عمرو بن العاص
أبطال خالدون
عمرو بن العاص
عبد الله الطنطاوي
[email protected]
الراوي: نحن الآن في مكتبة الشيخ محمود، ننتظر قدوم حفيديه النشيطين: أحمد وفاطمة.
أرى الشيخ محموداً يقرأ في كتاب، وهو يهزّ رأسه ويبتسم.
مؤثر: أصوات مشي.
الراوي: أسمع وقع أقدام.. يبدو أن الحفيدين قادمان.. ما أدقّ مواعيدهما.. يا ليت
الناس يتقيّدون بالمواعيد كما يتقيّدان.
مؤثر: نقرات على الباب.
الجد: ادخلوا يا أحفادي.
مؤثر: صوت فتح باب وإغلاقه.
الحفيدان: السلام عليكم ورحمة الله..
الرجلان: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الجد: اجلسوا يا أولادي.. يا من تحترمان أنفسكما باحترام مواعيدكما.. ويا ليت
الآخرين يحترمون الوقت، فيحترموا أنفسهم، ويحترموا الآخرين.
أحمد: والآن يا جدي.. عمن سوف تحدّثنا الليلة؟
الجد: سوف أحدّثكم عن أرطبون العرب.
فاطمة (في فرح): تعني القائد الداهية: عمرو بن العاص يا جدي؟
الجد: نعم يا حفيدتي الغالية.. أعني بأرطبون العرب، القائد الحكيم، داهية العرب:
عمرو بن العاص رضي الله عنه.
الجميع: رضي الله عنه.
أحمد: لماذا تصفه بأرطبون العرب يا جدي؟
الجد: لهذه التسمية حكاية طريفة سوف أحكيها لكم عندما يأتي دورها الليلة.. أما
الآن، فأحب أن أتدرّج معكم في تعريفه.
أحمد: كما تحبُّ يا جدي.
الجد: اسمه الكامل: عمرو بن العاص بن وائل السَّهميّ القرشيّ. ولد في مكة المكرمة
قبل خمسين سنة من الهجرة، ونشأ وترعرع فيها.. وكانت أسرته من الأسر القرشسة العريقة
والغنيّة.
فاطمة: ولكنه لم يكن من المسلمين الأوائل.
الجد: هذا صحيح يا فاطمة.. تأخّر إسلام عمرو، وعادى النبيّ الكريم وأصحابه، وحاول
التأثير على صديقه نجاشي الحبشة، من أجل إعادة المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة،
فراراً بدينهم من مشركي مكة.
أحمد: متى أسلم إذن يا جدي؟
الجد: أسلم في الهدنة التي كانت بعد صلح الحديبية.
فاطمة: هل كانت هدنة الحديبية طويلة يا جدي؟
الجد: استمرت اثنين وعشرين شهراً بين المسلمين وبين المشركين من قريش.
فاطمة: يعني.. استمرت سنتين إلا شهرين.
الجد: نعم يا ابنتي، وقد أمن الناس خلالها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.
أحمد: كيف أسلم عمرو بن العاص يا جدي؟
الجد: خرج عمرو من مكة المكرمة، قاصداً رسول الله
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد: في المدينة المنورة، قبل فتح مكة المكرمة.
فاطمة (مستذكرة): يعني.. في السنة الثامنة للهجرة.. أليس كذلك يا جدي؟
الجد: بلى يا ابنتي.. في السنة الثامنة للهجرة.. وفيما كان عمرو في طريقه إلى
المدينة المنورة، التقى صديقيه: خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، رضي الله عنهم
جميعاً.
أحمد: هل كانا ذاهبين إلى المدينة ليسلما يا جدي؟
الجد: نعم يا ولدي.. التقاهما عمرو، فقال لخالد:
- إلى أين يا أبا سليمان؟
فأجابه خالد بن الوليد رضي الله عنه:
- واله لقد استقام المَنْسِم (أي تبيّن
الطريق ووضح) وإنّ الرجل لنبيّ، وأنا ذاهب إليه لأسلم، فحتى متى؟
فقال عمرو:
- وأنا والله ما جئت إلا لأسلم.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
الراوي: وقدم الثلاثة المدينة المنورة، ودخلوا على رسول الله
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الراوي (متابعاً): فتقدّم خالد فأسلم وبايع.
