ضجة في مدينة الرقة
ضجة في مدينة الرقة
بقلم : محمد الحسناوي
المشهد الأول
(الزمان: قبيل غروب الشمس. المكان: ساحة المرجة في مدينة دمشق. يظهر منها برجها المعروف في الطرف الأيسر من المسرح، وفي الطرف الأيمن يبدو كاراج سيارات "دمشق – حلب". مشهد سيارة باص ينزل منها المسافرون القادمون من حلب. رجال عابرون. شرطي. رجل في الأربعين ينزل من السيارة بعد أن سبقه في النزول عدد مـن
المسافرين بيده صرّة ثياب. علامات التعب بادية عليه، يخطو خطوات، ثم يتفحص صدره، لا يجد شيئاً، يتفحص جيوبه، يرجع إلى السيارة بسرعة، يبحث عن شيء مفقود فيها. يسأل المسافرين. يسأل السائق ومعاونه. ينفي كل منهما أنه وجد شيئاً).
أبو محمود: نقودي يا ناس. نقودي ضاعت. نقودي سرقت، ثلاثون ألف ليرة سورية يا ناس، ضاعت. والله ليست كلها ملكي، والله معظمها دين، أريد أن أشتري سيارة أسترزق بها، يا ناس، يا ناس، يا موحدين، حتى هويتي الشخصية سرقوها.
رجل عابر: سلّم أمرك إلى الله.
أبو محمود: صدقت. سلّمتُ أمري إلى الله. الحمد لله على كل حال، لكن الهوية الشخصية؟
عابر2: احمد ربك أنك وصلت سالماً.
أبو محمود: نعم الحمد لله أنني وصلت سالماً. كم تعرضت للموت في حياتي ونجّاني الله تعالى، البارئ المصور مقدّر الأقدار. يا رب سلّمت أمري إليك. يا رب أعنّي على العودة إلى أهلي.
شرطي: ابحث عن أحد معارفك، أحد أبناء بلدتك يساعدك على العودة، وكل صعب يهون؟
أبو محمود: أنا غريب، لكن كل صعب يهون بإذن الله، الحمد لله على كل حال.
المشهد الثاني
(الزمان: وقت الفجر، قبيل طلوع الشمس بقليل. المكان: شارع في مدينة الرقة السورية، يبدو منه في خلفية المسرح طرف مسجد. في طرف المسرح الأيمن رجل ينام على الرصيف أمام باب دار لا يغطيه شيء سوى شماخ مرقّط بالأحمر فوق وجهه. ثلاثة رجال قادمون من المسجد يتوقفون عند الرجل النائم.)
أبو خالد: يا شباب من هذا الرجل النائم هنا؟
أبو حسن: دعنا منه، ولننصرف إلى أعمالنا قبل أن نتعطّل.
أبو مصطفى: زوجتي تنتظر عودتي لأحلب الجاموسة.
أبو حسن: أنا سوف أسافر إلى حلب قبل أن تحمرّ عيون الشمس.
أبو خالد: وأنا أليس لي عمل؟ الخضار والفواكه مكومة الآن أمام باب الدكان، ولكن لازم نعرف من هذا الرجل النائم هنا؟
أبو حسن: الدنيا صيف يا رجل، إنسان عابر، مسافر ليس له أحد، نعسان، فنام، ألا تنام أنت نفسك على الأرض؟
أبو خالد: يا جماعة لا تستعجلوا، قلبي يقول لي: يوجد شيء غريب في هذا الرجل.
أبو مصطفى: أي شيء غريب، رجل نعسان، والشمس لم تطلع حتى الآن؟
أبو خالد: صلّوا على النبي. الله يرضى عليكم.
أبو حسن وأبو مصطفى (بصوت واحد): اللهم صلّ على سيدنا محمد.
