المهرج والحكيم(5)

عبد الله عيسى السلامة

المهرج والحكيم(5)

حواريات

عبد الله عيسى السلامة

مواهب المهرج

قال المهرج: أخبرني يا سيدي الحكيم، عن أفضل مؤسسة لاستثمار مواهبي (بنك.. شركة.. مكتب..)!؟

قال الحكيم ممتعضاً: ويلك.. هل تراني سمساراً، أم وسيطاً تجارياً!؟ أم لعلك تظنني أملك ثروة هائلة، موزعة هنا وهناك، بين الشركات وبيوت المال.. أعرف من خلالها مظان الربح والخسارة..!

قال المهرج: اعذرني يا سيدي الحكيم، فقد سألتك عني لا عنك، فأنا أعرف من أنت، وماذا تعمل، وماذا تملك.. إلا أنني أعرف أنك حكيم، والحكيم هو الذي يضع الأمور في مواضعها.. وما سألتك عنه وعن استثماره هو المواهب لا المال، فأنت تعرف أني لا أملك من مال الدنيا أكثر مما تملك.. فكم تملك أنت؟

ضحك الحكيم وقال: تكفيني رحمة ربي.. والحمد لله على نعمة العافية..

قال المهرج: حسن.. فكيف أستثمر مواهبي.. وأين!؟

قال الحكيم ضاحكاً: حين تتحدث عن مواهبك، تبدو أعظم شأناً من إبليس حين يتحدث عن فضائله وحسناته! وهل لك – ويحك - موهبة سوى التهريج!؟

قال المهرج: سامحك الله يا سيدي الحكيم.. لقد عشت بصحبتك عمراً، ولم تعرف مواهبي بعد..!

قال الحكيم: ذكرني بها.. فقد أكون عرفتها ونسيتها.. وسبحان من لا ينسى..

قال المهرج: لا بأس.. إنني أملك يا سيدي الحكيم – وبكل تواضع - مواهب عدة، منها الظاهر ومنها الكامن. فأما المواهب الظاهرة فأهمها ثلاث: الصوت، والرجل، والدماغ. وأما الكامنة فأهمها اثنتان: اليد والمعدة (إذا دربتا تدريباً اختصاصياً فنياً صارتا من المواهب الظاهرة).

قال الحكيم ضاحكاً: ويلك، وهل ثمة إنسان لا يملك مثل مواهبك هذه!؟

قال المهرج: إن الناس يملكون أعضاء يا سيدي الحكيم لا مواهب، ولا يخفى على حكمتك الفرق بين العضو، والموهبة المتعلقة به.. فليس كل من ملك حنجرة ملك معها صوتاً جيداً للغناء، ولا كل من ملك رجلاً ملك معها سرعة في الجري، ولا كل من ملك دماغاً ملك معه النباهة أو الذكاء، أو القدرة على توليد المعاني.. ولا كل من ملك يداً ملك معها قوة القبضة للملاكمة أو رشاقة الأنامل للعزف، ولا كل من ملك معدة ملك معها القدرة على الفوز في مسابقات أكل البيض أو الموز..

قال الحكيم: أفحمتني في هذه.. وإن كنت لا أدري أي مواهبك أشد بروزاً لديك. فأنا -واعذرني- لم أطلع حتى الآن إلا على موهبة واحدة هي التهريج، والغريب أنك لم تذكرها بين مواهبك التي عددتها..

قال المهرج: أما هذه يا سيدي الحكيم فقد جربتها طويلاً، ولم تطعمني خبزاً. وهي كما تلاحظ، الموهبة السادسة، وهي أبرز مواهبي جميعاً. وعلاقتها باللسان كما ترى، أشد من علاقتها بالعقل، فهي موهبة لسانية بالدرجة الأولى، لكن يبدو أن اللسان وحده، إذا لم يدعمه العقل، أو الصوت الجيد، لا يكفي لتشكيل موهبة تدر المال، مهما كان هذا اللسان ذلقاً، أو رشيقاً، أو سليطاً..

قال الحكيم: لا بأس يا عزيزي المهرج لا بأس.. إني أنصحك باستثمار عقلك، إذا وجدت من يرغب باستثماره، وأظنك ستتعب كثيراً، قبل أن تجد من يرغب بذلك.

قال المهرج بانكسار: أتتهم عقلي بعدم الأهمية يا سيدي الحكيم.. سامحك الله.

قال الحكيم مداعباً: بل أتهم العصر الذي تعيش فيه يا عزيزي المهرج! إنه ليس عصر استثمار العقول. فالعقل المعروض للاستثمار يحتاج إلى عقول تستثمره، أي إلى عقول تدرك الفرق بين وظيفة العقل في الحياة ووظيفة الرجل.. ولا يخفى عليك –فيما أحسب- أن العقول التي تدرك الفروق، باتت نادرة في عصر النكد والتعاسة هذا..

قال المهرج بأسى: فبم تنصحني إذن يا سيدي الحكيم..؟

قال الحكيم جاداً: لا يسعني إلا أن أنصحك باستثمار عقلك، حتى لو استثمرته وحدك، وحتى لو لم يطعمك خبزاً. وحاذر أن تربط بينه وبين المال.. أما إذا أردت المال، فابحث عنه في مواهبك الأخرى التي عددتها، وهي جميعاً، من الأنواع الرائجة في هذه الأيام: جودة الحنجرة، قوة القبضة، رشاقة الأنامل، خفة الرجل، سعة المعدة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال المهرج: نصحت.. وأنصفت.. جزيت خيراً يا سيدي الحكيم.