أقلهن مهراً أكثرهن بركة
(أكثرهن بركة أقلهن مؤونة)
زهير سالم
يأتي هذا العمل الأدبي المتواضع قطرة في بحر الحياة اللجي، قد يرتاح إليه أقوام، ويأسف على الجهد الذي بذل فيه آخرون.
لقد
وطد الإسلام الأسس الركينة للحياة الاجتماعية في ظلال الطهارة والعفاف والنقاء كما
فتح آفاق الهنــاءة
في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم زوج ابنته فاطمة رضي الله عنها من علي رضي الله عنه على قليل من المهر. وزوج صحابياً آخر بما يحفظ من القرآن، وقال لثالث: التمس ولو خاتماً من حديد. كان المفهوم الإسلامي للمهر على أنه عربون مودة يقدم للمرأة وليس أداة تقصم ظهر الرجل أو تثقله.
في تاريخ الإسلام كثير من الصور الوضيئة. في هذه المسرحية نحاول أن نقدم إحداها. وحسبنا في هذا المقام أن نتلو قوله تعالى: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
زهير سالم
(المشهد الأول)
الشخوص: عبد الملك بن مروان.
أبو مالك ـ أبو عامر رجلان من حاشية عبد الملك
أبو الحارث رسول عبد الملك إلى سعيد بن المسيب.
أفراد من الحاشية
0000000000000000
(في قصر عبد الملك، في دمشق غرفة مترفة مفروشة فرشاً عربياً أنيقاً. يجلس في صدرها عبد الملك بن مروان، عظيم الرأس، عليه أبهة الملك، وحوله خاصته يتحدثون في شؤون الخلافة، وأمر ابن الزبير..).
عبد الملك (إلى أحد جلسائه):
متى وصولك من العراق يا أبا مالك ؟
أبو مالك:
أمس ليلاً يا أمير المؤمنين.
عبد الملك:
وما أخبار العراق وأخبار جندنا يا أبا مالك ؟
أبو مالك:
لقد قوي أمر مصعب بن الزبير يا أمير المؤمنين، ولقد انضمت إليه سليم وعامر من قيس، بل إن قيساً كلها تكاد تكون معه..
عبد الملك:
من لي بزفر بن الحارث ؟ من لي بالجحاف ؟ هل يمكن أن نستميلهم يا أبا مالك ؟!
أبو مالك:
يا أمير المؤمنين.. إن مصعباً أبصر من أخيه عبد الله في سياسة الملك، إنه ينفق على أصحابه من غير إقتار.. !
أبو عامر:
دعك من هذا يا أبا مالك.. إن ابن الزبير أتقى وأورع من أن يبذر مال المسلمين في شراء المؤيدين.. إن عبد الله يريد أن يحمل الأمة من جديد على سيرة الراشدين.. إنه يريد أن يعلم الناس أنه ليس لهم في هذا المال إلا حق واحد..
عبد الملك:
أراك تميل إلى ابن الزبير يا أبا عامر.. !
أبو عامر:
يا أمير المؤمنين.. أنت تعلم أنني لا أستطيع السكوت عن حق.. وكلنا نعلم ـ يا أمير المؤمنين ـ أن أبا بكر وعمر لم يكونا يدفعان درهماً في غير وجهه.. وأننا إنما غامرنا بذلك في سبيل هذه الدنيا.. !
عبد الملك:
وهل يطيق الناس في هذا الزمان سيرة الراشدين يا أبا عامر ؟!
أبو عامر (بهدوء):
والله يا أمير المؤمنين إن الناس ليفرحون بذلك ويستبشرون به، ولكن الذين يأبونه هم المنتفعون من أصحاب المراكز، الذين يريدون لأنفسهم نصيباً أكبر من بيت المال، وهل يتضخم نصيبهم إلا على حساب الضعفاء والفقراء ؟!
عبد الملك:
ويحك يا أبا عامر.. عهدي بك محباً للمال حريصاً عليه !!
أبو عامر:
عندما تعطيني ـ يا أمير المؤمنين ـ فوق حقي من هذا المال، ألست تقتطع ذلك من بيت المال ؟!
عبد الملك:
بلى..
أبو عامر:
فلنعلم جميعاً أن ما نصيبه من بيت مال المسلمين فوق حقوقنا، إنما هو من أموال اليتامى والأرامل والمساكين الذين لا يأبه بهم مصعب ولا أمير المؤمنين..
أبو مالك:
وهل كان ذاك الأعرابي المسكين الذي جاء يسأل عبد الله بن الزبير الراحلة من رؤوس الناس؟! فلماذا منعه الراحلة حتى دفعه إلى هجائه، أليس هذا من حماقة ابن الزبير؟!
عبد الملك:
هل هجا أحد الأعراب ابن الزبير؟!
أبو مالك:
نعم يا أمير المؤمنين.. !
عبد الملك:
وماذا قال ؟
أبو مالك:
لقد نعته بالشحيح ووصفه بالملحد.. لأن عبد الله ـ كما تعلمون ـ يا مولاي.. يصف نفسه بالعائذ بالبيت، فسماه الرجل ملحداً فيه أخذاً من قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم).
