مع الأديب محمد علي طه

في حوار على شرف بلوغه السبعين:

الأديب محمد علي طه:

بقيت وما زلتُ مُخلصًا للقصة القصيرة؛ نوعي الأدبيّ المفضّل والأحبُّ إليَّ

محمد علي طه

أجرى الحوار: عصام خوري  و بشير شلش

أنا ابن النكبة، وهي أثّرت عليّ كثيراً؛ فقد خسرتُ طفولتي، وأترابي، وبيتي، وجيراني في عام 1948، تحوّلنا من عائلة تملك بيتًا وأرضًا وزيتونًا إلى عائلة تسكن تحت شجرة فوق إحدى هضاب "سخنين". سكنّا هناك عدة أشهر، ومرضت أختي وماتت ونحنُ تحت الشجرة

بين شجون الأدب وشؤون الثقافة امتد هذا الحوار الخاص بـ "الاتحاد" مع أبي علي، الكاتب الفلسطيني الأصيل، عابراً بالمحطّات واللحظات التي شكّلت وصاغت تجربته الأدبية والحياتية الممتدّة. رغبنا أن يكون اللقاء احتفاءً به واستقراءً لتجربته الأدبية، من صديقين، كاتبين، من جيلين مختلفين، ينظران- كلٌ من زاويته وبأدواته- إلى أدبه بكثير من التقدير.

**كيف ترى نفسك، الآن، وانت في السبعين؟

*ربّما انني في السبعين فعلاً، لكني اعتقد أن عمري 35 عامًا و 35 سنة ! ولا أوافق على اي عملية حسابية.

الحقيقة أني لا أعرف متى ولدتُ، لا الشهر ولا السنة. كنتُ لسنوات أعتقد أني من مواليد عام 1941، حتى أثبت لي أترابي الذين ولدت وإياهم في السنة نفسها وفي الشهر نفسه وربما في اليوم نفسه، أنني من مواليد 1942. وأما الشهر فقد كانت أمي – رحمها الله- تقول لي إنني ولدتُ في أيام "زراعة الصيفي"- أي البطيخ والسمسم، وهذا يكون عادة في شهر آذار أو نيسان.

حاولتُ.. كتبتُ عدة رسائل وطلبات للدوائر المختصة حتى احصل على شهادة ميلاد ولم أوفّق في ذلك، لأن شهادة ميلادي ضاعت في عام 1948، كان والدي يحفظها في صندوقه الخاص مع كواشين الطابو وشهادة زواجه، لكنها فقدت جميعها في عام 1948 خلال تهجيرنا من "ميعار".

كل سؤال عن طفولتك لا بد وأن يصطدم بالنكبة، وأنت من جيل عايشها، وطُبعت حياته بميسمها، أي أثر تركَ تهجيرك من قريتك على حياتك وكتابتك؟

أنا ابن النكبة، وهي أثّرت عليّ كثيراً؛ فقد خسرتُ طفولتي، وأترابي، وبيتي، وجيراني في عام 1948. كما عشنا حياة بؤس وشقاء؛ تحوّلنا من عائلة تملك بيتًا وأرضًا وزيتونًا إلى عائلة تسكن تحت شجرة فوق إحدى هضاب "سخنين". سكنّا هناك عدة أشهر، ومرضت أختي وماتت ونحنُ تحت الشجرة، وكانت المشكلة: أين سيدفنها والدي؟ أذكر أنه حملها بين ذراعيه وذهب وحيداً يبحث عن مقبرة لمواراتها في "سخنين". ونحن لا نعرف مكان هذا القبر حتى اليوم.

لا عجب، والحال هذه، أن كانت أول قصّة قصيرة نشرتها، عام 1958، اسمها "متى يعود أبي؟" وهي عن طفل فلسطيني ذهب والده إلى حرب عام 1948 ولمّا يعُد.

**ماذا تتذكّر من مرحلة دراستك الابتدائية المشتّتة، هل كان ثمّة مواضيع تستهويك وبرزت فيها دراسيًا ؟

*درست المرحلة الابتدائية في اربع قرى بسبب التهجير؛ الصف الأول في "ميعار"، والثاني والثالث في "كابول"، والسابع والثامن في "طمرة"، حيث كنت أذهب يوميًا من كابول إلى طمرة مشيًا على قدميّ، صيفًا وشتاءً.

