حوار مع الأستاذ محمد رشدي عبيد

حوار مع الأستاذ محمد رشدي عبيد

رئيس تحرير مجلة الإيمان

حاوره : حسام الدين جودت

س1: متى بدأت علاقتك بالقرآن؟ ومن الذي كان له دور في تعليمك وتحبيب القرآن إليك؟ كيف تقرأ القرآن؟ هل قراءتك في مرحلة الشباب تختلف عن قراءتك الآن ؟ وهل هناك مرتقى آخر للقراءة أي هل تحاول أن تقرأ قراءة جديدة؟:

-الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الكرام..

علاقتي بالقرآن بدأت منذ الصغر في الكتاتيب أو الحجرة المسجدية وحين تقدمت في التعليم المدرسي أكملت القرآن قراءة بعد تعلم رسمه،.. وقد كان لوالدي أثر في تحبيب القرآن إلي إذ كان يستشهد بآيات من الكتاب في وعظه لنا ليلاً خاصة مما ترك في قلبي ونفسي أثراً عميقاً لم تمحه الأيام والمؤثرات العصرية والفكرية والفلسفية والتاريخية والأدبية بل أعانتني تلك المؤثرات والتجارب على زيادة اليقين بكونه ليس نصاً تاريخياً غائباً مندرساً بل هو خطاب لكل مستوى وعصر ومكان.. ولولا القرآن والإيمان لسقط الإنسان أكثر وزاد تفكك علائق مجموعاته رغم هجره الجزئي، والتلبيس عليه أوكتمه أوتأويله وإتباع متشابهه أحياناً..

 إن قراءتي في مرحلة الشباب قد كانت أقرب إلى السرد والتلقي الإيماني العام إذا قورنت بقراءة اليوم حيث إتسعت معارفي العلمية ورصيدي التفسيري وآفاقي الرؤيوية.. وإني لأقرأه الآن كخطاب لكل مكونات الإستجابة لديّ، أتلقى محكماته بالعقل كبديهيات لم يستطع علم الإنسان وفلسفته أن يفلح في التشكيك فيها كالإيمان بإله واحد، ويوم للحساب والثواب والعقاب، والإيمان بوجود عالم غيب وراء عالم الشهادة، والأمر بالخير أو التقوى كما في الكلمة القرآنية والعمل الصالح حيث تتفق كل الكتب الدينية عليه.. والدي أحاول أن أترجمها بقدر الإمكان إلى واقع حياتي معاش وفقاً لفقه التنزيل،.. أما متشابهاته فأسلّم بها باحثاً عن وجوه التشابه.. كما أحاول أن أعلم سياق الآية وسباقها أي ما قبلها وما بعدها وعلاقة المجموعات ببعضها، وماذا كانت تعني الآيات للرسول والمؤمنين ولنا الآن في خضم الحياة المعاصرة بكل تقاطعاتها وعلائقها وإشكالياتها وفتنتها، وأن أتحرر من المسبقات الظنية في التفسير.. ولكل ما قلت تفصيل قد لا يتسع له الوقت..

س 2 هل في القرآن تكرار؟ وهل هناك ترادف في القرآن؟ هل نستطيع أن نقرأ القرآن قراءة جديدة وكأنها لأول مرة؟

- إذا كان التكرار يعني الزيادة والحشو فلا يوجد في القرآن تكرار كأن يقال أن الباء مثلاً زائدة فللقرآن نحوه الخاص ويوجد مؤلَّف في هذا الباب، أما إذا كان التكرار يعني إعادة جملة معينة كقوله مثلاً : (فبأي آلاء ربكما تكذبان) الرحمن: 16.. ففيه ذلك وفي ذلك حكمة ففي هذه الآية مثلاً التكرار لتثبيت قضية إيمانية وتركيز الشعور بها عند كل نعمة أو حدث بارز أو وصف فريد أو بيان حق، وكذلك تكرار قوله: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) القمر: 17 .. إذ يرى ابن الأثير أنه لإدامة اليقظة الشعورية وأخذ مزيد من العبرة.. وتكرار قوله: ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) الشعراء: ٩ ..مع كل قصة داخلية لأن كل قصة منها كتنزيل برأسه وفيها من الاعتبار مثل ذلك كما يقول الزمخشري.

أما الترادف في القرآن فهي مسألة خلافية بعضهم يرى أن الكلمات في القرآن أحياناً تضم لهجات قبائل عربية ولغات شعوب، وآخرون يرون أن بعضها مقاربات أحياناً في الدلالة.. فالجلوس مثلاً يختلف عن القعود فالقعود يكون عن قيام والجلوس عما هو دون الجلوس، والقعود يدل على الثبوت الكثير أو الدائم كرفع إبراهيم القواعد من البيت والقواعد من النساء، والجلوس متغير. وكذلك هناك فرق بين الشك، والريب الذي فيه إتهام وقلق نفسي وفكري.. وبين البشر، والإنسان ببعده الإنسي والتفاعل مع الآخر.. أما القراءة الجديدة وكأنها لأول مرة فتكون بتفريغ الفكر من السلطة السلبية للإيدولوجيا والتخلص من الدوغمائية والجمود الفكري وعدم فرض التراث عليه تعسفاً وقراءة القرآن لبلوغ الحق الذي هو الثابت.. والتحرر من الهوى وقصر النظر.. وحين يستشكل أمر يفوض الموضوع للعليم الخبير..

