وصال بعد انفصال
غالبا ما يكون القدر المتحكم في شئون الحب غريبا يصعب فهم أساليبه ، ولا يكون هذا في الشئون الهامة
فحسب ، بل في الشئون الأقل أهمية مثلما تبين القصة التالية : كان هنريك فولك الطالب الذي يدرس
علوم الدين قد أخذ خطيبته روزالي هفيد جيرج في إحدى الأمسيات إلى المسرح لمشاهدة مسرحية هيبرج
" اثنان لا ينفصلان " ، وتلقى صبيحة اليوم التالي حين كان جالسا يدخن غليونه في شقته المريحة في
رجنسن الملاحظة التالية : " أرى الأنسب فسخ خطبتنا ... روزالي " . سهل أن نفهم دهشة هنريك فولك
عند قراءة تلك الرسالة ؛ فقد أنزل غليونه ولبس ثيابه عجلا ، وسارع إلى بيت خطيبته حيث قيل له إنها
رحلت وإنه في وسعه إن شاء أن يلاقي عمتها . وحضرت العمة ،بيد أنها لم تفسر علة رحيل روزالي ؛ فهي
لا تعرف شيئا عن جملة الموضوع . كانت روزالي جمة الهدوء حين عادت البارحة من المسرح إلا أنها
حالما أبدت علائم تأثرها الداخلي ، وبعد أن قالت إن العلاقات غير الحالمة بين مولي وكلست ( الشخصيتان
الرئيستان في المسرحية ) بدت لها ثقيلة بل خاطئة ، وأن من الجائز أن كل _ أو على الأقل معظم _ المرتبطين
بخطبة إنما هم على مثال تلك الحال ، أو أنهم سيقفون نفس الموقف اللا مبالي من بعضهم عاجلا أو آجلا ،
وهي الحال التي تؤثر أن تبقى فيها دون قرين . ولما كانت كتبت عشرات الرسائل _ ولا ريب في أن أغلبها
كان إليه _ فإن هنريك فولك عاد ومزقها من جديد رسالة رسالة إلا أنه أرسل في النهاية واحدة إلى البريد .
لم تنم روزالي تلك الليلة ، بيد أنها حزمت حاجياتها وارتحلت في قطار الصباح . تابعت عمتها تقول :
أنت عارف أنني ما كان لي سيطرة على خططها . كانت هنا في زيارة ليس غير ، وإذا أرادت أن تذهب
إلى ال ... إلى أحد أقاربها فلا أملك وسيلة لمنعها . وما كان للسيدة أن تبين أي أقارب أو أي عم أو عمة
_ ذلك أن والدي روزالي كان متوفيين _ وذكرت العمة أنها أعطت روزالي كلمة شرف ألا تبوح بسرها .
وناقش الاثنان الأمر بعض الوقت ، وسألت العمة هنريك في غضون الحديث عما إذا كان متأكدا من أنه
لم يؤذِ إحساس الشابة ، وهو ما طمأنها في شأنه بتوكيد جازم . فقالت : آه ! صعب معاملة فتاة صغيرة مثل هذه
، في السابعة عشرة فحسب . أنت عارف يا فولك أنه إضافة إلى نزوعها الاستقلالي فإنها كانت أصغر كثيرا من أن تخطب . المرة التالية يتعين أن تكون أكثر حذرا . وفي طريقه إلى البيت ، وخلال عدة ساعات تاليات ، نظر
هنريك ثانية في حياتة السالفة . يجب أن يقر بأنه مرت عليه لحظات _ لم يندم فيها بالضبط _ ولكنه كاد يندم على
خطبته ، لا لأنه وجد أيما معابة في روزالي ، ولكن في ضوء إعادة نظره الحالية في الأمر ، سأل نفسه :
ما الذي جعله أحيانا أقل تقديرا لحظه الحسن ، بل في الحق جاحدا جدا إلى حد أن صار من الصعب عليه الآن
التأكد من شعوره السابق ؟ وعندما استفتى قلبه تذكر أنه حتى نهار أمس القريب تبدى له كأنه فاز بروزالي مفازا
جم السهولة : التقيا في مرقص بعد حين وجيز من خروجه من الكلية ، ثم حدث بعد ذلك لقاء عارض بينهما
، ونزهة ، وحالة سعادة ، ونطقت كلمة الخطبة . قبلته روزالي وحباه الحظ سعادة أعظم مما استيقنه حتى اللحظة
