الحنيفية
مسرحية قصيرة
بقلم : محمد الحسناوي
المشهد الأول
( في مكان من البادية العربية المجاورة لمدينة الحيرة ، عاصمة المناذرة .. نصبت خيمة عربية بالية لرجل من طيّء ، اسمه حنظلة ، في ضيافته الملك النعمان وهو لا يدري ذلك . الوقت في الصباح الباكر . الملك النعمان يتأهب للرحيل )
النعمان : يا أخا طيّء . يا حنظلة .
حنظلة : نعم . عم صباحا ، أيها الضيف الشريف .
النعمان : ها قد أصبح الصباح ، وقد نلت حظّي من النوم ، ومن كرم ضيافتك .
حنظلة : أنت ضيفي ، وأنت أهل لكل معروف .
النعمان : هل تعلم - يا حنظلة - من كان ضيفك هذه الليلة ؟
حنظلة : ليس لي أن أسألك من أنت ، ما دمت ضيفي . لكنني قلت لزوجتي ساعة وصولك :
أرى رجلا ذا هيئة ، وما أخلقه أن يكون شريفا خطيرا .
النعمان : وقلت لها : ما الحيلة ؟ فقالت لك : عندي شيء من طحين كنت قد ادّخرته ، فاذبح الشاة التي ليس عندنا غيرها ، لأتخذ من الطحين ملّة.
حنظلة : صدقت .
النعمان : فأخرجت امرأتك الدقيق ، فخبزت منه ملّة .
حنظلة : صدقت .
النعمان : وقمت أنت إلى الشاة ، فاحتلبتها ، ثم ذبحتها ، فاتخذت من لحمها مرقة مضيرة ، وأطعمتني من لحمها ، وسقيتني من لبنها .
حنظلة : صدقت !
النعمان: وبذلت جهدك في اصطناع شراب طيب لي ، فسقيتني ، وجعلت تحدثني الأحاديث الممتعة بقية ليلتي ، بصدر منشرح ، ووجه مشرق مضياف .
حنظلة : أنت أهل لكل معروف ، يا أخا العرب !
النعمان : و ها أنذا أتهيأ للانصراف ، شاكرا لك كرمك وضيافتك ، وأنت لم تعرفني بعد .
حنظلة : الضيافة ، أقلها ثلاثة أيام ، يا أخا العرب !
النعمان : يا أخا طيّء . كان ضيفك هذه الليلة الملك النعمان بن المنذر ، ملك الحيرة .
حنظلة : أبيت اللعن . لم يخب ظني في استشراف طلعتك .وهذا شرف لي أن يكون ضيفي الملك النعمان بن المنذر ، ملك الحيرة العظيم .
النعمان : هل تدري - يا أخا طيّء ما الذي جاء بي إليك ؟
حنظلة : أنت ضيفي ، ولا حق لي في سؤالك ، أيها الملك النعمان .
النعمان : يا حنظلة ، لكي تعرف عظمة المعروف الذي أسديته إليّ ، سوف أخبرك بالذي جاء بي إليك .
حنظلة : هذا حق الضيف عليّ كيفما كان سبب مجيئه إليّ .
النعمان : يا حنظلة . إن الذي جاء بي إليك خروجي للصيد مع جماعتي ، على فرسي اليحموم هذا . فأجريته في أثر حمار وحش ، فذهب بي الفرس في الأرض ، ولم أقدر عليه ، وانفردت عن أصحابي ، وأخذني مطر السماء الكثيف ، فطلبت ملجأ ألجأ إليه ، فدفعت إلى خيمتك هذه مبللا مجهدا من الإعياء ، فقلت لك : هل من مأوى ؟
حنظلة : صدقت ، أيها الملك ، يا مرحبا بك ، يا مرحبا . حللت أهلا ، ونزلت سهلا .
النعمان : يا أخا طيّء . بضيافتك لي ، وحفاوتك بي ، صارت لك عليّ يد لا أنساها أبد الدهر ، أنا الملك النعمان ، فاطلب ثوابك .
حنظلة : أبيت اللعن . إن رضى ضيفي عني هو ثوابي .
النعمان: لا بدّ من شكرك على حسن صنيعك . سوف أحفظ لك هذه اليد البيضاء ، ما حييت . فاطلب ثوابك .
حنظلة : أفعل إن شاء الله .
النعمان : الوداع ، يا أخا طيّء . لا تنس أنّ لك عندي يدا .