عبد الملك:
وكيف قال الأعرابي ؟!
أبو مالك:
قال: (ليس الإمام بالشحيح الملحد).
عبد الملك (يضحك):
(ليس الإمام بالشحيح الملحد..) صدق والله الأعرابي.. ولقد أعجبني هذا اللقب لابن الزبير، فأشيعوه عنه..
(يلتفت إلى أبي عامر)
أرأيت يا أبا عامر.. لقد انقضى عهد أبي بكر وعمر..
(ثم يلتفت إلى الحاضرين جميعاً):
(أيها الناس لا تكلفونا أعمال المهاجرين الأولين وأنتم لا تطيقونها.. !)
ـ يدخل الحاجب ـ
الحاجب:
رسولك إلى سعيد بن المسيب بالباب..
عبد الملك:
رسولي إلى سعيد.. دعه يدخل..
(يدخل رجل عليه أثر السفر)
الرجل:
السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته..
عبد الملك:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. ماذا وراءك يا أبا الحارث.. بم تبشرني؟!
أبو الحارث: (يصمت وكأنه يبحث عن مدخل للحديث).
عبد الملك:
ماذا بك يا أبا الحارث.. لقد أخفقت في مسعاك، كنت أعلم ذلك سلفاً.. إن لم يأتني سعيد طائعاً ليأتيني مكرهاً..
أبو الحارث: (وقد بدا عليه الإشفاق)
هون عليك يا أمير المؤمنين، فليس عند سعيد ما تكره..
عبد الملك:
وليس عنده ما أحب..
أبو الحارث:
يا مولاي.. ! أنت أعلم مني بسعيد وفقهه ومكانته بين أهل المدينة.. إنه لا يرى البيعة لخليفتين وليسن عند منازعة لأحد..
عبد الملك:
وهل يعتبر سعيد ابن الزبير خليفة ؟!
أبو الحارث:
أولاً يدعي ابن الزبير ذلك ؟!
عبد الملك:
وهل يجعلني سواء وابن الزبير.. !!
(يصمت الرجل من جديد، ينتبه عبد الملك إلى أن أبا الحارث مازال وافقاً): لا عليك يا أبا الحارث.. لا عليك.. اجلس.. ! (يجلس الرجل حيث ينتهي به المجلس).
عبد الملك (مجاملاً):
هل كانت رحلتك ميسرة ؟!
أبو الحارث:
كل شيء في طاعة أمير المؤمنين يهون..
عبد الملك:
وكيف وجدت أهل المدينة ؟!
أبو الحارث: ماتزال ذكريات (الحرة) في رؤوسهم..
عبد الملك:
ما لي وليزيد.. ما لي وليزيد.. أنا عبد الملك بن مروان ولست بيزيد بن معاوية.. !
أبو الحارث:
إن القوم لا يميزون بين بني عبد شمس..
عبد الملك:
ماذا تقصد يا أبا الحارث ؟
أبو الحارث:
أقصد لو أن أمير المؤمنين اصطنع عندهم يداً لعلها تغسل الماضي..
عبد الملك:
أتمنى ذلك.. ولكن ماذا ترى أن أفعل ؟
أبو الحارث:
عندي رأي، بل هو نصيحة..
عبد الملك:
قل..
أبو الحارث:
سمعت أن عند سعيد بن المسيب فتاة يافعة قارئة لكتاب الله، عالمة بالسنن، يثير أحاديثَ النساء جمالُها..
عبد الملك:
ماذا تقول ؟!
أبو الحارث: (يكمل)
والوليد ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين مازال في حاجة إلى..
عبد الملك:
فهمت.. فهمت.. كفى..
أبو الحارث: (متابعاً)
وإني لأرجو أن يقرب ذلك ما بين سعيد وأمير المؤمنين..
عبد الملك:
ولكن.. أتظن أن سعيداً الذي منع بيعته يزوج ابنته.. ؟!
أبو الحارث:
والله إني لأرجو ذلك..
عبد الملك:
ويحك يا أبا الحارث.. إنك إن أخفقت هذه المرة، ستجعل سعيداً في موضع سخط مني لا يعرف بعده الرضا أبداً.. وأنت تعرف عزمات ابن مروان.
أبو الحارث:
ما أريد إلا صلاح أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين..
عبد الملك:
والله إن سعيداً لأهل أن يخطب إليه، وإن رفض بيعتنا واشترى عداوتنا..
أبو الحارث:
فعساه أن يكون الصهر. والصديق والمبايع.
عبد الملك:
قد أسندت إليك هذا الأمر.. فابذل لسعيد ما طلب، واقبل منه ما اشترط علي وعلى الوليد، لعله يرضى.. وما أظنه يرضى.. !!
(المشهد الثاني)
(في مسجد المدينة. في إحدى زوايا المسجد. جلس شيخ وقور هو سعيد بن المسيب يحدث الناس.. البساطة تشيع في كل شيء؛ في وجوه الناس.. وألبستهم.. وطرائق جلوسهم..).