. نعم . تلك هي المشكلة : لم يقدر حظه الحسن جيدا . كان في أعماقه فاتر الشعور تنقصه القوة والإرادة ، كان بلا
حماسة . ولا ريب في أنها لاحظت ذلك فعاقبته الآن بقسوة ، ولكن بعدل . وظهرت له الآن في حالته هذه في تمام بهائها الذي تجاهله تقريبا وقتا ما . رآها أمام عين عقله أوضح مما سلف أن رآها بعين جسده . الآن انتهى كل شيء ، فمن بين صفات روزالي التي لحظها بالكاد أو قدرها حتى الآن تبرز صفة أكثر من سواها : كانت روزالي حازمة سامية العقل . إنها قبلته فورا بسبب مثاليتها وترفعها الأنثوي وحاجتها للتدليل إلا أنه لم يدخل
إلى دنيا الحب والخيال هذه إلا السآمة الخالصة ، ومن ثم غدا هو نفسه بالغ التعاسة ، وهنا شعر بالأسى الشديد
حينا ما . ورغم أن قوة أساه خفت بمضي الوقت إلا أن هذا الأسى لبث في قلبه وبدله كثيرا . وفي البدء هجر علوم
الدين فرغبته في دراستها كانت مفاجئة مثل خطبته ؛ فقد تحدث مع روزالي عن حياة الريف وبيوت القسس
والسعادة ، وقبل أن يعرف هذه الأمور لفظ الكلمة الحاسمة . وشعر تاليا بأن أسلوبه في الكلام تضمن وعدا بأن يأخذ روزالي إلى بيته بعد أن يغدو قسا ، ولذا اختار علوم الدين . والآن ما من مبرر لمتابعة هذه الدراسة .
فقد كل رغبة في بيوت القسس أو زوجاتهم ، أو لنقل فقدها حقيقة في أي صنف من الزوجات . وكان أن قرر
متابعة دراسة الطب التي آثرها أصلا والتي بدت له في حالته الحالية موفرة لأعظم تخلص من مشروعاته
السابقة . وعقب خمس سنوات ونصف من الدراسة الشاقة تخرج هنريك فولك ، وتهيأ ليبدأ حياته طبيبا
شابا ، وعزم على الإقامة في إحدى مدن المقاطعات . ويرجع هذا العزم بصفة خاصة إلى حقيقة أن هنريك
نمى في نفسه مع الوقت شعورا ما بالحب والخيال ، فبدا له كل شيء في كوبنهاجن مملا مبتذلا ، بينما الحياة
في مدينة صغيرة _ مع زورات للقرى المجاورة _ ما فتئت توفر فرصة للعثور على البراءة والعفوية والحب
والشعر . وسمع أن ثمة آمالا بالحصول على زبائن في مدينة صغيرة في جوتلاند ، فشد الرحال حالا إلى
ذلك المكان . ومع أن شابا حسن السمت ذا ابتسامة حزينة يترك في النفس أثرا سارا ؛ فقد واجهت المصاعب
هنريك فورا فلم يكن ثمة شقق وفيرة في ذلك المكان ، ورفض الملاك تأجيره أيا من الشقق القليلة التي راقته
خشية إيذاء إحساس زملائه الذين سبقوه في الاستقرار هناك ، ولكن حدث في ذلك الوقت تحديدا أن مات طبيب بيطري . ولما كان فولك يملك بعض المال الكافي فقد اشترى بيت البيطري من أرملته وانتقل إليه في الحال .
وفي يوم ، بعد وقت وجيز من شرائه البيت ، توقف رجل من الريف القريب أمام بوابته ، وسأل الطبيب أن
يتبعه إلى مزرعة سيده ، فسر فولك لأن خبر إقامته في المدينة وصل المزارعين في المنطقة . وفي الحال
وضع كرسيه الطبي الجديد الذي لم يستعمل حتى الآن في العربة ، وانطلق الاثنان صامتين حتى إذا غادرا
المدينة سأل فولك السائق العابس : مم يشكو مريضكم ؟ ما مشكلته في رأيك ؟ أجاب الرجل : علقت عظمة
في حلقه !
_ فاهم . ألم تحاولوا خبطه على ظهره ؟ التفت الرجل متئدا إلى الطبيب ، ونظر إليه متحيرا وقال : جائز جدا .