أبو خالد: ما رأيكم لو كشفت الشماخ عن وجهه؟
أبو حسن: هل هذا يجوز شرعاً؟ يا رجل؟
أبو خالد: أنا لن أتحرك من هنا حتى أعرف قصة هذا الرجل.
الآخران: ونحن لن ندعك تضيّع وقتك.
أبو خالد: ليس هذا تضييع وقت.
أبو حسن: لا تحشر نفسك فيما لا يعنيك.
أبو مصطفى: تسمع مالا يرضيك.
أبو خالد: اللهم صلّ على النبي.
الآخران: اللهم صلّ على النبي.
(يتململ الرجل النائم على صوت الضجة. يحاول النهوض. يقترب منه أبو خالد، يكشف الشماخ عن وجهه، تبدو عليه وعلى رفيقيه علامات المفاجأة والدهشة).
(الرجل النائم أفاق، فرك جفنيه بقوة، اتجه إلى الرجال المتجمعين حوله. تراجع بعضهم).
أبو محمود: السلام عليكم.
أبو خالد (صائحاً): أبو محمـ......ود؟؟؟
أبو محمود: نعم أبو محمود.
(في هذه اللحظة انفتح باب الدار على مصراعيه. اندفع شاب في العشرين من عمره صارخاً..).
محمود: لا إله إلا الله.. يا ناس، هل قامت القيامة؟
الرجال الثلاثة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أليس هذا أباك يا محمود؟
محمود (متفرّساً): إي والله هذا والدي، هل هذا معقول؟
(محمود يقبل على والده، يتعانقان).
(الرجال تخلوا عن ذهولهم أخيراً، شرعوا يسلمون على أبي محمود ويعانقونه. الأولاد تصايحوا حول أبيهم فرحين. النساء زغردن من وراء المسرح، تسامع أهل مدينة الرقة بالخبر فأقبلوا يسلمون على أبي محمود. العيارات النارية شاركت في الفرح).
أبو محمود: (لنفسه) أنا أستغرب والله ما يحدث، كم سافرت قبل هذه المرة، لكنني لم أُستقبَل بمثل هذه الحفاوة والحشود. لا إله إلا الله. ماذا جرى لكم يا أهل الرقة؟ ماذا جرى لكم يا أولادي، يا أحبابي؟
المشهد الثالث
(الزمان: الوقت نفسه. المكان: باحة دار أبي محمود الواسعة، في صدر الدار الكائن في خلفية المسرح وضعت أرائك، وعلى جانبي المسرح الأيمن والأيسر صفّت كراسي كثيرة، الباحة ملأى بالأقارب والجيران والزائرين. أبو محمود في صدر المجلس يريد النهوض للقيام بشرف الضيافة، يعترضه بعض الحاضرين.)
زائر1: (مجاور لأبي محمود في المجلس) اجلس أنت يا أبا محمود، نحن جميعاً خدّامك.
أبو محمود: أستغفر الله.
زائر2: (مجاور لأبي محمود على الجهة الأخرى) أنت وليّ من أولياء الله يا أبا محمود. اقعدْ، اقعدْ، يا رجل.
زائر3: (رجل ممن يقومون بخدمة الضيوف وتوزيع المرطبات) من أدنى حقوقك علينا أن نسعى على الزائرين ونقوم بخدمتهم، صلِّ على النبي. صلوا يا رجال على النبي المختار.
الحاضرون: اللهم صلّ على سيدنا محمد.
(تعالت الصلوات، وتعالى التهليل والتكبير من جنبات الدار – زغردت العيارات النارية مرات عدة. رجال الشرطة لا يعترضون).
(أبو محمود يتأمل ما يجري حوله بسذاجة كأنه في حلم).
أبو محمود: (لنفسه) هل أنا في منام. رب اجعله خيراً، رب اجعله خيراً.
