في الغربة
صحا مبكرا ذاك اليوم وفق دارج عادته ، ونسق زهور الخزامى في أقفاص الشحن ، وساعد في إيداعها بعناية في العربة ، ووقع بيان شحنها ، ثم رجع إلى البيت دون أن يلتفت خلفه . كان دائما عازما ألا يلتفت خلفه . وفكر بعد أن فتح باب بيته : " لو كانت زهور الخزامى ناسا لعجزوا عن حبس دمعة أو دمعتين " . جلس في شرفة البيت ، وشرع يخطط ليوم عمل تالٍ . ألف نمط حياته اليومي هذا منذ أن قدم إلى هذه البلاد قبل اثني عشر عاما بما أن هذا العمل في قدرته حفظ بقائه في الحياة . عمل ساعات طوالا ليل نهار حتى الصباح . وساعده نشاطه الموصول في استبعاد ذكرياته. وحالُ رفاقه من مواطنيه البرازيليين تشابه حاله ، هم أيضا ليس لديهم وقت لسوى العمل . اختزل معنى حياتهم كلهم في صورة طحن رحى يومي . السماء الزرقاء هنا دائمة الإشراق في صباحات الأيام الباردة . أما في البرازيل فهي أعمق زرقة ، وزرقتها الداكنة تتباين مع خضرة النباتات العميقة . وأخيرا أغمض عينيه . لقد ألف أحلام اليقظة في وحدته ، وصارت صور الماضي تعتاده دون انقطاع مشحونة بالتوق إلى الوطن إلا أن ما تجلبه من أسى ينشب في حلقه فارقه من زمن بعيد . تذكر اليوم الذي عزم فيه على الرحيل من بلاده . عزم على ذلك حين كان جالسا على الشط دون عمل أو أمل ، ينظر إلى انعكاس الشمس على الماء غاربة في الأفق . عساه يذهب إلى مكان آخر يحيا فيه بسلام . ولم يحزم لرحيله سوى الأساسيات ، واختار أحسن ملابسه من الخزانة ، وأخذ كتابين أحب قراءتهما في الغربة ، وصورة أمه . المؤكد أن الحزن سيوافيه ضيفا ثقيلا متطفلا جاهلا ما سيجلبه له من إزعاج وتنغيص بال . وتلفت حوله ، وأراد تذكر تفصيلات الغرفة ، وتأكد أنه لم يعد قادرا على النوم فيها بعد هذه اللحظة إذ يوشك أن يرحل . وتملكه الخوف حين ركب الطائرة ، وفكر : " كلهم ينظرون إلي كأنما يعلمون أسراري ." . وجلس جوار امرأة أميركية ، واستشعر البله لعدم قدرته على الكلام بالإنجليزية ، وجاءه النوم سهلا بعد كأسي نبيذ ، وحين صحا كانت المدينة الغريبة أمامه كأنها لوحة شطرنج كبيرة . كانت شوارعها جلية العلامات ، وكل بيت متناسق البناء ، وكل السقوف بنفس اللون . وعاوده الخوف ، وتساءل : " هل أستطيع العيش في بلد غريب ؟! " . ودخل البيت لصنع القهوة التي ما فتىء يستعمل في صنعها طريقة التقطير العتيقة حيث يستعمل قمعا قماشيا عتيقا استحال لونه بنيا لكثرة استعماله ، ولأنه يخلف فضلة في قاعه في كل مرة . وشاع عبير القهوة المألوف في أرجاء البيت ، ورأى من النافذة العامل الذي يعمل عنده يقطع أوراق الخزامى اليابسة . ووضع فنجان قهوته ، وانسابت صور الماضي أمام عينيه وراء زجاج النافذة : الليالي التي باتها في بيوت الغرباء حين كان يعرض جسده في مختبرات التجارب والبحوث مثل خنزير غيني مقابل دولارات زهيدة ، ويحمل حجارة البناء حتى تقطر يداه دما ، ويتوارى في البقاع الغريبة خشية ترحيله . ولم يذق راحة البال إلا بعد أن عمل في محطة غاز . واستعاد تذكار ذاك اليوم العظيم الرائع حين سألته سيدة برازيلية أن يستبدل لها إطار سيارتها ، فأخبرها خبر ماضيه خلال حديثهما ، وكادت عيناها تفارقان محجريهما حين أخبرها أنه يحمل شهادة طبيب من جامعة السوربون في فرنسا . وفورا نظرت إليه من منظور مختلف كأنه انقلب طائرا نادرا ، وهزت رأسها ، ودارت حول المحطة ، وقالت : غدا سأحضر ابنتي لتتعارفا !
ونفحته نفحة مالية سخية ، وعادت إلى بيتها موجوعة القلب من حاله وعيناها لا تزالان مفتوحتين وسعَهما . وقال لنفسه حين تباعدت : أنا الوحيد الملك للماضي الخاص بي . لا أحد يحق له أن يأخذه مني . لا أحد .
ولحظ في صباح بارد عاصف يماثل جو بلاده سيارة السيدة قادمة في البعد ، وشعر مع اقترابها أن حياته لن تكون بعد اليوم ما كانته قبله . كانت لورا على جانب أمها في السيارة للقاء " الشاب الذي صار طبيبا في فرنسا " . حياها في شيء من الحياء ، وأزال ما فوق جبهته من الثلج الذي كان نزوله تواصل أياما دون استكفاف . كانت لورا تضع في حجرها وعاء لزهور الخزامى فيه زهرة منها حمراء في لون الدم ، زاخرة بالحياة ، وجائعة للغذاء والمغازلة ! أيهما أحبها أكثر من الأخرى ؟! لورا أم زهرة الخزامى ؟! الحقيقة لم تنفصل الاثنتان في نظره من تلك اللحظة . فورا ملأت لورا حياته القفر الخالية ، حقا ودون مغالاة . وما برح يتذكر اليوم الذي دخلت معه فيه البيت أول مرة . صعدت السلم حاملة حقيبة صغيرة ، وطلبت منه منبهرة منفعلة أن يحضر من سيارتها سبعة أوانٍ صغيرة هي مجموعتها من الخزامى . واتخذت لنفسها نصف الخزانة ، وركنا صغيرا في الغرفة ، ومكتبة في غرفة المعيشة ، ودلفت إلى المطبخ ، فاغتدت ربة البيت الذي غزته الموسيقا والأطعمة والروائح البرازيلية بعد سنوات طويلة من الغربة والعزلة . وأعادت لورا إلى الشاب الكثير من الذكريات التي قمعتها طويلا مكابداته في الغربة . وتمايل جسده مع الموسيقا ، وارتاحت نفسه لأطعمته الأثيرة ، ولروائح الماضي الزكية وألوانه البهية . وقضى ليلة ممتعة مع لورا .
*الكاتبة البرازيلية كلاريس بانديرا دي ميلو .
وسوم: العدد 716