حنظلة : الوداع . صحبتك السلامة ، أيها الملك النعمان .
* * *
المشهد الثاني
( الوقت : صباح . المكان : موضع خارج مدينة الحيرة ، يقال له : الغريّان . اليوم : هو يوم بؤس الملك النعمان ، الذي له يومان : يوم بؤس ويوم نعيم .الملك النعمان خارج وواقف هنا في خيله ورجله في السلاح . معه من رجاله : أبو الحوفزان ، وهو شريك بن عمرو بن قيس من بني شيبان ، وكان صاحب الردافة : أي خلافة الملك ، يجلس عن يمينه عادة ، ويشرب بعده ، وينوب عنه في الجكم إذا غزا . ومن الحاضرين رجل اسمه قراد بن أجدع . يقبل رجل من بعيد ، هو حنظلة الطائي ..)
النعمان : هل ترون ما أرى ؟!
شريك : أبيت اللعن . نعم . إني أرى شبح شخص قادم . أيها الملك النعمان .
النعمان : هل هو بشر ؟
شريك : نعم ، هو إنسان . هو رجل !
النعمان : ألا يعلم هذا الإنسان أنّ هذا اليوم هو يوم بؤسي ؟!
شريك : أبيت اللعن . إذا لم يكن يعلم من قبل ، فسوف يعلم حين يصل إلينا !
النعمان : وما ينفعه علمه هذا ، إذا كان جزاءه الموت ؟!
شريك : هكذا أراد الملك النعمان . والسمع والطاعة للملك .
النعمان : ( يلتفت إلى بعض رجاله المسلحين ) إيتوني بهذا الرجل المنحوس .
( يخرج رجلان مسلحان . يدخلان برجل أعرابي كهل ، تظهر عليه آثار السفر والفقر )
النعمان : ( بغضب ظاهر ) أنت الطائي الذي نزلت عليه ضيفا ؟
حنظلة : أبيت اللعن ، أيها الملك النعمان ، أنا حنظلة الطائي .
النعمان : ( محدثا جماعته ) رجل أكرمني غاية الإكرام ، وآواني من المطر ، وأنا ضائع في ليلة ليلاء . ذبح لي الشاة التي ليس يملك سواها ، وسقاني حليبها ، واختار لي شرابا طيبا ، وجاذبني أطراف الحديث طوال ليلتي ، يسليني ، ويمتعني . ثم يأتي الآن في يوم بؤسي ، إنها ورطة .
( مخاطبا حنظلة ) أفلا جئت في غير هذا اليوم ؟
حنظلة : أيها الملك النعمان ، لقد أصابتني نكبة وجهد ، وساءت حالي ، فقالت لي امرأتي : لو أتيت الملك النعمان ضيفك ، لأحسن إليك !
النعمان : ( لنفسه ) إنه لم يدر حتى الآن ما هذا اليوم البئيس ! فكيف إذا درى ؟ لكنني أنا أدري ، والمشكلة الآن هي مشكلتي أنا ، قبل أن تكون هي مشكلته ، لأن موته وحياته بيدي . كيف أقتل من أحسن إليّ ؟ هو يكرمني ضيفا ضائعا في حال فقره ، وأنا أقتله ضيفا في حال ملكي وغناي . إن الأمر لا يستقيم بحال .
( لحنظلة ) يا حنظلة ، أفلا جئت في غير هذا اليوم ؟
حنظلة : أبيت اللعن ، وما يدريني بهذا اليوم !!
شريك : إنه يوم بؤس الملك النعمان ، أيها الطائي !
حنظلة : وما بؤس الملك النعمان ، وهو صاحب الحيرة غير مدافع ، وها هي ذي جنوده، تملأ الرحب ؟! ثم هو في عافية ورفاهة ؟! ماذا ينقصه ؟!
شريك : لقد شرع الملك النعمان أنه من سنح أمامه في يوم بؤسه ، فحكمه الموت .
جماعة الملك : ( يلغطون ) الموت ، الموت .
حنظلة : الأعمار بيد الله تعالى .
النعمان : ( لنفسه ) لم اسمع بمثل هذا الاعتقاد من قبل . ماذا يقصد الطائي بقوله : الأعمار بيد الله ، تعالى ؟ لم تظهر عليه علامات الخوف كالآخرين ! لعله يطمع بعفوي لما له عندي من يد سابقة . له أن يطمع بي ، لكنني محرج جدا ، ولن أفعل ، لن أفعل .