أحد الجالسين:
سيدي الشيخ.. إنني شاب أريد الزواج ولا أطيقه لكثرة ما يغالي الآباء في المهور.. حتى والله لقد خشيت على نفسي العنت، فهل في دين الله أن يكون مهر الفتاة كذا وكذا من الذهب والفضة.. ؟!
سعيد بن المسيب:
لا حول ولا قوة إلا بالله.. يا بني.. إنها الفتنة والفساد العريض اللذان حذر منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا ولدي.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير).. وهذه الفتنة وذلك الفساد لا يصيب الشباب وحدهم يا بني.. إن الفساد الكبير يحيق بالمجتمع كافة، وليعلم هذا الذي يمسك ابنته عن الزواج، انتظاراً لصاحب المال والثراء، أن الدائرة ستدور أولاً عليه وعلى ابنته.. وأن اللقاء بين الرجل والمرأة سنة من سنن الله، ولن تستطيع كل قوانين الأرض أن توقف سنة الله سبحانه، وليس أمام سد أبواب الحلال إلا فتح أبواب الحرام، علم ذلك من علمه، وجهل ذلك من جهله..
رجل آخر:
كيف قلتم يا سيدي الشيخ بارك الله فيكم ؟!
سعيد بن المسيب:
أقول إنه ليس أمام سد أبواب الحلال إلا فتح أبواب الحرام.. وإن سنة الله ماضية وإن حكمه نافذ، ومن أراد أن يتيقن فليمدد إصبعه إلى النار ليختبر الاحتراق..
رجل ثالث:
يا سيدي.. إن الآباء يزعمون أن بناتهم هن اللواتي يرفضن الزواج إلا على كذا وكذا من المهر.. وإن الأمر أصبح بيد النساء، كل واحدة تحب أن تباهي بمهرها في المجالس.
سعيد بن المسيب:
إن المسؤولية أولاً، مسؤولية الآباء وإن كانوا صادقين؛ لأنهم لم يربوا بناتهم التربية التي تجعل الفتاة تفهم دورها في الحياة.. وتزنها بالموازين القسط.. وما أظن فتاة عاقلة يقول لها أبوها: إن فلاناً رجل ذو خلق ودين قد جاءك خاطباً فترفضه رغبة في الذهب والفضة، وحين ترفض الفتاة الكفء الصالح انتظاراً لصاحب المال، تكون قد حكمت على إنسانيتها بالإعدام، وعلقت على نفسها بطاقة تحمل تسعيرتها.. أو تقول: أنا لمن يدفع أكثر..
رجل آخر:
علم الله يا سيدي أن المشكلة ليست مشكلة الفتيات، وإنما هي مشكلة الآباء.. إنها مشكلة الأم التي تريد أن تباهي بمهر ابنتها، والأب الذي يريد أن يأكله..
أسمعت يا سيدي أن بعض الآباء يأكلون مهور بناتهم على عادة أهل الجاهلية ؟!
سعيد بن المسيب:
لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
إن المرأة إذا كثر مهرها وغلا، أفزع منها الصالحين من الخاطبين فرغبوا عنها.. ذلك أن الصلاح والمال ليسا قرينين.. فولي المرأة الذي يغالي في مهرها، ثم لعله يأكله، مضطرٌّ أولاً إلى أن يتساهل في أخلاق هذا الخاطب فيرضى بالرجل الدون في أخلاقه وفي دينه، وهذا أول السقوط في رجولة هذا الأب..
ثم عندما يأكل مهر ابنته كله أو بعضه.. إنما يشهد على نفسه بسقوط النخوة والشهامة.. ألا أف لأب يسترد من ابنته لقمة أطعمها إياها أو ثوباً كساها إياه.. ألا تباً لأب تقعد به مروءته عن أن يكرم ابنته، فيبلغ به البخل والحرص، أن يستلب منها ما فرض الله سبحانه وتعالى لها.. ألا إنها النذالة.. والفسولة.. والسقوط.. ألا إنها النذالة والفسولة والسقوط..
(يضطرب المجلس وتعلو الهمهمة، ويتابع الشيخ..):
إن مجتمعاً يباع كل شيء فيه بالمال حتى البنات !! لمجتمع يسير إلى الانحلال، وإن مجتمعاً يُقوَّم كل شيء فيه بالمال لمجتمع ماتت فيه معالم الخير.. إننا حين نجعل الأخلاق والفضيلة أساس حياتنا، نكون قد فتحنا أمام الناس سبل التنافس في الخير. وحين نكرم الناس على الأساس الذي كرمهم الله به وهو التقوى نكون قد سلكنا الصراط السوي، أما حين نزن كل شيء بميزان الذهب والفضة حتى بناتنا.. فأولى لنا.. ثم أولى لنا..
الرجل الأول: هل حقاً يا سيدي أن غلاء المهر يذهب يُمن المرأة ؟!