الحفيدان: الله أكبر..
الراوي: ثم تقدّم عثمان بن طلحة فأسلم وبايع.
الحفيدان: الله أكبر.
الراوي: ثم دنا عمرو بن العاص من النبيّ الكريم وقال له:
- ابسط يمينك أبايعك يا رسول الله.
فبسط النبيّ الكريم يده، ولكنّ عَمْراً
قبض يده.
الحفيدان: أعوذ بالله.
الراوي: فسأله الرسول القائد: مالك يا عمرو؟
قال عمرو: أردت أن أشترط.
فسأله الرسول القائد: تشترط ماذا؟
قال عمرو: أشترط أن يُغفر لي ما تقدّم
من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر.
الجد: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما علمت يا عمرو:
أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟
وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها؟
وأن الحج يهدم ما كان قبله؟
الراوي: فقال عمرو: لقد رأيتني وما من أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولا أجلّ في عينيّ منه، ولو سُئلتُ أن أنعته ما أطقت، لأني لم أكن أطيق أن
أملأ عينيّ منه، إجلالاً له.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
الجد: وكأن الرسول الكريم عرف حقيقة إسلام عمرو، فقال قولته الرائعة:
"أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص".
فاطمة: ما أروع هذا الكلام!
أحمد: وما أعمقه!
الجد: ومنذ تلك اللحظة، وثق رسول الله بعمرو ثقة كبيرة.
الراوي: حتى قال عمرو رضي الله عنه: والله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا بخالد أحداً من أصحابه في الحرب منذ أسلمنا.
أحمد: في أيّ شهر أسلم عمرو وخالد يا جدي؟
الجد: في شهر صفر عام ثمانية للهجرة.
فاطمة: نريد مثالاً على ثقة النبيّ بعمرو يا جدي.
مؤثر: أصوات معركة.
الجد: بعد ثلاثة أشهر من إسلام عمرو، عقد له الرسول القائد
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد (متابعاً): لواء الحرب.. ففي شهر جمادى الآخرة، اختاره الرسول القائد ليكون
أميراً على سرية (ذات السلاسل)، التي تبعد عن المدينة مسيرة عشرة أيام، وكان تحت
إمرته ثلاث مئة مجاهد من خيار المهاجرين والأنصار.
الراوي: وقال له الرسول القائد وهو يعقد له لواء الحرب:
"إني أريد أن أبعثك على جيش، فيغنمك
الله ويسلّمك".
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
أحمد: وفرح بهذا عمرو يا جدي؟
الجد: بل قال عمرو للرسول القائد: يا رسول الله، إني لم أسلم رغبة في المال.
الراوي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو:
"يا عمرو، نعم المال الصالح، للرجل
الصالح".
الجد: عقد الرسول القائد لعمرو لواء أبيض، وراية سوداء، ومضى مجاهداً في سبيل الله،
ولكنه عرف أنّ الذين جاء ليغزوهم قد جمعوا له جموعاً لا طاقة له بها، فأرسل إلى
النبيّ يطلب المدد، فأمدّه الرسول القائد بمئتي مجاهد من المهاجرين والأنصار، كان
على رأسهم القائد البطل: أبو عبيدة بن الجراح، وكان فيهم: أبو بكر وعمر وسواهما من
كرام الصحابة
الجميع: رضي الله عنهم.
الراوي: كان عمرو يكمن في النهار، ويسير في الليل، حتى يغيب عن أنظار العدو، وكان
الوقت شتاء، واشتدّ عليهم البرد، فجمع الصحابة حطباً ليشعلوه ويتدفّؤوا عليه،
فمنعهم عمرو من إيقاد النار.