( للطائي ) يا حنظلة . والله لو سنح لي في هذا اليوم قابوس ابني لم أجد بدا من قتله ،
فاطلب حاجتك من الدنيا ، وسل ما بدا لك ، فإنك مقتول .
الجماعة : ( يلغطون ) مقتول! مقتول ! مقتول !
حنظلة : ( مندهشا ) أبيت اللعن ! وما أصنع بالدنيا بعد نفسي ؟!
النعمان : ( لنفسه ) سؤاله عسير الجواب . فعلا ما يصنع بالدنيا بعد نفسه . أحسّ بالموت هو ، فماذا أحسّ أنا ؟ أليس من الظلم ، بل الغدر أن أقتل أنا من أحسن إليّ ، وآواني ، وأطعمني ، وسقاني ، وآنس وحشتي ، وحماني ؟ ما العمل ؟ لا بدّ من قتله . هكذا شريعتي التي قد نفذتها ، وعوّدت أتباعي عليها ، وإلا ما أصنع بمن قتلتهم من قبل ؟ كيف تكون هيبتي وقوتي أمام الناس ؟ الملك حزين … يجب أن تحزن الناس . الملك في بؤس ، فعلى البؤس أن يعم الناس ، وإلا ما معنى الملك ؟!
( لحنظلة ) إنه لا سبيل إليها ، يا حنظلة !
حنظلة : …
شريك : لا سبيل إليها ، يا حنظلة !
حنظلة : ( باستسلام ) فإن كان لا بدّ ، فأجلني ، أيها الملك ، حتى ألمّ بأهلي ، فأوصي إليهم ، وأهيء حالهم ، وهم - كما تعلم - في مكان منقطع من الأرض والبشر ، ثم أنصرف إليك .
الملك : ( لنفسه ) حسنا ، إنه يطلب التأجيل ، يقول : أجلني . هذه فسحة لي وله ، وإن لم تكن حلا حقيقيا .
( لحنظلة ، متنهدا ) فأقم لي كفيلا بموافاتك .
الجماعة : ( يلغطون ) كفيلا ، كفيلا .
حنظلة : إني سمعت بخليفة الملك أبي الحوفزان ( يشير إليه ) ، وأسأله أن يكفلني ، لما أعلم عنه من السماحة والنجدة .
شريك : …
حنظلة : ( يخاطب شريكا ) يا شريكا يا ابن عمرو هل من الموت محالة ؟
يا أخا كلّ مضاف يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فكّ ال يوم ضيفا قد أتى له
طالما عالج كرب ال موت لا ينعم باله
الجماعة : ( يضجون ) يقبل . لا يقبل . يقبل . لا يقبل .
شريك : …
النعمان : ما قولك يا شريك ؟
حنظلة : يا شريكا ، يا ابن عمرو هل من الموت محالة ؟
شريك : يا أخا طيّء . أخطأت الطلب . إن أمر الملك النعمان لا مردّ له .
النعمان : ياحنظلة . إن شريكا يعتذر عن كفالتك ، فأقم لي كفيلا غير شريك بموافاتك .
( يثب من بين الناس رجل من جماعة الملك اسمه قراد بن أجدع . يتقدم إلى حيث الملك ).
قراد : أبيت اللعن . هو عليّ ، هذا الرجل الطائيّ .
النعمان : ( لنفسه مبتهجا ) هذا مخرج حسن ، لم يخطر لي على بال . إذا أفلت الطائي - وهذا ما أرغب به - قتلت ضامنه قراد بن أجدع ، ولا حرج لي أمام نفسي ، ولا أمام الناس .
( لقراد ، متصنعا التعجب ) أفعلت ، يا قراد بن أجدع ؟!
قراد : نعم ، قد فعلت .
النعمان : ( لتفسه ) هذه فرصة لك يا حنظلة كي تهرب ، فتنقذ نفسك ، وتنقذني من نفسي .
( لحنظلة ) يا أخا طيّء ، كم تحتاج من الزمن حتى تلمّ بأهلك ، فتوصي بهم ، وتهيْ حالهم ثم تنصرف إلينا ؟
حنظلة : الأجل الذي يختاره لي ضامني ، أقبل به .
قراد : بل اختر أنت _ ياحنظلة - الأجل الذي يكفيك .