محمود: (في مقدمة المسرح متحدثاً مع بعض الضيوف المذهولين) طرق والدي الباب بعد منتصف الليل، كنت أنا أغط في نوم عميق لا أعلم ماذا يجري، لم تشأ أمي أن توقظني. سألتْ أمي: من الطارق؟ قال: أنا أبو محمود يا أمَّ محمود. فعلاً الصوت لم يكن غريباً على أمي، لكنها لم تصدق. قالت أمي في نفسها: لابد أن هناك لصاً يريد أن يحتال عليها. وقالت له من وراء الباب: أما تستحي يا ابن الحرام؟ أبو محمود تحت التراب إما أن تذهب، وإما أن أوقظ أهل الحارة عليك. سكت الرجل. قضت أمي الليلة خلف الباب، لا تدري أهي في حلم أم يقظة؟ لما عرفه الناس اطمأنت أمي، فأدخلته الدار، وسلمت عليه مذهولة لا تكاد تصدق.
زائر1: سبحانك يا رب.
زائر2: سبحان محيي العظام وهي رميم.
زائر3: هل تصدقون؟ أنا لا أكاد أصدّق.
أبو محمود: وأنا كذلك.
(أقبل بعض الناس يحملون الهدايا، ويسلمون على أبي محمود).
زائر4: (معانقاً أبا محمود) سامحني يا أخي أبا محمود. أنا سامحتك عن كل ما جرى بيننا. أنت رجل صالح تقيّ، وأنا الذي أخطأت معك. لا تؤاخذني، سامحني، يا أخي، سامحني. الله يرضى عليك. (يقبله مرة أخرى، يهمّ بتقبيل يديه فيرفض أبو محمود).
أبو محمود: سامحتك يا أخي منذ اختلفنا، والله سامحتك يا أبا عبد القادر. وها أنا أسامحك مرة ثانية وثالثة، يا أعزَّ الأحباب. كيف لا أسامحك يا أخي أنت جاري، وشريكي ورفيق الصبا والشباب؟
زائر5: (يعانق أبا محمود) سامحني يا أبا محمود.
أبو محمود: سامحتك يا أخي أبا علي. الله يغفر لك ولي وللمسلمين. أنت من أهل المسجد، يا أخي، أنا الذي أطلب منك الدعاء والمسامحة. ماذا جرى لي ولكم اليوم يا أهل الرقة حتى تعيدوا الاحتفال بعد مضي ثلاثين سنة، كدت أنسى نفسي فيها؟ هل اعتقلت مرة ثانية، هل أطلقوا سراحي من جديد؟ لا أدري. هل بلغكم أنني حرّرت بيت المقدس؟ هل أشبعت الجياع، وكسوت العرايا؟ ماذا فعلت يا أهل الرقة، يا أحباب؟
زائر: (ممن يخدمون الضيوف) أنت وليّ من أولياء الله يا أبا محمود. صلّ على النبي، صلوا على النبي المختار يا رجال.
أبو محمود: سلّمت أمري إلى الله، الحمد لله على كل حال.
زائر2: حدّثنا عن اعتقالك أيام الفرنسيين.
أبو محمود: (ينهض، يتحدث وهو يتمشى) أنا تحت أمركم – يا مرحباً بالأحباب. في عهد الفرنسيين منذ ثلاثين سنة اعتقلت (يصمت قليلاً. أهل الدار جميعاً والزائرون يسكتون) اعتقلوني مع عدد كبير من السياسيين المجاهدين، ووضعونا في سجن (المية ومية) بلبنان طوال الحرب العالمية الثانية. كنت أضحك عليهم في نفسي من جهل الفرنسيين والحلفاء. اعتقلوني وأنا إنسان درويش، لا أكاد أعرف القراءة والكتابة، تعلمتها على كبر، كنت –والشهادة لله- أكره الفرنسيين، وأميل إلى الأتراك والألمان، كنت أتحدى قوانين الاحتلال الفرنسي..
زائر: (مقاطعاً أبا محمود) طيب أبا محمود.