الجد: خشي عمرو أن يرى العدوّ قلّة عدد المسلمين، فيطمعوا بهم، ويهاجموهم، فغضب عمر
بن الخطاب، وقال لأبي بكر:
- ألا ترى ما يفعل عمرو؟ إنه يمنع
الناس أن يوقدوا ناراً..
الراوي: فقال له أبو بكر رضي الله عنه:
- دعه يا عمر، فإنّما ولاّه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعلمه بالحرب.
الجد: فسكت عمر، وقال عمرو لمن اعترض على أمره هذا:
"أُمرتَ أن تسمع وتطيع". فسمعوا له
جميعاً وأطاعوا.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
الراوي: وأوقع عمرو بالمشركين، فانهزموا، وأراد المسلمون مطاردتهم، فمنعهم عمرو،
وعندما عاد المسلمون إلى المدينة شكوا عمراً، فشرح عمرو للرسول القائد سبب منعهم من
مطاردة عدوهم قائلاً:
خفت أن يكون لهم مدد، وأن تكون لهم
كمائن، فنقع فيها.
أحمد: واقتنع الرسول بهذه الحجج؟
الجد: بل حمدها لعمرو، وامتدح عمله هذا.
فاطمة: ما أعظمك يا سيدي يا رسول الله.
الجد: وشكا المسلمون عمراً لأنه منعهم من إشعال النار للتدفئة، وشرح عمرو الموقف
الدقيق للنبي الكريم، فأقرّه النبيّ على صحة موقفه، وامتدحه.
الحفيدان: صلى الله عليك يا سيدنا يا رسول الله.
الراوي: وبعد ثلاثة أشهر من سرية ذات السلاسل، في شهر رمضان المبارك بعث الرسول
القائد عمراً على رأس سرية لهدم الصنم (سُواع) فسار إليه عمرو، وكان عند الصنم
سادنه.. أي خادمه.. فسأل عمراً: ماذا تريد؟
الجد: فقال له عمرو: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه.
الراوي: قال السادن: لا تقدر على ذلك.
الجد: فسأله عمرو: لماذا؟
الراوي: قال السادن: تُمنع.
الجد: فقال له عمرو رضي الله عنه:
حتى الآن أنت في الباطل؟ ويحك! هل يسمع
أو يبصر؟
الراوي: ثم دنا منه عمرو فكسره، وأمر أصحابه أن يهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه
شيئاً.
الجد: ثم قال عمرو للسادن: كيف رأيت؟
الراوي: قال السادن: أسلمتُ لله.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
الجد: وشارك عمرو في فتح مكة المكرمة، وفي غزوة حنين، وبعد هزيمة المشركين في حنين،
أمره النبي بمطاردتهم في جهة، وأمر خالداً بمطاردتهم في جهة أخرى.
أحمد: رضي الله عن عمرو وعن خالد.
الراوي: وشارك عمرو في حصار الطائف تحت لواء الرسول القائد.
الجد: ولكنّ بني ثقيف ثبتوا أمام هذا الحصار، فأثنى عيينة بن حصن على ثباتهم
وصمودهم، فقال له عمرو:
- قاتلك الله! تمدح قوماً مشركين
بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جئتَ تنصره؟
الراوي: وكان الرسول القائد يسمّي عيينة هذا، بالأحمق المطاع، فقد كان أحمق، كما
سمعنا، وكان يطيعه عشرة آلاف من عشيرته.
أحمد: متى كانت كل تلك الحوادث يا جدي؟
الجد: حدثت كلها في شهر شوال سنة ثمان للهجرة؟
أحمد (متسائلاً): تعني.. فتح مكة، وهدم سواع، وغزوة حنين؟
الجد: وحصار الطائف أيضاً يا أحمد.. كلها حدثت في شهر شوال.