في الابتدائية أحببت موضوعين: اللغة العربية والحساب ( لم يكن يسمى بعد "الرياضيات"). وكانت الكتب في تلك الفترة قليلة جدا، وكنت أبحث دائماً عن كتب لأقرأها. أذكر من الكتب التي قرأتها في تلك الفترة كتب الرحلات الكلاسيكية العربية، وبعض الكتب لكامل الكيلاني وكتاب "رنّات المثالث والمثاني". أما أول كتاب اقتنيته فكان القرآن الكريم، فقد طلبتُ من والدي أن يستَوْهِبَ لي مُصحفًا، فنهض مع الفجر وذهب سيراً على قدميه إلى الناصرة، وقد قال لي إن الشمس في ذلك النهار أشرقت عندما وصل إلى قسطل صفورية. عاد قبل المساء وأخرج لي المصحف الجديد من عبّه، له جلدة سميكة زرقاء، وطلب مني أن أقرأ أمامه، قلتُ له: ماذا تريد أن أقرأ؟ فقال: سورة الأعلى ( سبّح بحمد ربّك الأعلى..) فقرأتها. ثم طلب أن أقرأ سورة يــس، فقرأتها، فنزلت دموعه على خدّيه وقال لي: أحمد الله أن القرآن والكتاب قد عاد إلى بيتنا.

بعد تبديل أربع مدارس لإنهاء المرحلة الابتدائية، انتقلتَ إلى ثانوية كفرياسيف، ومن المعروف أنك زاملتَ هناك الشاعر محمود درويش لمدة اربع سنوات، ما الذي ظلّ راسخًا في ذاكرتكَ من تلك الفترة، ومن زمالتكَ لمحمود؟ خصوصًا أنها الفترة التي بدأتما فيها الكتابة والنشر..

في تلك الفترة كنّا في الصف ثلاثة فتيان نحب الأدب ونحاول الكتابة؛ محمود درويش وسالم جبران، وأنا. وكنتُ، محمود وأنا، نجلس على مقعد مدرسي واحد. كان محمود متفوّقًا في اللغة العربية واللغة العبرية، وكنتُ متفوّقًا في الرياضيات. ولا عجب أن كنا نأخذ علامة 100 في الرياضيات واللغة العبرية. وقد ذكّرني محمود بذلك عندما التقيتُ به في براغ في الثمانينات بحضو الصديق الشاعر سميح القاسم. وفي هذه الفترة نشرتُ مقالاتي وقصصي الأولى في عدّة صحف ومجلّات. في عام 1959 أصدر الشاعر سميح القاسم ديوانه الأول "مواكب الشمس"، فأرسلنا له رسالة إلى الرامة، فدعانا نحن الثلاثة لزيارته، محمود وسالم وأنا، وبتنا لديه يومين في الرامة، ومنذ ذلك التاريخ بدأت العلاقة والصداقة مع سميح وما زالت إلى اليوم.

كنتُ مع محمود على علاقة صداقة متينة منذ عام 1956 وتوطّدت العلاقة أثناء عمله في "الإتحاد" و" الجديد" في الستينات وبعد عودته إلى الوطن منتصف التسعينات.

**كيف كانت الحركة الأدبية والثقافية لدى الفلسطينيين الباقين في وطنهم عندما بدأت الكتابة والنشر؟

*في الخمسينات وبداية الستينات كان الشعر هو المسيطر على الساحة الأدبية لعدة أسباب موضوعية ليس هنا المجال لذكرها، لكن ظهرت أقلام قصصية في الستينات لفتت نظر القراء والنقاد على السواء، فقد كتب القصة في تلك الفترة كل من توفيق فياض، زكي درويش، محمد نفاع، عصام خوري وحنا ابراهيم ومصطفى مرار، وبالطبع إميل حبيبي الذي كان أصدر قبلها بسنوات عمله القصصي المعروف" سداسية الأيام الستة". في الستينات برزت القصة بشكل أقوى، وبدأت تظهر وتبرز أسماء جديدة، وظهرت عدة مجموعات قصصية أثارت اهتمام النقاد في الداخل وفي العالم العربي. فأنا أعتبر أن مجموعتي "جسر على النهر الحزين" التي صدرت عام 1974 هي ميلادي الأدبي الفعلي رغم أنها ، ترتيبًا، مجموعتي الثالثة.