أبو محمود: (متابعاً) كنت أتاجر بأوراق الكتابة وأقلام الرصاص والبارود والأسلحة المهربة، لم يضبطوني مرة واحدة في هذه التجارة المحببة برغم الوشايات وحملات التفتيش، ما أعذبها من لعبة أسهم فيها الشرطة ورجال الأمن الوطنيون بتحذيراتهم التي تصل إلينا قبل المداهمات بدقائق معدودة تكفي لنقل المواد الممنوعة على وجه السرعة إلى مكان آخر.
زائر: طيب يا أبا محمود.
أبو محمود: مع ذلك اعتقلوني ووضعوني في السجن، مع رئيس وزراء أفغانستان ومع حجاج أتراك وسياح هنود، وأعضاء مجلس النواب السوري، ومشايخ لبنانيين، أخيراً بعد شهور أفرجوا عني، وعدت إلى الرقة، فخرج أهلها على بكرة أبيهم، يستقبلونني ويهنئونني، مثل هذا اليوم، فماذا جرى حتى يعاد الاستقبال؟
زائر: أنت وليّ يا أبا محمود. صلّوا على النبي المختار يا شباب.
الحاضرون: (يرددون الصلاة علي النبي) اللهم صلّ على محمد.
زائر: (يوزع كؤوس الماء والمرطبات) زيدوه صلاة.
الحاضرون: اللهم صلّ على سيدنا محمد.
أبو خالد: (نهض يتمشى ويتحدث، كما كان أبو محمود يفعل) اجلس أنت يا أبا محمود في صدر الدار (يجلس أبو محمود). اجلس – أنت متعب رجعت لنا من القبر- أنا أحكي للشباب مغامرتك في قلعة حلب. اسمعوا يا شباب. في إحدى زياراتنا إلى قلعة حلب أيام الصبا.. صادف أخونا أبو محمود صندوقاً من حديد يجري على سكة حديدية. اشتهى أبو محمود الركوب في الصندوق، طلب منّا أن ندفع به الصندوق.
حذّرناه من النتيجة المجهولة، فلم يسمع تحذيرنا. انطلقت الدواليب تدور بسرعة هائلة، لأمر يريده الله انقلب به الصندوق قبل الهاوية. نجا من الموت. الحراس الفرنسيون ألقوا عليه القبض وألزموه دفع غرامة مالية. أليس كذلك يا أبا محمود؟
أبو محمود: (ضاحكاً) صدقت، صدقت يا أبا خالد.
أبو حسن: (ينهض حين يجلس أبو خالد) اسمحوا لي أن أحكي حكاية ثانية عن هذا الرجل الصالح، ولا أزكي على الله أحداً، حينما اعتقله الفرنسيون قبل الاستقلال بشهور، خشي أبو محمود فوات وقت الصلاة في إحدى محطّات الاستراحة على طريق السفر، كان الجنود الفرنسيون يمنعون المعتقلين من الاقتراب من ساقية الماء. رفض أخونا أبو محمود تحذيرات زملائه. هجم فجأة يريد الوضوء، فتلقاه حارس زنجي بسنان البندقية (الحربة) يريد قتله لولا أن صاح به الضابط الفرنسي يزجره في اللحظة الأخيرة، ونجا أبو محمود من موت مؤكد، وأخذ يتوضأ متشفياً من الحارس، حتى جعله يهرب من وجهه. هل تذكر ذلك يا أبا محمود؟
أبو محمود: (ضاحكاً) نعم. أتذكر يا أبا حسن الحبيب.
أبو حسن: لقد مات من مات من أصدقاء أبي محمود في السجن، أو على الفراش، أو في حوادث الطرق، ومات أبو محمود ولم يمت. لقد أحياه الله بعد موته ليشهد هذا الاحتفال الذي يستحقه. الموت والحياة بيد الله تعالى يا ناس. من لم يمته الله تعالى فلن تقتله شدّة، ألم تكن تحت التراب قبل ساعات يا أبا محمود؟
أبو محمود: لا لم أكن تحت التراب، بل كنت أنا نائماً فوق التراب. (يضحك الحاضرون، يتبادلون الابتسامات والتلويح بالأيدي).