أحمد: كل هذه الحروب في شهر واحد؟ فمتى كان يستريح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجد: راحته كانت على صهوة جواده، وفوق ظهر ناقته القصواء.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الجد: كان الرسول وأصحابه الكرام في جهاد دائم، لو فعل العرب والمسلمون واحداً في
الألف مما عملوا، لما وصلوا إلى هذه الحال البائسة التعيسة.
فاطمة: صدقتَ يا جدي.
أحمد: ثم ماذا عن هذا القائد الداهية يا جدي؟
فاطمة: عفواً يا جدي.. سمعت أن هناك أربعة دهاة في العرب، فهل عمرو بن العاص واحد
منهم؟
الجد: نعم يا فاطمة، والثلاثة الباقون من دهاة العرب، هم: معاوية بن أبي سفيان،
والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبي سفيان.
الراوي: وفي شهر ذي القعدة من السنة نفسها، بعثه الرسول القائد إلى عُمان، وحمّله
رسالة إلى ملكها: جَيْفَر بن الجُلُنْدى، وإلى أخيه عبد، يدعوهما إلى الإسلام، وختم
النبيُّ الرسالة، فلما وصل عمرو إلى عُمان، ذهب إلى عبدٍ أخي الملك أولاً، لأنه كان
حليماً خلوقاً، وقال له:
- يا عبد، أنا رسول رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليك وإلى أخيك الملك.
الجد: وأوصله عبد إلى أخيه الملك، فسلّمه الرسالة النبوية المختومة، ففضّها الملك
وقرأها، ثم دفعها إلى أخيه عبد فقرأها، وبعد حوار ونقاش، تمكّن عمرو من إقناعهما
بالإسلام، فدخل الملك وأخوه في هذا الدين، وصدّقا بالنبي الكريم، ودخل معهما قومهما
جميعاً.
الحفيدان: الله أكبر.
أحمد: ما أدهاك أيها القائد المحنّك عمرو!
الراوي: وأرسل عمرو من يخبر النبيّ بإسلام ملك عُمان وأخيه وقومه، وفرح النبيّ
أيّما فرح بهذا الفتح، وحمد الله تعالى على توفيق عمرو، وأمره بأن يبقى في عُمان
ليعلّم الناس أمور الدين، ويقرئهم القرآن، وكلّفه بجباية الصدقات، وبالحكم بين
الناس.
الحفيدان: الله أكبر.. الله اكبر..
أحمد: وكم بقي في عُمان يا جدي؟
الجد: إلى أن جاءته الأخبار بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغادر عُمان، ومضى
حتى وصل إلى البحرين، فوجد المنذر بن ساوى على فراش الموت، فقال له المنذر:
- يا عمرو، أشِرْ عليّ في مالي بأمر
يكون لي ولا يكون عليّ.
فأشار عليه عمرو: أن يتصدّق بعقار صدقة
تجري من بعده، صدقة جارية، ففعل المنذر وتصدّق.
الراوي: ثم خرج عمرو فسار في بني تميم، ثم خرج إلى بلاد بني عامر، فنزل على أميرها
وشيخها: قُرّة بن هبيرة، وكان قرّة يقدّم رجلاً ويؤخّر رجلاً في الردّة، فاستقبل
عمراً وأكرمه، ثم خلا به، وقال له:
- يا عمرو، إن العرب لا تطيب لكم
بالإتاوة نفساً، فإن أنتم أعفيتمونا من أخذ أموالها، فسوف تسمع لكم وتطيع، وإن
أبيتم، فلا أرى أن تجتمع عليكم.
الحفيدان: يا لطيف!
الجد: يريدون الامتناع عن دفع الزكاة، كما فعل المرتدّون من العرب، بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
الراوي: فقال له عمرو بحزم وقوة: أكفرت يا قرّة؟ أتتوعدنا بالعرب، وتخوفّنا منهم؟
أم تريد أن تخوّفنا بهم؟ فوالله لأوطئنّ عليك الخيل.
الجد: لقد تذكّرت حديثاً رائعاً فاسمعوه.