وهنا انقطع الحديث . وبعد برهة وافيا المزرعة الواقعة تقريبا في حافة المرج . استقبل المزارع الطبيب ودله
على الطريق إلى الشرفة وطلب له شطائر وشراب براندي ، لكن فولك كان مفقود الشهية ؛ لأنه في الحق لم
يكن يحس بأنه على ما يراد . وأخيرا أزف وقت معاينة المريض ، ودهش فولك إلى درجة ما حين قاده المزارع
إلى الباحة خلال الاسطبلات ، وتوقف عند بيت صغير منعزل قائم وسط مستنقع تنبعث منه رائحة مسرفة النتانة . فتح المزارع الباب الواطيء وأخذ الطبيب إلى خنزير ! قال : هو ذا ! كان هنري فولك نسي تمام النسيان أنه سكن بيت بيطري . تدفق الدم إلى خديه وصرخ : ماذا ؟ ! تحسبني سأعالج خنزيرك ؟! رد المزارع : حسن . أرسلنا إلى جسبرسن ليعالج الحصان . وإن شاء الله ستعالجه أنت المرة القادمة . اليوم لا بد أن تقنع بالخنزير .
_ إلى ... أنت وخنزيرك وحصانك ! قال المزارع : يجب ألا تستعمل هذه اللغة القبيحة .
واصطبغ وجهه لونا خفيفا . صاح الطبيب : هذا ما سأفعله مرة ثانية . عندما يمرض لك حيوان استدعِ
طبيبا بيطريا لا طبيبا بشريا متمرسا ! سمعت أنه لا شيء صالح لحيواناتكم في نظركم أيها المزارعون ،
لكن يندر أن تطلبوا حضور بيطري عندما يكون المريض إنسانا . قال المزارع : صحيح .
_ نعم صحيح . دعني الآن أرجع حالا إلى المدينة ! رد المزارع : اذهب ! لا أحد يمنعك الرجوع . لا أنت
ولا كلامك الفاسد . الخير أن تأخذه معك . قال الطبيب في لهجة أكثر اعتدالا : يخطر لي منذ وقت يسير أنه ربما
يكون هناك سوء فهم في جهة ما . سكنت منزل البيطري هانسن ؛ لذا ربما يفسر هذا الأمر . رد المزارع : ممكن . أتأذن بأن ترسل لي العربة ؟ _ لا . أحصنتنا لن تنقلك أو تنقل كلامك البذيء من هذا المكان . لن تنقلك حتى تعالج الخنزير أولا . _ لا تكلمني عن خنزيرك اللعين ! ودون كلمة أخرى أمسك المزارع الطبيب مسكة أوجعته ؛ إذ رفع ذراعيه إلى جنبيه بحيث صارتا فوق ردفيه ، وحمله شيئا عن الأرض ، فجعله تقريبا في وضع أفقي ،
ونقله على هذه الشاكلة إلى الخارج ، ولم ينزله إلا بعد أن قطعا مسافة ما عن المزرعة . قال : لك العار أنت ولغتك البشعة . صرخ الطبيب وجعا وغضبا : ستعيدني إلى بيتي . كرسيي الطبي عندك . تكون لصا إذا أبقيته .
فرجع المزارع إلى البيت وأحضر الكرسي ووضع فوقه كرونين وقال : خذه ! مرة أخرى لك العار .