أبو مصطفى: (مخاطباً شيخاً عالماً جالساً بالقرب من أبي محمود) ما رأيك يا سيدي الشيخ بقصص أخينا أبي محمود العجيبة؟
الشيخ العالم: العلم عند الله. يحضرني يا أبا مصطفى حديث شريف رواه الإمام مسلم في صحيحه. قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب. قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون".
الحاضرون" صدق رسول الله. اللهم اجعلنا منهم.
المشهد الرابع
(الزمان: منتصف الليل. المكان: نفس المكان السابق. بعض المصابيح الكهربائية مطفأ وبعضها يومض. الهدوء مخيم بعد انصراف معظم الزوار. لم يبق إلا القليل من الأقارب والجيران والأصدقاء يلتفون حول أبي محمود).
أبو خالد: والآن –يا أبا محمود العزيز- لقد انصرف الناس، وهدأت الأصوات، ولم يبق إلا نحن، أهلك وأحبابك ننتظر هذه الساعة. نريد أن نسمع منك قصتك الأخيرة. كيف متّ وكيف أحياك الله بعد موتك؟
أبو حسن: أي والله، الله يحيي ويميت يا أخي.
أبو محمود: أنا أشدّ تلهفاً منكم لسماع القصة، ولفهم الأمور على الرغم من تعبي الشديد.
أبو خالد: كلنا نؤمن بالحياة بعد الموت، لكننا لا نتوقع حدوث ذلك قبل يوم القيامة، وبعد وفاة الأنبياء والرسل أصحاب المعجزات، عليهم السلام.
أبو محمود: صدقت.. هذا صحيح.
أبو خالد: يا أبا محمود –لا مؤاخذة- لقد دفناك منذ أسبوع، بسبب حادث السيارة الذي أودى بحياتك قرب مدينة حمص، وأنت في طريقك إلى دمشق، فكيف أحياك الله عزّ وجلّ بعد موتك، وهو قادر؟
أبو مصطفى: وماذا رأيت في الدار الآخرة؟
أبو محمود: (مستغرباً) أنا؟! دفنتموني قبل أسبوع؟
الحاضرون: نعم. نحن دفناك قبل أسبوع.
أبو محمود: لم يحدث لي حادث، كما تتصورون.
أبو خالد: ولو، يا أبا محمود.
أبو محمود: (مؤكداً) ولم أمت.
أبو حسن: ولو، يا أبا محمود.
أبو محمود: ولم أدفن، يا إخوان.
أبو خالد: سبحان الله، لقد أهلت التراب عليك بيدي.
أبو محمود: أنت أهلت التراب عليَّ بيديك؟
أبو خالد: نعم..
أبو حسن: وأنا حملت نعشك على كتفي.
أبو محمود: أنت حملت نعشي على كتفك؟
أبو حسن: نعم..
أبو محمود: لسنا في وقت مزاح، يا إخوان.
أبو خالد: ومن قال إننا نمزح في هذا الموضوع الخطير، يا أبا محمود؟
أبو محمود: عقلي لا يستوعب ما تقولون. يا إخوان. أنتم عندي صادقون لكنني أعلم علم اليقين أنني لم أمت.
الحاضرون: نحن نشهد جميعنا بأنك متّ يا أبا محمود.
أبو محمود: أنا لم أمت، ولو شهد غير ذلك أهل الأرض كلهم.
الحاضرون: ولو، ولو، يا أبا محمود؟
أبو محمود: ولم أدفن ولو شهد الناس كلهم، أحياؤهم وأمواتهم.
أبو حسن: لا تغضب يا أبا محمود، ليس في الأمر مزاح، ولا احتيال.