روى الإمام أحمد، عن علقمة بن رمثة:
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث عمرو بن العاص إلى البحرين، فخرج رسول الله
في سرية، وخرجنا معه، فنَعَس وقال:
- يرحم الله عمراً.
فتذاكرْنا كلَّ من اسمه عمرو، قال:
فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
- رحم الله عمراً.
ثم نعس الثالثة، فاستيقظ فقال: رحم
الله عمراً.
قلنا: يا رسول الله مَنْ عمرو هذا؟
قال: عمرو بن العاص.
قلنا: وما شأنه؟
قال: كنت إذا ندبت الناس إلى الصدقة،
جاء فأجزل منها، فأقول: يا عمرو، أنّى لك هذا؟ فقال: من عند الله. قال: وصدق عمرو:
إنّ له عند الله خيراً كثيراً.
الحفيدان: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجد: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبّ عمراً، وكان عمرو أحد عماله،
وأحد قادته، وأحد سفرائه العظام.
الحفيدان: رضي الله عنه.
الجد: وقد كان لعمرو دور كبير في القضاء على فتنة الردّة، واسمعوا ما كان من أمره
مع مسيلمة الكذّاب الذي ادّعى النبوة.
الراوي: ترك عمرو قُرّة ومضى إلى المدينة المنورة، وفي طريقه مرَّ باليمامة، وزار
مسيلمة الكذّاب، بعد أن أعطاه الأمان، قال له مسيلمة:
- إنّ محمداً أُرسل في جسيم الأمور،
وأُرسلتُ في المحقّرات.
فقال له عمرو: اعرض عليّ ما تقول.
فقال مسيلمة الذي يدّعي أن الوحي الذي
نزل على محمد، ينزل عليه بهذه الآيات.. فاسمعوها.
الجد: قال مسيلمة: يا ضفدع نقّي فإنك نعم ما تنقّين، لا زاداً تنقّرين، ولا ماء
تكدّرين.
الراوي: فضحك عمرو في سرّه، وقال له: زدني.
الجد: فقال مسيلمة: يا وَبْرُ يا وَبْرَ، ويدان وصدر، وبيان خلقه حفر.
فاطمة: ما أسخف هذا الكلام.
الجد: إنه يزعم أنه آيات من عند الله.
الراوي: واسمعوا ما يرويه عمرو مما رآه عند مسيلمة الكذاب.
الجد: قال عمرو: ثم أُتي مسيلمة بأناس يختصمون في نخلات قطعها بعضهم لبعض، فتسجّى
مسيلمة قطيفة، ثم كشف رأسه وقال:
"والليل الأدهم، والذئب الأسحم، ما جاء
ابن أبي مسلم من مجرم".
الراوي: ويتابع عمرو روايته عن مسيلمة الكذاب فيقول: ثم تسجّى مسيلمة مرة ثانية
فقال:
"والليل الدامس، والذئب الهامس، ما
حُرْمَتُه رُطَباً إلا كحُرْمتِه يابس، قوموا فلا أرى عليكم فيما صنعتم بأساً".
الجد: فقال عمرو لمسيلمة: أما والله إنك كاذب، وإنك تعلم أنك من الكاذبين.
الراوي: فتوعّده مسيلمة وهدّده، وعمرو خارج من عنده، لا يخاف تهديده ووعيده.
الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..
الجد: وفي المدينة المنورة، قابل الخليفة أبا بكر، وبايعه، وأخبره خبر القبائل
العربية التي ارتدّت عن الإسلام، وكان ردّ الخليفة سريعاً، فقد عقد أحد عشر لواء
لحرب المرتدّين، وكان عمرو واحداً من أولئك القادة المنصورين الذين أرسوا دعائم
الدولة الإسلامية على أسس قوية.
الراوي: وبعد انتصار عمرو، أعاده الخليفة الصدّيق إلى عمله في عُمان، فقضى على فتنة
المرتدين، ونظّم شؤون المسلمين هناك، وجبى الزكاة، وفصل في الخصومات.