النعمان : أنا أختار لكما فلا تترددا . إن النعمان يكرم ضيفه ، ولا يرزأ أحد أعوانه بنفسه .
( لحنظلة ) خذ يا حنظلة عاما ، حولا كاملا . هل يناسبك هذا الأجل ؟
حنظلة : قبلت .
شريك : يا أخا طيْ ، في مثل هذا اليوم ، إن لم تحضر ، فإن كفيلك قراد بن أجدع سوف يقتل بضمانتك .
حنظلة : لا فعلت ذلك . الغدر بالوعد ليس من شيمتي .
النعمان : ( لحنظلة ) يا أخا طيّْ ، يا حنظلة ، لقد أمرت لك بخمس مئة ناقة هدية مني إليك . أنت ضيفي ، وصاحب ليلتي .
( لقراد ) وأنت - يا قراد بن أجدع - احفظ تاريخ هذا اليوم ، لأنه يومك ، إذا تخلف حنظلة .
قراد : ( منشدا شعرا ) فإن يك صدر هذا اليوم ولّى فإنّ غدا لناظره قريب
النعمان : ( لحنظلة ) يا حنظلة انصرف إلى أهلك ، ولا تنس الأجل .
( لنفسه ) أرجو أن تنسى .
حنظلة : ( يتهيأ للرحيل ، ثم يقول ) :
ألا إنما يسمو إلى المجد والعلا مخاريق أمثال القراد بن أجدعا
مخاريق أمثال القراد وأهـله فأنهمو الأخيار من رهط تبّعـا
* * *
المشهد الثالث
( المكان السابق ، الغريّان . الزمان : وقت الغروب ، بعد مضيّ عام كامل . الملك النعمان في سلاحه ، وجماعته في سلاحهم أيضا . قراد بن أجدع مجرّد من ثيابه في إزار على النطع ، والسياف إلى جنبه . بعد قليل تدخل امرأة قراد باكية ، ترثيه قبل مقتله ) .
النعمان : يا قراد بن أجدع . أنا لم أختر لك هذا المصير البائس ، لكنك ضمنت حنظلة الطائي بمحض اختيارك .
قراد : ( متصبّرا ) أبيت اللعن . نعم ، ضمنته .
النعمان : ( لنفسه ) ها قد مضى عام كامل ، ولم يرجع حنظلة الطائيّ ، وما أظنه براجع بعد الآن ، ولو أراد العودة خلال هذا الحول الكامل لعاد . إنه يخرجني - كما توقعت من ورطتي .
( لقراد ) : وأنت - يا قراد بن أجدع - سعيت إلى حتفك بظلفك ، وما أنا بظالمك .
( لجماعته ) يا قوم . لقد طال انتظارنا لحنظلة الطائي . مضى الحول بكامله ، وهذا اليوم الأخير كادت شمسه تغرب ، فماذا ننتظر ؟ لو كان حنظلة يريد العودة لعاد في أي وقت من أوقات العام الماضية .
امرأة قراد : ( تدخل منشدة شعرا ، وهي تبكي ) :
أيا عين بكّي لي قراد بن أجدعـا رهينا لقتل ، لا رهينا مودّعـا
أتته المنايا بغتة دون قومـه فأمسى أسيرا حاضر البين أضرعا
الجماعة : ( تهمهم ) أضرعا . أضرعا . أضرعا .
أحد المسلحين : ( يصيح ) أرى من بعيد شخصا ، يركض مسرعا ، متجها نحونا .
الجماعة : ( تلغط) من تراه يكون ؟ من تراه يكون ؟
النعمان : ( مفاجأ ) ما لنا وللشخص ، وقد كادت الشمس تغرب ، والحول قد انتهى ؟!
شريك : أبيت اللعن . يقول الركب : ليس للملك أن يقتل قرادا حتى يأتيه الشخص ، فنعلم من هو.
النعمان : ( لنفسه ) أخشى أن يفعلها هذا الطائي في آخر لحظة ، فيحرجني مرة أخرى ، مضيعا فرصة نجاته على نفسه وعليّ .
( للجماعة ) ومن عساه يكون هذا الشخص ، وقد انتهى الحول كاملا ؟
شريك : أبيت اللعن ، سوف نرى .
( يدخل حنظلة الطائيّ ، وعليه آثار السفر والتعب )
الجماعة : ( يلغطون دهشة وإعجابا ) حنظلة ، حنظلة ؟!