سعيد بن المسيب:
لقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أقلهن مهراً أكثرهن بركة) ذلك أن المرأة التي ارتفع مهرها، لا تكاد تصل إلى بيت زوجها إلا وقد غلبه الدين، ودب إليه الفقر، وركبه العجز؛ فإذا هو وهي يعيشان حياة مشقة وشدة كانت هي سبباً فيها، فيكون شؤمها على نفسها وعلى زوجها، ولو رضيت منه بالقليل لعاشا معاً في بحبوحة ورخاء ونعماء، على قدر سعة الرجل.
رجل آخر: أيهما أكرم للمرأة يا سيدي.. ارتفاع المهر أو قلته.. ؟!
سعيد بن المسيب:
لو كان في ارتفاع المهر كرامة للمرأة لأكرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاته أمهات المؤمنين، ولو كان فيه كرامة لكان أولى بها بناته صلى الله عليه وسلم، ولو كان غلاء المهر سنة رشيدة أو عادة حميدة لما تزوج فتى الفتيان علي رضي الله عنه من الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهل كان مهر فاطمة إلا رهن درع علي، فمن كان منكم مفاخراً في مهر ابنته فليفخر على فاطمة في مهرها، ومن كان من الفتيان مفاخراً بكثرة ما يدفع فليفاخر أبا الحسن في ذلك..
(يدخل رجل ملثم المسجد.. فجأة يرخي طرف اللثام عن وجهه. ويسلم على القوم. يرد بعض الناس السلام..).
سعيد بن المسيب:
أبا الحارث.. ما أسرع ما عدت.. أما رحلت منذ أيام.. !؟!
أبو الحارث:
عدت إليك..
سعيد بن المسيب:
ألم تفرغ بعد من الحديث ؟!
أبو الحارث:
جئتك ببشارة..
سعيد بن المسيب:
البشارة ألا تجيئني..
أبو الحارث:
جئتك خاطباً..
سعيد بن المسيب: خاطباً ؟!!!
أبو الحارث:
ابنتك للوليد.. ابن أمير المؤمنين.. وولي عهد المسلمين..
سعيد بن المسيب:
ليس ههنا مقام الكلام
(ينهض من مجلسه.. فيما تعلو همهمة الناس.. يخرج الشيخ مع صاحبه..).
أحد الرجال:
أترون سعيداً يزوج ابنته.. ؟!
آخر:
ما أظنه يفعل..
ثالث:
ليته يفعل..
رابع:
لماذا ؟!
آخر: لتكون لنا يد عند أمير المؤمنين..
الرابع:
أتريد أن تأكل الدنيا بالشيخ وابنته..
الأول: إنها فتنة أخرى تجيء للشيخ بعد فتنة البيعة..
رجل ثان:
أرى أن ننتظر لنعلم ما يكون من أمر الشيخ.. ها قد جاءته الدنيا تسعى إليه..
الثالث:
ولعله إن رفض.. أن تقبل ابنته.. وهل ابنته إلا إحدى النساء.. ؟!
الأول: لننتظر.. لننتظر.. !!
(المشهد الثالث)
(في بيت سعيد بن المسيب. حجرة صغيرة. حصير ووساد. جلس سعيد وأبو الحارث).
سعيد بن المسيب:
هيه يا أبا الحارث.. ماتزال الدنيا تدور بي مذ كلمتني.. ماذا وراءك ؟!
أبو الحارث:
(يعتدل في جلسته ويقترب من سعيد كأنه يسر إليه..).
سعيد بن المسيب:
ويحك.. ماذا هناك ؟!
أبو الحارث: هنيئاً لك صهر أمير المؤمنين..
ومن أخبر عبد الملك أن عندي بنتاً.. ؟!
أبو الحارث (باعتداد) أنا.. !
سعيد بن المسيب:
أنت ؟ وبالأمس كنت تزعم نصحي..
أبو الحارث:
وهل فعلت ذلك إلا حباً بك..
سعيد بن المسيب:
حباً بي.. ؟!
أبو الحارث:
من عساك تزوج ابنتك أفضل من الوليد ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين وفتى بني أمية جمالاً ونضارة ؟!
سعيد بن المسيب (بعصبية):
وما شأني أنا بالوليد.. ؟
أبو الحارث:
شأنك، شأن المسلمين، شأن أهل المدينة، شأن ابنتك، هذا كله متعلق بالوليد..
سعيد بن المسيب (يزفر زفرة طويلة.. يسند رأسه إلى الجدار.. يغمض عينيه كمن تدور به الدنيا)
أبو الحارث:
كنت أظن أنني سأنال منك البشارة.. ماذا أصابك ؟!
سعيد بن المسيب (لنفسه):
ابنتي لابنه.. ابنتي للوليد.. ابنتي لولي عهد المسلمين..
أبو الحارث:
ولا تسألني عن الماس والؤلؤ.. عن الجواري والخدم.. عن القصور العالية في جنات الشام.. عن الفرش والرياش الناعمة..