أبو محمود: أستغفر الله، أنا ما قصدت هذا.
أبو حسن: نحن نعلم أنك ما قصدت هذا ولا غيره.
أبو محمود: لا مؤاخذة، ما تقولونه شيء غريب.
أبو خالد: الله تعالى قادر، يا أبا محمود.
أبو محمود: هل في ذلك شك يا إخوان؟
أبو خالد: فلماذا تغضب، يا حبيبنا؟
أبو محمود: عقلي، يا إخوان، عقلي لا يستوعب، لا مؤاخذة لا يهضم ما تقولون.
أبو مصطفى: فسّر لنا إذا سمحت ما يلي: استلمنا من الشرطة جثتك.
أبو محمود: جثتي؟
أبو مصطفى: وهويتك الشخصية.
أبو محمود: هويتي؟
أبو مصطفى: ومبلغ ثلاثين ألف ليرة سورية.
أبو محمود: ثلاثين ألف ليرة؟
أبو مصطفى: نعم استلمنا النقود التي كانت معك كلها، لم ينقص منها قرش واحد.
أبو محمود: (موجهاً خطابه إلى الآخرين) أنتم استلمتم النقود كاملة؟
الحاضرون: نعم.
أبو محمود: (بعد صمت وتفكير قليل) يتهلل وجهه بابتسامة عريضة، ويشرق وجهه قائلاً: الآن بدأت أفهم القصة، يا إخوان. لما سافرت من مدينة حلب إلى دمشق، صحبني في السيارة ثلاثة رجال غرباء الأشكال، صاروا يكلمونني من أمامي ومن ورائي وعن شمالي. في حمص حين رجعنا إلى السيارة من الاستراحة تغيب الرجال الغرباء الثلاثة بلا سبب واضح، لم أنتبه وقتها إلى سرقة مالي وهويتي الشخصية إلا بعد أن وصلنا إلى مدينة دمشق وبعد أن نزلت من السيارة وبعد أن ذهب أكثر المسافرين. فتشت هنا، فتشت هنا (يشير بيديه كيف فتش صدره وجيوبه) لم أجد شيئاً، ضربت كفاً بكف، تعبت في البحث عن المال، عن الرجال، عمن يعرفهم، لم أقع لهم على أثر، حتى يئست، لم أجد حلاً إلا الشكوى إلى الله تعالى، جمعت أجرة العودة إلى الرقة من المحسنين. الله كريم.
الحاضرون: لا إله إلا الله.
أبو محمود: لا أخفي عليكم أنني حزنت على ضياع المبلغ الذي جمعه شركائي بعرق الجبين حلالاً طيباً لشراء سيارة كما تعلمون، لكنني أحتسب ذلك كله عند الله.
أبو خالد: ألم نقل لك إن المبلغ ما ضاع، استلمناه؟
أبو محمود: صحيح، صحيح، تذكرت، بذلت جهدي في جمعه حلالاً وفي حفظه، ماذا بوسعي أن أفعل أكثر مما فعلت؟ لعل الرجل الذي سرق المبلغ ندم على فعلته، فتاب، وألهمه الله أن يرسل المال والهوية.
أبو حسن: أنت طيب القلب، يا أبا محمود، وظنك دائماً بالناس ظن حسن.
أبو محمود: هذا من طيبك.
أبو خالد: الرجل الذي سرق منك المبلغ يمكن أن يكون هو صاحب الجثة المشوهة التي استلمناها، قتل في حادث سيارة ومعه هويتك الشخصية والمبلغ. ظن الشرطة أنه هو صاحب الهوية، فأعادوها مع المبلغ.
أبو محمود: استلمتم جثة مشوهة مع ثلاثين ألف ليرة.
الحاضرون: نعم، بالتمام والكمال.
أبو محمود: لا إله إلا الله. قل حسبي الله، وعليه يتوكل المتوكلون.
الحاضرون: لا إله إلا الله.
- ستار -