حنظلة : عم مساء ، أيها الملك النعمان .
النعمان : ( لنفسه ) ما أغبى هذا الرجل ! أتيحت له فرصة النجاة من الموت ، وهو مصرّ على الهلاك
( لحنظلة ) ما حملك على الرجوع بعد إفلاتك من القتل ، يا حنظلة ؟!
حنظلة : الوفاء أيها الملك .
الجماعة ( يضجون ) الوفاء ، الوفاء ، الوفاء .
النعمان : ( مندهشا، لنفسه ) هل يسخر منا هذا الأعرابي ؟
( لحنظلة ) وما دعاك إلى الوفاء ، يا أخا طيء؟
حنظلة : ديني .
الجماعة : ( يلغطون ) ديني ، ديني ، ديني .
النعمان : ( مندهشا أكثر ) وما دبنك ، يا حنظلة ؟
حنظلة : الحنيفية .
النعمان : وما الحنيفية ؟
حنظلة : دين أبينا إبراهيم الخليل ، عليه السلام .
النعمان : هل دين إبراهيم يأمرك بالوفاء بالوعد ، ولو تعرضت بسبب الوفاء للموت المؤكد ؟!
حنظلة : نعم . وإن ديني يأمر بتوحيد الله تعالى أولا وترك الشرك به في الوقت نفسه ، كما يأمر بمكارم الأخلاق ، وهجر سفسافها .
النعمان : ماذا تعني بتوحيد الله تعالى ؟
حنظلة : إخلاص الاعتقاد والعمل له وحده ، بلا شريك له في ملكه وشرعه وأمره ونهيه ، بديع السماوات والأرضين …
النعمان : والشمس والقمر ؟
حنظلة : بديع الشمس والقمر . كلّ ما في الوجود يسبّح بحمده ، ويخضع لأمره ومشيئته .. البشر والشجر والحجر .
النعمان : ماذا تعني بمعالي الأمور ، يا حنظلة .
حنظلة : كثير من أخلاق العرب الشريفة ، هي من معالي الأمور في الحنيفية - أيها الملك - كالكرم والصدق والوفاء وصلة الرحم ، وإغاثة الملهوف ، ورعاية اليتيم والجيران .
النعمان : إذن وفاؤك بالوعد حملك على العودة ، يا حنظلة ، انسجاما مع دينك ؟
حنظلة : ( مشيرا إلى قراد بن أجدع ) :
ما كنت أخلف ظنه بعد الذي أسدى إليّ من الفعال الحالي
ولقد دعتني للخلاف ضلالتي فأبيت غير تمجّدي وفعالـي
إني امرؤ ، مني الوفاء سجية وجـزاء كلّ مكـارم بذّال
النعمان : ياحنظلة ، زدني تعريفا بدينك ، دين الحنيفية .
حنظلة : أبيت اللعن . إن إقدام أبينا إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل ، استجابة لأمر الله ، هو أصعب على النفس من حمل النفس على الموت ، فأين نحن من النبيّ إبراهيم وابنه إسماعيل ، عليهما السلام ؟
النعمان : ( لحنظلة ) لقد أعجبني دينك ، ياحنظلة الطائيّ . وسوف أستزيدك تعريفا به لي ولقومي معي .
( للجماعة ) يا قوم . والله ما أدري أيّ الرجلين هذين أوفى وأكرم ! أهذا الذي نجا من القتل ، فعاد . أم هذا الذي ضمنه ، معرضا نفسه للقتل بدلا عنه ؟! والله ، لا أكون ألأم الثلاثة .
الجماعة : ( يضجون ) الوفاء ، الوفاء ، الوفاء .
النعمان : إني عفوت عن الطائي ، وهو ضيفي ، وله عندي يد قديمة لا أنساها له أبدا .
الجماعة : الطائي ، الطائي .
النعمان : أما قراد بن أجدع فسأكرمه على نجدته وشهامته أيضا . وإني سوف أقلع عن عادتي ، بل عاداتي الجاهلية الظالمة مثل يوم البؤس ويوم النعيم. وإني سوف أدين بدين الطائي الشهم دين الحنيفية ، دين أبينا إبراهيم الخليل ، عليه السلام . ومن شاء منكم أن يدين به معي فحيّهلا . وسوف أدعو أهلي كلهم إلى ما آمنت به نفسي طائعا مختارا ، ومعجبا بالحنيفية السمحاء .