بيت الأشباح
مهما تكن الساعة التي تصحو فيها فستسمع صوت إيصاد أبواب . تنقل الاثنان يدا في يد من حجرة إلى أخرى . يرفعان شيئا هنا ، يفتحان بابا هناك ، يتأكدان من شيء . إنهما شبحان .
قالت : خلفناها هنا .
فأضاف : ولكن هنا أداة .
تمتمت : في الدور العلوي .
همس : وفي الحديقة .
قالا معا : هدوءا ! وإلا سنوقظهم .
لكنهما لم يوقظاني ، كلا . في وسع الإنسان القول : " إنهما يبحثان عنها ، وإنهما ينزلان الستارة " . ويقرأ في صفحة أو في صفحتين ما يلي : " وجداها " ، يمكن قول هذا في ثقة ، وإيقاف القلم في هامش الصفحة ، وبعد أن تعييه القراءة يمكن أن يستوي قائما ، ويتأكد بنفسه . البيت خالٍ ، وأبوابه مفتحة . لا شيء سوى يمام الغابة يسجع راضيا ، وسوى صوت المذراة الواهن يأتي من المزرعة . " لم جئت إلى هنا ؟! ماذا أريد أن أجد ؟! " كنت صفراليدين . " لعلها في الدور العلوي " . التفاحات كانت في العلية . ونزلا ثانية ، الحديقة لا تزال على حالها ، وكل ما حدث أن الكتاب انزلق إلى العشب ، لكنهما وجداها في حجرة الضيافة . لا يمكن أن يراها أحد . صورة التفاحات تظهر في زجاج النافذة ، وكذلك الورود . كل الأوراق بدت خضراء في زجاج النافذة . إذا دخلا حجرة الضيافة فكل ما ستفعله التفاحة عندئذ أن تبدي جانبها الأصفر ، ومع ذلك ، في اللحظة التالية ، إذا فتح الباب ، ستنبسط على أرض الحجرة ، وعلى الجدران ، وستتدلى من السقف . ماذا ؟! كنت صفر اليدين . عبر ظل طائر دُج البساطَ ، ومن عمق بئر السكينة انتزعت يمامة سجعها ، وخفق نبض البيت خافتا : " أمان ، أمان ، أمان " ، " الكنز دفين ، الحجرة ... " ، وتوقف النبض هنيهة ، أكان ذلك هو الكنز الدفين ؟!
وبعد لحظة نصل لون النور ، أهي إذن في الخارج ؛ في الحديقة ؟! لكن الشجر صنع ظلمة لشعاع هائم ، ورغم روعة الشعاع وطرافته ونزوله باردا أسفل السطح فإنني أبحث دائما عن احتراقه وراء زجاج النافذة . كان ذلك الزجاج دائما هو الممات ، وكان هذا الممات يفصل بيننا داهيا للمرأة أولا منذ مئين السنين ، ومفارقا للبيت ، ومغلقا لكل النافذات ، وهو ما أدى إلى إظلام الحجرات . وخلف الرجل البيت ، وخلف المرأة ، وأم الشمالَ ، وأم المشرق ، ولمح النجوم تغور في سماء الجنوب ، وبحث عن البيت ، فألفاه ساقطا في سافل الوهاد ، وخفق نبض البيت محبورا : " الكنز كنزك " ، ودمدمت الريح في الجادة ، ومالت الأشجار في عدة
وِجهات ، وانداحت أشعة البدر ، وانسفحت متهيجة في المطر إلا أن شعاع السراج انساب مستقيما من النافذة . واحترقت الشمعة ساكنة جامدة ، والشبحان يبحثان عن فرحهما بالجولان في البيت ، وبفتح النوافذ ، وبالهمس حتى لا نستيقظ . تقول المرأة : نمنا هنا .
فيضيف : "وتبادلنا قبلات كثارا" ، "نصحو صباحا" ، "فضة بين الشجر" ، " في الدور العلوي " ، " في الحديقة ... " " حين قدم الصيف " ، " زمن انهمار ثلوج الشتوة " . ويتصل إيصاد الأبواب في المدى النائي ، وتسمع عليها دقة في رقة نبضة قلب ، ويقتربان ، يتوقفان عند مدخل البيت ، وتهجع الريح ، وينساب المطر مفضضا على زجاج النافذة ، وتغشى الظلمة عيوننا ، ولا نسمع صوت خطا جانبَنا ، ولا نرى سيدة تبسط عباءتها الشبحية ، وتحجب يدا الرجل السراج . " انظري ! " إنه يتنفس ، " ينام نوما صحيا ، الحب على شفتيهما " ، وانحنيا فوقنا حاملين سراجهما الفضي ، يطيلان النظر عميقا ، ويصمتان مطولا . وتهب الريح في وجهة مستقيمة ، ويميل لهب السراج بعض ميل ، ويجتاز نور البدر الوحشي الأرضية والجدار ، ويلتقي الاثنان ، الريح والنور ، فوق الوجهين المائلين ، الوجهين المفكرين ، الوجهين الباحثين عن النيام وفرحهم المكنون . ويخفق قلب البيت مختالا : " أمان ، أمان ، أمان " ، ويتنهد الشبح : " أعوام طوال ..." ، " لقيتني ثانية " ، فتتمتم :" هنا نمنا في الحديقة ، نقرأ ، نضحك ، ندحرج التفاحات في العلية ، هنا خلفنا كنزنا " ، وينحنيان ، ويفتح نورهما جفني ، ويخفق نبض البيت وحشيا : " أمان ، أمان ، أمان "، فأصحو هاتفا :" أهذا كنزك الدفين ؟! إن النور لفي القلب " .
*للكاتبة البريطانية فرجينيا وولف ( 1882 _ 1941 ) .
وسوم: العدد 686