حوارية تاريخية
حوارية تاريخية
يحيى بشير حاج يحيى
عضو رابطة أدباء الشام
- في البداية سنبدأ بالبداية.
- وفي النهاية ستنتهي بالنهاية.
- أخطأت يا صاحبي.
- وأين الخطأ؟! إنني نسجت على منوالك، فأنت قلت: في البداية سنبدأ بالبداية، وأنا قلت في النهاية سننتهي بالنهاية؟!
- أنا لم أقصد هذا الذي فهمته!
- وماذا تقصد إذاً؟
- أقصد أننا عندما نريد أن تتجوّل في رحاب الماضين، فعلينا أن نبحث عن رجل بدأ تاريخه منذ بدء الخلق، وهذا الذي قصدته بالبداية.
- الآن فهمت.. ولكن قل لي: هل هناك مَنْ فعل ذلك؟!
- نعم! يا عزيزي.
- مَن على سبيل المثال؟
- أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي.
- ابن كثير صاحب التفسير؟
- نعم، ابن كثير المتوفى 774 للهجرة.
- هل لك أن تزيد معلوماتي عن هذا الرجل؟
- على الرحب والسعة.. ابن كثير –يا صاحبي- ولد سنة إحدى وسبع مئة كما ذكر ذلك في البداية والنهاية، وذلك في قرية من أعمال بُصرى، ثم انتقل مع أخيه الأكبر بعد وفاة والده إلى دمشق، وعاصر هجوم التتار، والمجاعات التي حلت بالناس!
- سمعت أن تفسيره المسمى تفسير القرآن العظيم له منهج خاص يدعى التفسير بالمأثور، فما المقصود بذلك؟
- المقصود بالتفسير بالمأثور هو كل ما ثبت بالنقل من بيان لآيات الله تعالى بآيات من القرآن الكريم، وهو تفسير القرآن بالقرآن أو ما ورد عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- من تفسير لآيات القرآن الكريم، ويلحق بهذا ما روي عن الصحابة والتابعين من بيان إيضاح للقرآن الكريم.
- الحقيقة أنني اقتنيت هذا التفسير منذ مدة قريبة، ولم يتيسر لي بعد المطالعة فيه، وهو من أربعة أجزاء من القطع الكبير.
- ولا تنسَ أن الأستاذ أحمد محمد شاكر اختصره ليكون مرجعاً للجيل المسلم، وسماه (عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير).
- هذا عمل عظيم!!
- وكذلك اختصره الشيخ محمد علي الصابوني في ثلاثة أجزاء، وسماه (مختصر تفسير ابن كثير).
- لقد زدتني شوقاً للتعرف أكثر على هذا العالم الجليل، وعلى أمثاله من العلماء.
- أمثاله في تاريخنا كثير جداً، ولكتابه البداية والنهاية الذي بلغ أربعة عشر مجلداً أشباه وأشباه..
- مَنْ على سبيل المثال؟
- سبط ابن الجوزي في كتابه في التاريخ المسمى (مرآة الزمان) وقد بلغ أربعين مجلداً..
- أربعون مجلداً؟
- والخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد) البالغ أربعة عشر مجلداً، والكامل لابن الأثير في اثني عشر مجلداً، وشرح النبات لأبي حنيفة الدينوري، وقد بلغ ستين مجلداً.
- ما شاء الله!! ستون مجلداً!؟ هل هناك كتاب أكبر من هذا؟
- نعم هناك كتاب الفنون.
- ولمن هذا الكتاب؟
- هو لأبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي المتوفى 513 للهجرة، يقول عنه الإمام ابن الجوزي: هو كتاب كبير جداً، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ والتفسير والفقه وأصول الفقه وأصول الدين والنحو واللغة والشعر والتاريخ والحكايات، وفيه مناظراته ومجالساته التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قيّدها فيه.
- إنه لرجل عظيم؟
- وقال الحافظ الذهبي عنه: لم يصنّف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب.
- كيف استطاع هؤلاء العلماء توفير الوقت اللازم لمثل هذا التآليف؟
- سأجيبك بما قاله أبو الوفاء صاحب الفنون، قال: إني لا يحل لي أن أضيّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة أعملتُ فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم، وأنا في عمر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.
- ما شاء الله! ما شاء الله! لا قوة إلا بالله!!
- ويقول: أنا أُقصّر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفَّ الكعك، وتحسية الماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفراً على المطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجلّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت فهو غنيمة تُنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة، والأوقات خاطفة..
- أرانا قد بعدنا عن صاحبنا ابن كثير، ولم نبدأ بعد بالبداية، فمتى تكون النهاية؟؟
- أحس أنك تريد أن تتعرف أكثر على هذا الكتاب، ولكن أريد أن ألفت نظرك إلى أمرين.
- ما هما؟
- أولهما: أن هناك كتاباً اشتهر بين الناس باسم (قصص الأنبياء) لابن كثير، وهو ليس كتاباً مستقلاً، بل هو مأخوذ من البداية والنهاية.
- وثانيهما؟
- قل: وآخرهما، لأنني حددت لك لفت النظر بشيئين.
- وآخرهما؟
- وآخرهما أن هناك كتاباًَ تحت عنوان (السيرة النبوية) لابن كثير، وهو ليس كتاباً مستقلاً أيضاً، فهو مأخوذ من البداية والنهاية أيضاً!!
- ولكن..
- ولكن تفيد الاستدراك، فلا تستدرك عليّ، لأنني لم أنته من كلامي بعد، وهناك أيضاً كتاب تحت عنوان (شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه) وهو مستل من البداية والنهاية.. وهناك اختصار للسيرة النبوية المأخوذة من البداية والنهاية مطبوع تحت عنوان (الفصول في اختصار سيرة الرسول).
- متى سنبدأ؟ بل هل سنبدأ؟
- بالطبع سنبدأ ولكن لابد للبداية من بداية.
- إذاً فلنبدأ.
- نبدأ بأقسام الكتاب، فهو ينقسم إلى ثلاث: الأول: يتناول الفترة الممتدة بين خلق العرش والكرسي والسماوات والأرضين وما فيهن، وما بينهن من الملائكة والجان والشياطين وكيفية خلق آدم، وقصص النبيين، وما جرى مجرى ذلك إلى أيام بني إسرائيل، وأيام الجاهلية حتى تنتهي النبوة إلى أيام النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
والثاني: يتناول الفترة الممتدة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى سنة 768 هجرية أي قبل وفاة المؤلف بست سنين، وأما الثالث فيتناول الفتن والملاحم وأشراط الساعة، والبعث والنشور وأهوال القيامة، وصفة الجنة والنار.. فمن أين تحب أن نبدأ؟
- لا أدري! فأنا أمام بحر زاخر، وأفضل أن ننتظر فرصة أخرى بحيث أكون أكثر استعداداً.
- كما تحب..
المراجع:
1- البداية والنهاية لابن كثير.
2- لمحات من المكتبة والبحث والمصادر د. محمد عجاج الخطيب.
3- قيمة الزمن عند العلماء للشيخ عبد الفتاح أبو غدة.