س3: كان الرسول يحب أن يسمع القرآن من غيره من أفواه الآخرين ما تأثير عذوبة الأصوات على الإنسان؟ وهناك خطورة بعض المرات أن يتلذذ السامع بصوت القاريء وينسى القرآن، كيف نفرق بين الحالتين ونخرج من هذا التيه؟.

-الحديث في كونه كان يحب أن يسمع القرآن من غيره قد لا يعني عذوبة الصوت وحدها بل قد تجمع بين الأداء الصوتي المؤثر وبين التفاعل والتأثر بالآيات شعورياً فينسكب ذلك على المستمع، والغفلة وحدها أو الجهل بالخطاب القرآني هي التي تدمج المستمع في الشكل والصوت والمقامات التي يقرأ القرآن بها وحدها فلا يكون خشوع ولا التزام.. لذلك ندعو إلى فقه الآيات وتدبرها ولو مختصرة..

س4: هناك بعض الأشخاص لا يتقنون قراءة القرآن جيداً فهل لهم أن يقرؤوا التفسير الكردي؟

-قراءة التفاسير الكردية تنفع علمياً وعملياً لكنها لا تغني عن تلاوة القرآن، ورغم أن بعض كلمات القرآن مختارات من كلام مختلف الشعوب والأطياف والطوائف فإنها قد عُرّبت وسيقت وترابطت في سياق أكثر تأثيراً من مقارباته اللغوية ونثر اللغات المترجم إليها في أية لغة ولسان، لذا كان التركيز على ما سمي بالتغني بالقرآن أي التحسس بسلاسة القرآن ويشترك السمع في التذوق للتناغم الصوتي فيه، والآن فإن التقنيات المعاصرة يسرت تلاوة القرآن ومراجعة حسن الأداء..

س5: كيف نهيئ الجو لإستقبال القرآن؟

-التقدير النفسي أولاً فالله سبحانه يقول عن بعضهم:  (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الحج: ٧٤.. فحين يمر أحدهم وبيد مصحف تقوم له أفضل، ويقال أن أحد السلاطين العثمانيين لم ينم ليلة لوجود قرآن في غرفة نومه، وفي المكتبة أو البيت يكون له مكانه الرفيع، أما إستقبال التلاوة وتهيئة الجو فقد يكون في إختيار الوقت المناسب حيث الصفاء الكوني والسكينة النفسية آناء الليل وأطراف النهار في الفجر، وفي جمالية المكان لا بأس باختيار مكان أجمل في الحديقة مثلاً أو على ضفة نهر أو ساحل بحر أو قمة جبل أو في الفضاء في الطائرة في المناسبات السياحية، وإعداد أجهزة الإستقبال للإستجابة بقراءته كآخر وحي لا بديل عنه، وتزكية النفس حتى لا تكون تفاعلاتها الباطنية ومساوءها مانعاً من التدبر، أحياناً نجد المجالس عامرة بالحديث والقرآن يتلى وهذا مخالف لقوله تعالى:(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )الأعراف: ٢٠٤..كما لا بد من تفريغ النفس من التصورات الضاغطة والأماني والمضايقات العملية أو تأجيل النظر فيها، وعدم الخلط بين القرآن والمقالات البشرية في الكتابة كما وجدنا في نصوص البهاء ..ولا بد من الشعور بأن الخطاب موجه للقاريء بالذات ليتعلم ويتفقه وليتأثر ويخشع ويتلون شعورياً وفقاً للجو الذي تريد الآية أن تنشؤه في نفسه وقلبه ..فيخاف حيناً أو يستبشر أو يتعقل أو يتزكى أو يتفكر.. والذي يراقب نفسه يجد كائناً غير نفسه متفاعل معها بشكل غير مرئي يعيق مشاريعه الإيمانية ومنها الإنتفاع بتلاوة القرآن.. وقد يكون ذلك بتشتيت فكره وقطع تواصله مع النص: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم ) ِالنحل: ٩٨.. وبما أن القرآن يركز خطابه ويؤسسه على الإيمان بالآخرة فإن الذي لا يؤمن بها لا يكاد ينتفع منه فلا بد من الإيمان بالآخرة والخلود: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) الإسراء: ٤٥.. كما أن الشك يقلل من الإستجابة أو إستقبال القرآن فلا بد من مدافعة الشك إن وجد بالدراسات المقارنة وبتحليل إعجاز القرآن المتعدد الوجوه البياني والعلمي والقصصي..