سعيد بن المسيب (لنفسه):
ابنتي.. في القصور على الرياش.. مع اللؤلؤ والماس.. وبين يديها الجواري والخدم..
أبو الحارث:
السعادة.. الرفاه.. لين العيش..
أبو الحارث:
ولا تنس مكانتك يا سعيد..
سعيد بن المسيب (ينتبه فزعاً كمن يهب من حلم مزعج):
مكانتي ؟! وأنا أيضاً يا أبا الحارث ؟!
أبو الحارث:
أنت ستكون نسيب الخليفة.. ستسدد.. وتنصح.. وتأمر.. وتنهى..
سعيد بن المسيب (بامتعاض):
أجئت تخطب ابنتي للوليد أم تخطب بيعتي لبني مروان.. ؟!
أبو الحارث:
لا .. لا يا سعيد.. إنها مصلحة المسلمين.. فما أجمل أن تكون بجوار أمير المؤمنين.. تنصحه وتسدده وترشده.. كم في هذا من الخير للمسلمين؟!
سعيد بن المسيب:
هكذا إذن.. ؟!
أبو الحارث (وقد ظن أن سعيداً وافق على الزواج):
ماذا قلت في هذا أيضاً ؟!
سعيد بن المسيب:
إذن أنا وابنتي في صفقة واحدة.
أبو الحارث:
لا تتسرع يا سعيد.. لا تربط بين المصاهرة والبيعة.. إن أمير المؤمنين يريد مصاهرتك ولو لم تبايع.. هذا كلامه هو.. ولقد قال: إن سعيداً أهل لأن يخطب إليه، ولو رفض بيعتنا.
سعيد بن المسيب:
اسمع يا أبا الحارث.. أبلغ عبد الملك أنني لا أرغب في تزويج ابنتي..
أبو الحارث:
ماذا تقول ؟ يا سعيد لماذا تفوت على ابنتك هذه الفرصة ؟ من عساه يكون أجدر بها من الوليد ؟
سعيد بن المسيب:
يا أبا الحارث.. إنني أريد ابنتي مثل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم تنام على جلد كبش. وتجر الرحى. وتنضح الماء.
أبو الحارث (وقد أسقط في يده):
ماذا ؟! أنني لا أصدق.. أنت تحرجني.. أنت تهلك نفسك.. ماذا أقول لأمير المؤمنين ؟!
سعيد بن المسيب:
هل كلفتك بأن تبحث لي عن زوج لابنتي.
أبو الحارث:
ولكن.. ولكن ما كنت أظنك ترفض صهر أمير المؤمنين.
سعيد بن المسيب:
وهل بايعتُ أميرك هذا ؟
أبو الحارث (بحدة):
ما كنت أظنك ترفض مصاهرة عبد الملك بن مروان وابنه الوليد بن عبد الملك..
(يتحرك سعيد من مكانه كأنه يطلب إلى الرجل الانصراف)
أبو الحارث:
لا.. لن أنصرف بهذه السهولة.. لا بد أن تراجع نفسك.. لا بد أن تعيد النظر في أمرك.. اتق الله في نفسك، فعبد الملك بطاش لا يرحم.. فلا تفجعن المسلمين في نفسك.. اتق الله في ابنتك.. فلا تعضلها.. ثم لعلك تزوجها بعض الموالي.. فمن يتقدم إليها بعد أن رَفَضْتَ ولي عهد المسلمين.. من سيجرؤ على خطبتها ! فكر فيما تفعل يا سعيد..
سعيد بن المسيب:
جزاك الله خيراً على أمرك بالتقوى وأسأل الله أن يعيننا عليها..
(يقف سعيد، ويقف أبو الحارث ممسكاً به)
أبو الحارث:
يا سعيد لا تشتر عداوة أمير المؤمنين..
سعيد بن المسيب:
لست حريصاً على عداوة أحد.. ولكني لا أبيع ابنتي..
أبو الحارث:
أستغفر الله.. ومن رام أن يشتري ابنتك أأقول لك إن عبد الملك قد فوضني أن أدفع لك كل ما تطلب.. وأن أنزل على كل شرط تشترطه عليه أو على الوليد..
سعيد بن المسيب:
أنت سمسار عبد الملك..
أبو الحارث:
أنت تتهمني يا سعيد.. والله مازلت أدرأ عنك غضب أمير المؤمنين.. ومازلت أصل بينكما ما انقطع.. وكلما مددت لك سبباً قطعته.. فماذا عساي في هذا أقول ؟
سعيد بن المسيب (ببساطة):
تقول: إن سعيداً لا يرغب في زواج ابنته الآن..
أبو الحارث (كمن وجد وخرجاً):
ولكن الجواب ليس من حقك فقط.. لا بد من أن تستشير الفتاة.
سعيد بن المسيب:
أنا وليها..
أبو الحارث:
أفيجوز لك أن تزوجها بمن تكره..
سعيد بن المسيب:
لا...
أبو الحارث:
إذن لا يحق لك أن تجبرها على رفض من قد تريد، لا بد لك أن تستشيرها.. يضيف محتداً : وبحضرتي...