أيقن الطبيب أنه خسر المعركة ، فقرر أن يعود إلى بيته على قدميه ، وأن يستأجر في الوقت نفسه شخصا
يجلب إليه كرسيه . ولأنه غريب عن المنطقة ؛ فلم يتذكر سوى أنه اتجه يسارا حين دخل المزرعة ، ولكنه
أغفل حقيقة أنه وضع في الجانب المقابل من المكان إغفالا تاما ، وكانت النتيجة أنه سلك الاتجاه الخطأ . ولم
يلحظ بادئ الأمر _ لانفعاله _ الأشياء المحيطة به ، ولكن حين تعجب بعد قليل من أنه لم يصل الطريق
الرئيسة ؛ اكتشف عجزه حتى عن معرفة الدرب إليها . إنه لا يرى شيئا في المرج سوى آثار
عجلات العربات . ولم تكن المشكلة في أن الليل شرع يبسط رواقه فحسب ، بل أن مطرا باردا أخذ يهطل
، كما أن ريحا ضارية أنشأت تعصف . فكر لحظة مليا محاولا وجدان وجهته ، ولما تدبر في تدقيق كل ما وقع
تذكر فجأة أن المزارع لم يضعه عند البوابة الأمامية ، وهنا تأكد من أنه سلك المسار الخطأ ، وأن عليه أن يعود
مسافة قدر التي قطعها . ولم يشأ أن يمر بالمزرعة ثانية ، إلى جانب إدراكه أنه ما دامت المزرعة لا بد
أن تكون إلى يمينه والمدينة في جنوب الضيعة ؛ فالواجب أن يمضي في خط مستقيم نحو الجنوب الشرقي ،
لكن لا يمكن اجتياز المرج تخمينا ؛ فبعد وقت قصير ضل تماما وسط نبات الخلنج وقد ابتل جسده ولفته
ظلمة مطبقة . وأخذ الموقف يتبدى خطرا حقيقيا ، ولهذا الخطر تبريره ؛ إذ زاد التوعك الذي أحسه
مستهل النهار وتصاعدت دقات الدم في خديه وسخن رأسه وآلمه ألما قويا وابتلت ثيابه وارتجف مقرورا
، وأرغم نفسه على المضي قدما في خط مستقيم ، وتابع هذا الخط ليس لأن لديه آمالا في الاهتداء
إلى طريقه وإنما ليشعر بالدفء وحتى لا ينهار . وفجأة لاح أن المرج انقلب أرضا خضرة ، واكتشف هنريك
في المدى بيتا مضاء النوافذ إلا أن مجرى مائيا كان يفصله عنه ، لكنه واصل مسيره شبه مغمى عليه . وفي
تلك اللحظة كانت امرأتان _ إحداهما عجوز والأخرى شابة في الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين _ تجلسان
في الشرفة الفسيحة العتيقة الطراز في ضيعة لوند توفت . بدت العجوز حكيمة وقورا ، أما الفتاة فكانت ذات وجه
مفعم عاطفة لابد أنه عد ملائما لبطلة قصة حب في ضيعة منعزلة . كان في وجهها انطباعة آسرة ودلت جملة ظاهرها على بساطة آسرة ، لكن كان هناك شيء لا يوصف في شخصيتها ، في ناظريها ، في بشرتها ، في شعرها ، أو ربما في الطريقة التي تكوم بها فوق رأسها والتي لا وجود لها في الأماكن المجاورة ، وبدا أنها طريقة
تخفي ذكرى ما وتتمرد على فكرة كون الأبواب موصدة ، وأنه ليس من المتوقع أن يأتي أي ضيف وإن كان مجهول الاسم . لقد عبرت الفتاة _ لمن يفهم اللغة _ لا بحروف بينة وإنما بموسيقى دون كلمات بأنها قربت كثيرا من الضيوف بنظرتها الباحثة ، بيد أنها انسحبت ثانية بعد استشارة شيء داخلها بدا أنه دائما ينصحها في اللحظة الأخيرة بالانتظار . كانت الهالة النورانية الشعرية التي أحاطت بها هي التوقع ، توقع حب ما ، بداية ما ، شك تأملي أن ذلك سيحدث ، وفي الوقت نفسه إصرار حازم لاختبار الحب سنة أخرى حتى وإن كان خداها شحبا
قليلا في الانتظار . كان رب البيت غائبا في رحلة صيد ، ولعله لم يكن رجلا مثيرا جدا ، ولكن حتى وإن كان أقل
إمتاعا لمن لم يألفه فقد يكون ترك ثغرة ، فراغا يصعب ملؤه خاصة في الريف حيث لا يتوقع الناس وصول ساعي البريد يوما أو يومين ،أو حيث عاد عامل المزرعة من رحلته إلى المدينة حاملا الكتب غير المطلوبة
من المكتبة المتجولة ، وربما عاد دون كتب بالمرة . ومن طيب الحظ أنه كان لضيعة لون توفت مكتبتها الخاصة .