عندما بدأت كتابة القصة لم أكن مطّلعًا على القصة القصيرة في العالم العربي؛ لكني كنت قد قرأت بالانجليزية والعبرية مجموعتين لتشيخوف وموبسان بالإضافة إلى مجموعة لمحمود تيمور، لكني بعد سنوات قرأت مجموعة يوسف إدريس "أرخص ليالي" فأدهشني بفنّه وأسلوبه، وأعترف أني معجب به وبكل ما كتب من قصص قصيرة، واعتبره القاص الأول في هذا الفن عربيّا وحتى عالميًّا.

أنا بقيت وما زلتُ مُخلصًا للقصة القصيرة، منذ بدايتي حتى اليوم، فهي النوع الأدبي المفضّل لديّ، والأحب إلى قلبي.

بالتوازي مع الكتابة، بدأتَ في السبعينات ايضا نشاطًا سياسيًا منظّمًا.

نعم، انخرطتُ في الحياة السياسية وانضممتُ لصفوف الحزب الشيوعي في السبعينات، وكنتُ ناشطًا سياسيًا، كنت بالاضافة إلى كتابة القصة والمقالة أكتب المنشور السياسي، وأوزعه، وأشارك في الحملات الانتخابية. وقد مثّلت الحزب في عضوية المجلس المحلي في قرية كابول، وفي نقابة المعلمين ونقابة العمال العامة، كما كنت عضواً في اللجنة المركزية للحزب ورئيسًا لتحرير مجلة "الجديد" ومحرراً أدبياً في صحيفة "الإتحاد"، ورئيس تحرير مجلة "التقدم" للمعلمين، ومشاركاً فعّالاً في جميع المظاهرات الوطنية والنشاطات السياسية في الداخل.

**هل ترى أن انخراط الكتّاب في النشاط السياسي العام خفت بين الأجيال اللاحقة لجيلكم؟

*في اعتقادي أن الكاتب هو ابن المجتمع والبيئة التي يعيش بها. وفي ظروف مثل ظروفنا لا يستطيع الكاتب أن يعيش في برج عاجيّ. كيف يستطيع أن يبتعد عن السياسة وهو يرى شعبه يذبح يوميًا، ويرى الآلاف في السجون وملايين اللاجئين الذين ينتظرون العودة، عدا عن الاضطهاد القومي والتمييز العنصري الذي نواجهه يوميًا. لكن في الوقت نفسه أنا أرفض أن يكون أدبنا أدبًا شعاراتيًا، لأن الأدب يقاس بمدى فنيته وليس بموقفه السياسي. نحن نكتب ادبًا فنيًا إنسانيًا بعيدا عن الشعارات وبعيدا عن المباشرة والغوغائية، وبكن في الوقت نفسه لا يوجد ادب حقيقي بعيد عن السياسة بمعناها العميق.

**بناءً على ما أسلفتَ، كيف ترى حالتنا الفلسطينية، وما هو دور المثقف، برأيك، في هذه المرحلة المعقّدة؟

*يمرّ شعبنا بأزمة صعبة جدا، فهو يعاني من سرطانَيْن؛ سرطان الانقسام، وسرطان الاحتلال. وأعتقد أن الانقسام كان أكبر هدية قدّمت للاحتلال الإسرائيلي والحركة الصهيونية وأعداء شعبنا في المئة سنة الأخيرة.

الانقسام ربما نسمّيه "النكبة الثانية"، لكني أراه النكبة الكبرى. ومنذ وقع الانقسام، قلت إن الخروج منه يحتاج إلى فترة طويلة لأن هناك فوى استفادت وسوف تستفيد من الانقسام، وهذا يعني أن محاولات عديدة لرأب الصدع فشلت وسوف تفشل. وما دام الانقسام قائماً فمن الصعب أن يحقّق شعبنا طموحاته بالحرية والاستقلال.