الجد: وذات يوم، تلقّى عمرو رسالة من الخليفة أبي بكر جاء فيها:
"إني كنت قد رددتك على العمل الذي
ولاّك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة، ووعدك به أخرى، إنجازاً لمواعيد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقد وليته، وقد أحببتُ أن أفرّغك لما هو خير لك في الدنيا
والآخرة، إلا أن يكون الذي أنت فيه، أحبَّ إليك يا ابا عبد الله".
أحمد: وبماذا أجابه يا جدي؟
الجد: كتب عمرو إلى الخليفة أبي بكر رسالة جوابية قال فيها:
"إني سهم من سهام الإسلام، وأنت، بعد
الله، الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدَّها وأخشاها وأفضلها، فارم به شيئاً إن
جاءك من ناحية من النواحي".
فاطمة: الله أكبر! ما أفصحه!
الراوي: وأرسل إليه الخليفة رسالة جديدة قال فيها:
"إني قد استعملتُك على من مررت به من
العرب، فاندبهم إلى الجهاد في سبيل الله، ورغّبهم فيه، فمن تبعك منهم، فاحمله
وزوّده، ورافقْ بينهم، واجعل كلّ قبيلة على حدتها ومنزلها".
الجد: وفعل عمرو ما أمره الخليفة الصديق، وفي المدينة المنورة عقد له الخليفة راية
الجهاد، وكان عمرو أول من أرسله الخليفة على رأس جيش إلى الشام، وكان مؤلّفاً من
ثلاثة آلاف مجاهد، وأمّره على فلسطين، وأوصاه بهذه الوصيّة الرائعة:
الراوي: قال له الخليفة الصديق رضي الله عنه:
"اتق الله في السر والعلانية، فإنه من
يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يكفّر عنه سيّئاته
ويعظم له أجراً، فإنَّ تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله.. وإنك في سبيل من سبل
الله، لا يسعك فيه الإذهان والتفريط والغفلة عمّا فيه قِوام دينكم، وعصمة أمركم،
فلا تَنِ ولا تَفْتُر".
فاطمة: يا سلام! ما أروع هذه الوصيّة!
أحمد: متى كان هذا يا جدي؟
الجد: يوم الخميس، الأول من شهر صفر، سنة ثلاث عشرة.
الراوي: ولمّا أراد عمرو الخروج بالجيش، خرج معه الخليفة مودِّعاً، وقال له:
" يا عمرو، إنك ذو رأي وتجربة بالأمور،
وبصر بالحرب، وقد خرجت مع أشراف قومك، ورجال من صلحاء المسلمين، وأنت قادم على
إخوانك، فلا تألُهم نصيحة، ولا تدّخر عنهم صالح مشورة، فرُبَّ رأي لك محمود في
الحرب، مبارك في عواقب الأمور".
أحمد: الله الله يا خليفة رسول الله.
مؤثر: طبول حرب، وأصوات معارك.
الجد: واستطاع عمرو أن يجعل جيشه سبعة آلاف وخمس مئة مقاتل.
أحمد: هل شارك عمرو في معركة اليرموك؟
الجد: نعم يا أحمد.. كان هرقل قيصر الروم في بيت المقدس، وعلم بقدوم جيوش المسلمين،
ونصح أتباعه بمصالحة المسلمين، فأبوا، وحشدوا حشوداً هائلة، وأرادوا شغل كل جيش من
جيوش المسلمين بجيش من عندهم، فخاف المسلمون، وأرسل قادة الجيوش إلى عمرو يستشيرونه
فيما يفعلون، فكتب إليهم عمرو:
الراوي: إن الرأي لمثلنا الاجتماع، فإننا إذا اجتمعنا، لا نُغلب من قلّة، وإن
تفرّقنا، لا يقوى كل جيش منا على حرب من يحاربنا من أعدائنا، لكثرتهم وقلّتنا.