(سعيد يتأمل قليلاً)
سعيد بن المسيب:
سأستشيرها وبحضرتك. وإن كان قياسك الفقهي هذا فاسداً..
أبو الحارث:
هيا بنا إليها..
ـ يخرجان ـ
(المشهد الرابع)
(ينتقل المشهد إلى حجرة مقطوعة بستارة. سعيد وأبو الحارث أمام الستارة..).
سعيد بن المسيب:
يا بنيتي أتسمعينني.. !
الفتاة (من وراء الستارة):
نعم يا أبتاه..
سعيد بن المسيب:
هذا أبو الحارث الذي كنت أحدثك عنه منذ أيام.. والذي جاءني يحثني على بيعة عبد الملك بن مروان.. أتذكرين ؟!
الفتاة:
وأذكر أنك رددته بلطف دون أن تعطيه ما يريد..
سعيد بن المسيب:
لقد جاءني اليوم بأمر جديد..
الفتاة:
وما هو ؟!
سعيد بن المسيب:
أظنه يتعلق بالأمر السابق.. إنه يريد أن يخطبك للوليد بن عبد الملك، فماذا تقولين ؟!
أبو الحارث (يسبق الكلام ثم يبدأ حديثاً هادئاً):
اسمعي يا ابنة أخي.. لقد جئتك والله بعز الدهر.. وسعادة العمر.. وهناءة العيش.. أتدرين إنني أخطبك لابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين ! إنني أريد أن أنقلك إلى قصور الشام وجناتها.. لتعيشي بجوار أمير المؤمنين، ولقد عهد إلي أمير المؤمنين أن أبذل لك ما تطلبين.. وترك لك ولأبيك أن تشترطي عليه وعلى ولده الوليد الشرط الذي تريدين، ولا تنسي ما في قصور أمير المؤمنين من خدم وحشم وجواري، ومن ديباج وحرير وفرش ورياش ومن ذهب وزبرجد ولؤلؤ.. إنني أريدك أن ترفلي بالحرير وتتقلبي على النعيم: فماذا تقولين؟!
سعيد بن المسيب (مقاطعاً) (يظهر في صوته نبرة الاشفاق وكأنه خاف أن يميل قلب الفتاة مع أبي الحارث):
أما إذا أبيت إلا الكلام فلا بد لي أن أقول أنا أيضاً.. اسمعي يا بنية.. إن أبا الحارث قد قال وأطنب، وذكر أموراً هي من زهرة الحياة الدنيا فصدق فيها.. وأعيذك بالله أن يكون لها عندك رواج.. إن أبا الحارث يا بنية.. يخطبك للوليد ليجعلك دمية في قصره وحلية في نسب أولاده.. وكأني بأبي الحارث هذا قد جلس إلى عبد الملك فتفاوضا بشأن الوليد وإمرته على المسلمين فأرادا أن يقرباه من قلوب الناس.. فما وجدا غيرك وغير أبيك يأكلان بهما الدنيا.. وأنت يا بنية أحفظ لما علمتك.. وأذكر لما أدبتك.. ولقد تعهدتك بكتاب الله وسنة رسول الله.. والوليد هذا الذي يقف ببابك اليوم ـ فيما بلغني ـ لا يزال يلحن بلسان قومه فما بالك بكتاب ربه.. !! واذكري يا بنية ما ذكر الله به أمهاتك من أزواج النبي بقوله:
(إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً).
فاختاري يا بنية ما شئت.. فإن اخترت ما اختارت أمهات المؤمنين فقد فزت بما فزن.. وإن اخترت ما زين لك أبو الحارث من متاع الدنيا (يرتجف صوته قليلاً) زوجتك فكان لك سراحاً جميلاً.. ولا تذكري أن أباك كان سعيد بن المسيب.
أبو الحارث:
أتهددها يا سعيد !! أتتبرأ منها إن اختارت كفأها من قريش.. ثم من بني أمية.. ثم من بيت الخلافة.. هذا هو العضل بعينه.. ووالله يا بنيتي.. إن ما ذكر أبوك من شأن زواجك والبيعة لا اصل له.. وأشهد أن عبد الملك قد رغب فيك لما سمع من دينك وعلمك وأمور أخرى قد بلغته عنك.. وقد قال لي إن سعيداً لأهل أن يخطب إليه وإن رفض بيعتنا.. فلا يدخلن في نفسك ما دخل في نفس أبيك.. ثم الأمر إليك فانظري ماذا ترين.. ولا تنسي أن رفضك سيجر على أبيك ما لا يعلم مداه إلا الله من غضب عبد الملك.. فاتق الله في أبيك..
الفتاة (من وراء الستارة بصوت فيه بعض الضعف):
يا أبا الحارث..
(الغم على وجه سعيد والبشر على وجه أبي الحارث) أرأيت إن أجبت صاحبك إلى ما يرغب.. فماذا يكون لي عنده ؟!