أعتقد أن وظيفتنا جميعًا، كمثقفين ومبدعين، أن نقف وقفة واحدة ننتقد الانقسام ونطالب بإنهائه.

**إجابتكَ تقودنا إلى ما يحدث منذ عامين في غير مكان في العالم العربي، أقصد ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"؛ هل تراه ربيعًا عربيًا، فعلاً ؟

*هو ربيع عربي حقيقي. أنا أومن بالشعب العربي إيمانًا مُطلقًا ولم أكن يومًا من الشتّامين واللاعنين للأمّة العربية مثل بعض المبدعين، وعندي ثقة أن الشعب العربي في جميع الأقطار العربية سينهض ويثور ضد الظلم والاضطهاد.

كان للمثقفين دور أيضاً في الربيع العربي، في مصر وتونس واليمن، وهناك عدد كبير من الفنانين والكتّاب الذين شاركوا في المظاهرات في مختلف ميادين التحرير العربية. ولا بد أن أذكر أن القصة والرواية والشعر والمسرح والسينما قد مهّدوا لهذه الثورات في عالمنا العربي، كما أن للغناء وللشعر الشعبي دور هام في ذلك أيضًا.

**البؤرة الملتهبة الآن هي سوريا، وما يدور فيها يستدعي موقفًا من الكتاب والمبدعين، كيف ترى ما يحدث في سوريا؟ وكيف تقرؤه؟

*ما يحدث في سوريا هو تراجيديا كبيرة للشعب السوري، ولسوريا الوطن أيضا. والمسؤول الأول عما يحدث، برأيي، هو النظام السوري نفسه، الذي حكم البلاد حكماً دكتاتوريا منذ أربعين عامًا.

من الطبيعي أن أكون كمثقّف وككاتب مع الشعب السوري في ثورته ضد النظام الذي يقمعه ويضطهده ويسرق لقمة عيشه. إن نظامًا يقتل أبناء شعبه يوميًا هو نظام لا مستقبل له ولا حياة، وهو الذي فتح، بتعنّته، أبواب سوريا وأبواب دمشق لمؤامرات الغرب والرجعية العربية وتدخلاتهم في الشأن السوري. لقد كتبت عدة مقالات في تأييد الثورة السورية، وأعتقد أن أيام هذا النظام قصيرة، والنصر سيكون للشعب.

يؤلمني ما يحدث يومياً في سوريا، ويزعجني أن أرى دولاً عربية بعيد عن الديمقراطية بعد الثرى عن الثريا تدافع عن الديمقراطية للشعب السوري، بينما تحرم هي نفسها شعوبها منها. لا أستطيع أن اصمت وأنا أرى ما يجري في المدن السورية يوميا، الشعب السوري هو شعبنا، وسوريا وطننا، والثقافة العربية التي أنتجها الشعب العربي في سوريا هي ثقافتنا التي نعتز بها. ونحن أبناء الشعب الفلسطيني الذين عرفنا ونعرف الاضطهاد والاحتلال والقمع والمجازر، لا بد أن نقف مع شعبنا في سوريا ضد هذه المجازر. لقد ولّى عهد الدكتاتوريات ، وعهد حكم العائلات وبزغ عهد الشعوب ولا بد أن يكنس الشعب العربي في جميع الاقطار العربية الحكام الرجعيين والدكتاتوريين واللصوص والقتلة، مرة وإلى الأبد.

**بالمناسبة، يبدو أن لديك الآن ما تحتاجه من وقت، مع تجربة تزداد اختمارا ونضجاً، فهل من مشاريع جديدة؟ على ماذا تشتغل الآن؟ وهل لك أعمال ستظهر قريباً؟

*سيصدر لي الشهر القادم ثلاث قصص للأطفال، عن دار الهدى- كريم، كما ستصدر لي مجموعة قصصية عن دار الشروق بعنوان "في مديح الربيع"، وأنا مشغول حالياً بعملين في آنٍ معًا؛ إنجاز سيرتي الذاتية، وإنهاء عمل روائي ثانٍ لي بعد روايتي الأولى "سيرة بني بلّوط".