الجد: وكتب إليهم الخليفة أبو بكر:
"إن مثلكم لا يؤتى من قلّة، وإنما يؤتى
العشرة آلاف من الذّنوب، فاحترسوا منها، واجتمعوا باليرموك متساندين، وليصلِّ كلُّ
واحد منكم بأصحابه".
الراوي: وخاض المسلمون معركة اليرموك التاريخية الفاصلة، وانتصروا فيها انتصاراً
باهراً، وكان عمرو أحد قادتها العظام.
أحمد: وهل شارك في غيرها من المعارك؟
الجد: نعم.. فقد كان أحد القادة البارزين في فتح دمشق، بعد معركة اليرموك مباشرة،
وكان عمرو يحاصرها من جهة باب توما، كما شارك عمرو في فتح فحل، وبيسان، وطبريا،
وسواها.
الراوي: واسمعوا جيداً ما يرويه عمرو فيقول:
- تطلّعتُ إلى فتح أجنادين في فلسطين،
وخطر لي أن أطلع بنفسي على خبايا قائد الأعداء، واسمه: أرطبون، فجازفت بنفسي، وذهبت
إليه متنكّراً ومدّعياً أني رسول لعمرو بن العاص، والتقيت الأرطبون، وأفهمته أن كل
مسلم مستعدّ لبذل روحه في سبيل الله.
الجد: ويبدو أن الأرطبون أحسَّ أن الذي يحاوره هو عمرو بن العاص، أو أحد قادته
الكبار، فأوعز إلى أحد جنوده أن يقتلني غدراً وأنا خارج من عنده، وفطنت لغدر
الأرطبون، فقلت له:
الراوي: قد سمعتَ مني وسمعتُ منك، وقد وقع قولك مني موقعاً، وأنا واحد من عشرة
بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنعاونه، ونشهد أموره، وسوف أرجع وآتيك بهم
جميعاً، فإن رأوا في الذي عرضتَ مثل الذي أرى، فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم
يروه، رددتَهم إلى مأمنهم، وكنتَ على رأس أمرك.
أحمد: وجازت الحيلة على الأرطبون؟
الجد: نعم، وفرح الأرطبون، طمعاً في قتل عشرة بدلاً من واحد، ونجا عمرو بدهائه
ومكره وحيلته.
الراوي: وعندما سمع أمير المؤمنين عمر القصة قال: لله عمرو.. غلبه عمرو.
الجد: كان الأرطبون أدهى الروم، وقد حشد في الرملة والقدس حشوداً كبيرة، وكان عمرو
يقف في مواجهتها، فقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد رمينا أرطبون
الروم بأرطبون العرب.
الراوي: وكان عمرو قد استطلع بنفسه نقاط الضعف، ومواطن القوة في مواقع العدو، فهاجم
أجنادين، وكانت معركة هائلة كمعركة اليوموك، وكثر القتلى بين الطرفين، ثم انهزم
الروم، ولجأ الأرطبون إلى القدس، وكتب إلى عمرو يقول:
الجد: إنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، ووالله لا تفتتح من فلسطين
شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولا تغترّ فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة.
الراوي: وأرسل عمرو إلى أمير المؤمنين عمر، يستقدمه لفتح القدس، وهرب الأرطبون إلى
مصر، وتابع عمرو فتح سائر المدن الفلسطينية.
الجد: وبعد فتح فلسطين، تمكّن عمرو من إقناع أمير المؤمنين عمر، بضرورة فتح مصر،
فتوجّه عمرو إليها على رأس جيشه، ودارت بينه وبين المصريين عدّة معارك، لم تكن في
شراسة المعارك التي دارت في بلاد الشام، حتى تمّ لعمرو فتح مصر.
الراوي: رحم الله عمرو بن العاص ورضي عنه.. فقد كان من ثمرات جهاده: فتح فلسطين
ودمشق، وفتح القدس ومصر، وفتح ليبيا، ولولا وقوف أمير المؤمنين في وجه فتوحاته،
لفتح أفريقيا كلها.
الجد: رضي الله عنه وأرضاه.
- الختام -