أبو الحارث:
ما شئت.. أنت تطلبين، تشترطين.. وكل طلب أمر. وكل شرط عهد. وأنا زعيم بذلك. إن شئت ذهباً، أو فضة، أو لؤلؤاً، تخيري من الجواري ما شئت..
الفتاة (مقاطعة):
يا أبا الحارث !! ما عن هذا سألتك.. !
أبو الحارث:
عن ماذا إذاً ؟! عن مكان سكنك.. إن لك أن تنظري قصور الإمارة، بل قصور الشام، فتختاري أجملها في عينك وأكملها في نفسك..
الفتاة:
لو تركت لي فرصة الحديث.. يا أبا الحارث..
أبو الحارث:
أتحبين أن أتعهد لك.. ألا يضارك الوليد ما عشت..
الفتاة:
يا أبا الحارث.. أتسمع..
أبو الحارث:
نعم..
الفتاة:
أنا فتاة حافظة لكتاب الله، فكم يحفظ الوليد منه ؟
أبو الحارث:
إن الوليد.. إن الوليد مشغول بأمر الإمارة..
(يتهلل وجه سعيد)..
الفتاة:
وكم يحفظ صاحبك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم !
أبو الحارث:
يا بنيتي..
الفتاة:
يا عم.. إننا أهل بيت ليس لنا إرب في غير هذين.. فإن أرادنا صاحبك فليأتنا بهما.. ثم ننظر في أمرنا.
أبو الحارث:
ثم تنظرين !! ثم تنظرين !! وما ذكرت لك من الذهب والفضة..
الفتاة (مقاطعة):
إن ما ذكرت لنا من الذهب والفضة والخدم والقصور والرياش والسرر من متاع هذه الدنيا.. ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة.. فانظر كم جئت من هذا الجناح ؟ أجئت بعشره.. أو ربعه.. ويحك لو أتيت به كله ما كان أهلاً لان تطرف إليه عين، أو يهتز له قلب..
(يتهلل وجه سعيد، ويستبشر، ويبدو أبو الحارث كاسفاً) وأنت يا أبتاه..
أخفت ؟! خشيت أن تختار ابنتك قصور بني أمية.. لقد أحزنني ـ يا أبتاه ـ إشفاق سمعته في صوتك.. وإن كنت أعلم أنه إشفاق المحب الناصح.. وليس إشفاق المتوجس الخائف.. لقد ربيت يا أبتي فأحسنت.. وعلمت فأوفيت.. ومن لم يكن له في كتاب الله عاصم فما له من الله من عاصم.. إن لي ـ يا أبتاه ـ في أمهات المؤمنين أسوة، ولي في الزهراء قدوة.. أختار الله والدار الآخرة، يا أبتاه، وإني لأمانة في عنقك تضعها حيث تشاء.. لقد أحرجك أبو الحارث حين ألجأك إلى هذا الموقف، ولا عليك بعد اليوم أن تقول في أمري ما شئت..
سعيد بن المسيب:
بوركت.. بوركت.. بوركت يا بنية (تدمع عيناه)
أبو الحارث (يضرب يداً بيد):
وهي أيضاً، وهي أيضاً، وهي أيضاً ابنة أبيها.. !!
المشهد الخامس
(مجلس الشيخ في زاوية المسجد. مكان الشيخ مايزال فارغاً.. التف الناس حول بعضهم ينتظرون الشيخ، ويخوضون في حديث هامس..).
أحد الرجال: أسمعتم ما كان من أمر الشيخ مع أبي الحارث ؟ أتراه زوج ابنته للوليد ؟!
رجل آخر:
ما كان الشيخ ليفعل ولكن لست أدري تفاصيل ما حدث..
رجل ثالث:
لقد رده الشيخ خائباً.. حتى الفتاة عندما ألح عليها أبو الحارث بأن تقبل.. ! سألته كم يحفظ الوليد من كتاب الله.. (يضحك القوم همساً).
رجل آخر:
والله إني لأخاف على الشيخ من عبد الملك.. إن بني مروان يخوضون في سبيل غاياتهم الغمرات !!
(يصل الشيخ فيتزحزح الناس من مجالسهم، ويسير حتى يبلغ مجلسه).
سعيد بن المسيب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحاضرون:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
سعيد بن المسيب (يتفحص القوم واحداً واحداً وبسمة راضية على شفتيه):
أين ابن أبي وداعة.. ؟ هذا اليوم الثالث الذي لا نراه فيه.. ليس من عادته أن يغيب عن مجلسنا.
أحد الحاضرين:
أألتمسه لك يا سيدي..
سعيد بن المسيب:
إذا شئت..
(.. ينطلق الرجل في طلب أبي وداعة).
أحد الحاضرين:
من أين ينفذ الشيطان إلى قلوب بني آدم يا سيدي.. ؟!