وبعدما ألقت الفتاة تطريزها جانبا في ملال جلبت نسخة من ديوان أويهلن شلاجا ، وراحت تقرؤه بطلب من العجوز في جرْس عال . كان الديوان يتحدث عن قصة حب آج وإلس . وقبل أن تبلغ الفتاة ختام الديوان توقفت
فجأة هاتفة : أعجب كيف تظهر هذه الأساطير عن العشاق الذين يخرجون من أضرحتهم ؟ ! أنا على يقين أن هذه
الأساطير ليست مستمدة من الحياة الواقعية . وقاد رد العجوز الحديث إلى موضوع الأشباح ، ثم عاد في الحال إلى الحب ، ثم إلى الأشباح ثانية حتى قالت الشابة : لقاء شخص ما في هذه الحياة لديه القوة والإرادة ليظهر لنا
بعد موته أمر جدير بالاهتمام . ردت العجوز : الذين يمكن أن يظهروا لنا من الجائز ألا نراهم في النور المألوف
حتى يكونوا في قبورهم . وتلا ذلك صمت تشاغلت كلتاهما خلاله بأفكارها الذاتية ، وبغتة ظهرت الخادمة وقالت : شخص في الخارج يريد المأوى ! استفهمت العجوز : أي صنف من الناس هو ؟ _ لا أدري . يبدو فظيعا . كأنه
مغموس في ثيابه المبتلة . _ أهو مسافر ؟ _ لا . يلبس قميصا أبيض . وإن لم يعد الآن أبيض . _ ترى من يكون
؟ ! سليه عن اسمه ! خرجت الخادمة وعادت حالا تقول : مطروح في الخارج . _ ماذا تقصدين ؟ ! _ أجل . مطروح في الخارج . أخشى أنه ميت . أسرعن كلهن إلى القاعة . صرخت الشابة لرؤية هنري فولك فقد كان
هو طبيبنا الضال الأمر الذي لابد أن قارئي حدسه . أصدرت العجوز أمرها بإعداد إحدى الحجر وبوضع
بياضات دافئة على السرير ، وهلم جرا . ومرت عدة أيام قبل أن يستعيد الطبيب وعيه . وحين استعاده خبر
شيئا ربما يتوقع كل امريء لقياه في طريقه مرة واحدة في الحياة وبالذات معجزة ، شيء فائق الغرابة
والروعة يبدو أنه لا يأتي لنا من المصادر الطبيعية وفق القواعد والأهليات أو حتى صدفة . شيء لا بد
أنه يحدث لنا رحمة من الله . كانت روزالي جالسة عند سريرة أحلى من العهد بها : جميلة في تضحيتها ،
تشبه الجنية ، أكسبتها المفاجأة والغرابة وكل ما في الحدث من السحر مجدا . كيف أعاد الاثنان وصل
علاقتهما التي تفتت منذ خمس سنوات ؟ ! على قارئي تخيل هذا بنفسه . إن هذه المصافيات تصاغ في
كلمات ذات قوة غريبة وغامضة على الذين مروا بها والذين قصدوا بها في حين أنها تفقد وقعها العجيب
لدى الجميع . وربما يقال مع هذا إن المصافيات كانت مفرطة السهولة ؛ لأن روزالي لم تعتقد أن العلاقة
مع هنريك قطعت نهائيا وأنها _ وهذا قد يبدو غريبا _ حين كتبت ملاحظتها الصغيرة إليه كانت تشعر
كأن العلاقة أخرت إلى أجل ليس مسمى ولم تقطع للأبد . وليشرح هذا من يستطيع شرحه مع أنه ما عادت
له أي قيمة كبيرة أكثر من حقيقة أن هنريك أيضا خطر له في الحال أنه كان يشعر نفس الشعور . وعلى
كل حال كان هناك شيء مازال يتردد في بال روزالي بعد أن هدأت الفرحة الأولى التي شاركت فيها كل الطبيعة
، شيء لم يتوقف تأثيره المبهج والمنعش في حياتهما الزوجية ، هو المسرة التي أحست بها وهي تتخيل هنريك
يجتاز المرج على هدى حبه لها مع أنه يجهل المكان وحتى ليس راغبا في رؤيتها وهو في وضعه الصعب ذاك .
بدا لها أنها رأت بعينها شِعر الحياة يتحول واقعا وهي إلى جانب هنريك يدها على كتفه تقوده خلال نبات الخلنج
البليل ، وتدفعه خطوة خطوة نحو السعادة التي انفقدت ذات يوم . كانت تلك الذكريات مصدرا مستديما لسعادة
كبرى لها . وكلما نوقش الموضوع جلب إلى محيا الطبيب ابتسامة ممتنة حنونا ، وفي الوقت نفسه كان يسبب
له شعورا بالكدر أخفاه حريصا ؛ فلم تكن ليه الشجاعة لإخبار زوجه في كلمات جلية بأن ذلك الانعطاف الرومانسي الرائع المبارك في حياتهما كان سببه خنزيرا نشبت في حلقه عظمة .
* للكاتب الدينماركي ماير جولدشمت .
وسوم: العدد 675