتفعت مئذنةٌ أو كبّر مسلمٌ أو دُعي إلى صلاة. فمرّةً تراه طائفاً بأشعاره وقلبه حول البيت العتيق، لينبّهنا إلى حقيقة إسلامنا حينما تعمل عملها في النفوس، وبأننا نحن أصحاب الرسالة الخالدة وأهل الحرم، فلماذا يصنع لنا أهل الصين ثيابَ الإحرام؟ ومرّةً تراه باكياً تحت قباب مسجد قرطبة وفي فنائه، ليقول لنا بأّنه لا فردوس لمن ترك فردوسَ دينه ورضي عنه بالقليل الزّائل.
كان محمد إقبال – رحمه الله – من القلّة الذين أقاموا علاقتهم مع الله على أّنهم خلفاؤهُ في أرضه، ومع الإنسان على أّنهم حملةُ رسالةٍ وأصحابُ حق. فكان عاملًا في سبيل الله حيثما كان، وكانت تحرّكه طاقةٌ هائلة من الإيمان والثقة بمولاه.
وكنت فيما أذكر أنه وقع بين يديّ كتاب بعنوان (كن كابن آدم) للمفكّر الإسلامي جودت سعيد، فكان ممّا لفت انتباهي أّنه أورد بيتاً من الشّعر وهو لمحمّد إقبال حيث يقول فيه:
ما فشا ذا السّرُّ قبلي في البشر .. لم يثقّب ناظمٌ مثلي الدّرْر
فقلت في نفسي: ومن هو حتّى يعلنَ لنفسهِ هذا التّفرّد؟ ولكن عندما قرأتُ محمد إقبال قراءة من ينزل الناس منازلهم ويعرف لأهل الحقّ قدرهم، رأيته – وبما تحمل الكلمةُ من معنى – إنساناً فريدًا.
كان قوّيا بالله غنيّاً به، مهاجرًا إليه بزادٍ من التوحيد والإيمان وفخورًا ب (لا إله إلا الله)، هذه الكلمة الخالدة التي كان يحملها بين جنبيه حقيقةً عاملةً، استوت على عرش قلبه وملكت عليه جوارحَه. فلم يكن في لذة الدنيا لا في قليلٍ ولا في كثير، ولكن حملهُ لهموم أمّته ودينه نأى به عن مساحة الفراغ القاتل والتفكير الرّخيص، وإنّ همة قلبه وحرّية فكره ونظرته الفاحصة ووقوفه على كُنهِ حقيقته، كل ذلك جعله ينضمُّ بأقطار حسّه ونفسه لدائرة الإيمان الرّفيع، منجذباً بجوارحه المؤمنة إلى قبلةِ الرّوح العابدة القائمة بأمر الله. فلم يقبل بعد ذلك إلا بنفسه وهي ترتقي في ملكوت ربّ العالمين، وبروحه إلا وهي صاعدة في معارج هذا النّسب العظيم، فلم ينخدع بوثنيّةٍ قاتلة ولا قوميّةٍ زائفة، ولكن:
أنا أعجميّ الدّنِّ لكنْ خمرتي .. صنعُ الحجاِز وكرمِها الفينانِ
إنْ كان لي نغمُ الهنود ولحنُهم .. لكنّ هذا الصّوتَ من عدنانِ
والله أسأل أن يوفّقني لأن أشرَحَ هذا القلب الكبير للعالمين، وأن أعيدَ صدى هذا الصّوت علّه يبعثُ الهمّةَ في النفوس.
ولتكن هذه الكلماتُ مقدّمةً لسياحةٍ طويلةٍ في بستان هذا الإنسان الفريد، في بستان “محمّد إقبال” رحمه الله.