سعيد بن المسيب (يبسمل ويحمد الله تعالى..):
ليس للشيطان سلطان على بني آدم يا بني.. وإنما هي نفوس الناس تضعف فتميل مع الشهوات وتستمرئ المتع، وكلما أغلق الإنسان باباً، وترفع عن الإغراءات فاز في امتحانه، ليتعرض لامتحان غيره أشد منه وأدق حتى يكون من عباد الله المخلصين.. فلا تضره فتنة أبداً..
الرجل:
لو ضرب لنا الشيخ مثلاً..
سعيد بن المسيب:
يفتح الشيطان على الإنسان باب الدنيا أو التعلق بها، أو الإيثار لها.. فإن اشتغل بها ونسي آخرته، وأعرض عن ربه، فقد امتلكه الشيطان وكان أمره إلى خسار، وإن أعرض عن الدنيا فتح عليه حب الجاه والحمد عند الناس.. فإن تغلب عليه فتح عليه من أبواب العجب والكبر والحسد..
وفتح على الرجال والنساء باب فتنة بعضهم ببعض.. وهكذا ماتزال الفتن تعرض على القلوب كالحصير عوداً عوداً.. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(يدخل الرجل ومعه ابن أبي وداعة.. وهو رجل ضئيل الجسم بائس المنظر..).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. سألت عني يا سيدي.. ؟!
سعيد بن المسيب:
لقد أهمني غيابك.. فما أخرك ؟
ابن أبي وداعة:
جزاك الله خيراً يا سيدي.. لقد توفيت زوجتي.. فاشتغلت بتجهيزها ودفنها..
سعيد بن المسيب:
إنا لله وإنا إليه راجعون.. آجرك الله في مصيبتك يا ولدي.. هلا آذنتنا فحضرناها..
ابن أبي وداعة:
لم أشأ أن أتعبكم يا سيدي.
(ينضم إلى المجلس بهدوء).
سعيد بن المسيب:
هل أحدثت زوجة بعدها يا بني ؟!
ابن أبي وداعة:
لا يا سيدي..
سعيد بن المسيب:
أوتأوي إلى بيتك.. في حزنك ووحشتك منفرداً.. ماذا لو تزوجت؟
ابن أبي وداعة (يطرق في حياء):
يا سيدي من.. من يزوجني ؟ لقد كانت زوجتي ابنة عمي، ولقد ساعدني عمي رحمه الله على الزواج..
سعيد بن المسيب:
ألا أحد في المدينة يزوجك ؟!
ابن أبي وداعة:
من يزوجني على درهمين وأنا لا أملك غيرهما ؟!
سعيد بن المسيب:
درهمان من حلال كثير طيب.. ؟ ألا يزوجك أحد بدرهمين.
ابن أبي وداعة (بانكسار واستغراب):
أصلح الله سيدي الشيخ من يزوجني على درهمين ؟!
سعيد بن المسيب: (بتحد)
أنا..
(الحاضرون يفتحون أفواههم يعلو وجوههم الاستغراب، ويسود صمت)..
ابن أبي وداعة: سيدي ماذا تقول ؟!
سعيد بن المسيب:
أنا أزوجك ابنتي على درهمين.. إن قبلت..
ابن أبي وداعة:
أنا أقبل.. أن.. أنا..
أحد الحاضرين:
مطلوبة الوليد بن عبد الملك تتزوج بدرهمين ؟!
(يزوي الشيخ وجهه عن الكلمة ويسأل ابن أبي وداعة بقوة..)
هل قبلت يا بني.. ؟!
ابن أبي وداعة (بصوت مرتجف):
قبلت.. نعم قبلت..
سعيد بن المسيب (للحاضرين):
اشهدوا أني زوجت ابنتي لابن أبي وداعة على درهمين..
(تعلو همهمة في المجلس)..
سعيد بن المسيب:
أتعلمون أن ابن أبي وداعة حافظ لكتاب الله عالم بسنن رسول الله.. أتعلمون من طيب خلقه وحسن سمته وهديه..
الناس:
اللهم نعم..
سعيد بن المسيب:
فأين يقع الدرهمان من رجل مثله.. وإنما هما عربون مودة ورحمة..
(ينهض الشيخ من مجلسه ويتحلق الناس في أحاديث..)
المشهد السادس
(باب قصير في حائط ترابي.. وقف الشيخ قبالة الباب واستترت خلفه فتاة متسربلة بجلبابها. يقرع الباب.. صوت من الداخل..
من الطارق ؟
سعيد..
(الصوت من الداخل يقترب..):
سعيد.. سعيد.. أي سعيد..
(يفتح الباب، ويظهر ابن أبي وداعة)
سيدي كنت أحق بالمجيء إليك..
سعيد بن المسيب:
ذكرت أنك رجل عزب.. وأنك قد تزوجت الليلة فكرهت لك أن تبيت وحدك، فجئتك بزوجك.
(ينحرف الشيخ. ويدفع ابنته برفق..)
المشهد السابع
(الشيخ في مجلسه..)
يهجم عليه رجال عبد الملك وبأيديهم سياط مثل أذناب البقر، يفرقون الناس عنه.. ثم ينهالون عليه ضرباً.. !!
(خاتمة)