س6: ما نصيحتك لقاريء القرآن ولسامعه؟ وبماذا يتحلى؟

-أن يعمل بالكتاب ويتحلى بالصبر حتى تنفتح له آفاق النص وأن يعلم أن القرآن يفسره الزمان فلا يتعجب إن أستشكل عليه شيء بل يراجع التفاسير الحديثة خاصة والمراجع الموثوقة فإن لم يجد ترك الموضوع للزمن والتقدم العلمي الذي يكشف المزيد من المكتشفات التي تعزز مصداقية النبأ القرآني، فإن ألح الفكر يتذكر أن آلياته العلمية محدودة في المجال الغيبي، وأن أسماء الله الحسنى لا يحيط بكل مدلولاتها بشر، ولقد كان نقص المشركين أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تحقق بعض الأمور الغيبية أو تأويلها.. ومن الأمور التي يجب تبينها أن القرآن يستعمل كلمات بعد نقلها من دلالته الحسية إلى دلالة غير حسية كالحبل والأغلال في الأعناق في الدنيا والسد وما بين يدي القرآن، فهذا هو تقريب المعنى..

 س7: في زحمة إصدارات المطابع وكثرة الكتب التي تتدفق كالسيل ألا ترى أن كثرة الكتب قد أبعدت المسلم عن القرآن؟

-إذا كان القرآن ميزاناً لتمحيص الكتب ولم تكن الكتب لغواً أو تشكيكاً أو زيغاً أو إلحاداً أو بديلاً أو إقصاءً للقرآن أو إتباعاً للظن والهوى فإنه لا يمكن ولا يعقل إيقاف حركة التأليف ولكن بهذه الشروط، لقد إمتاز الغرب بكثرة الإنتاج وكذلك كان شرقنا الإسلامي من قبل فكانت مكتبات الأندلس وبغداد والقاهرة وبعضها أحرقت أو أغرقت محتوياتها.. وقد تكون من متطلبات الحضارة التخصص الدقيق في العلم والكتابة فيه.. والقرآن كشأن غيره من وحي الله أقام حضارات، بل إن توينبي رأى أن الحضارات السبع الكبرى نشأت بأثر ديني.. لكن الترف والإستكبار والبغي والعنصرية تسقط الحضارات ولو بعد حين.. القرآن يضع معالماً ويقدم بينات ويهدي بشريعة، والفكر ينظّر ويجتهد ويملأ الأطر بالنشاط..

س8: عندما يدير ويحرك الإنسان زر تغيير القنوات يجد قنوات مثل المجد خاصة بالقرآن لكن أحياناً تجذب المشاهد قنوات أخرى فيها أخبار ومحاضرات هل هذا من هجر القرآن؟

-القرآن لا يدعو لهجر العالم لكنه يدعو لتنظيم عملية التلقي والمعادلة بين الوحي والعصر، فحين يكون الإيمان في خطر لا بد من إعطاء وقت مناسب لتأسيسه أو إعادة تأسيسه، وحين يكون مجتمع أقرب إلى التخلف لا بد من تعصيره وإعادة "إنتاج" فكره الإعماري والحضاري، وحين يعاني من الإثنين يعطى لكل منهما مساحة رؤيوية مناسبة، وعموماً فإن المحاضرات لا بد أن تستهدي بالقرآن أولاً مع فقه أصيل للواقع والأولويات لكل مرحلة، والأخبار المكررة والمشاهد شبه المتماثلة تأخذ كثيراً من الوقت، وهي جزء من عولمة الإعلام، وقد يكون فيها نوع من المشاركة النفسية لما يحدث في العالم من خير وشر إلا أن الإستغراق فيها على حساب الأصالة الفكرية وتقدير حاجتنا نحن وظروفنا شيء مخل بالتوازن.. لا شك أن القرآن يدعو إلى إستنباط الدلالات والعبر والدروس مما يحدث ومعرفة ذلك خير من مجرد الإستماع للسرد المتواصل الذي لا يعين على تبين رؤية القرآن وهذا الدين لما يجري دون تحيز أو تحامل أو نظرة سطحية أو جزئية..

س9: يروى عن والد الشاعر المعروف محمد إقبال أنه أمر إبنه بقراءة القرآن وكأنه تنزل عليه كيف لنا أن نعد أنفسنا لإستقبال القرآن وكأنه قد نزل علينا؟.

-هذه القراءة تسمى قراءة إيمانية وقد قرأها الرسول كذلك وقرأها المؤمنون أو كما سماها البعض قراءة للتنفيذ لأنهم آمنوا بأنه تنزيل من حكيم حميد نزل ليُعمل به وليس للترف الفكري أو المتعة والتسلية أو مجرد التربية الطفولية على تعظيمه أو ظن البركة فيه هو مجرد تلاوته وكفى، وإعداد النفس لذلك يكون بعدم الإيمان بتاريخية الثوابت القرآنية ليس بمعنى علاقته أحياناً بشخوص وأحداث ورؤى وتصورات ومواقف ومذاهب في الزمان والمكان فهذا حق بل برؤيته حديثاً فكرياً وإجتماعياً نشأ من الأرض والبيئة، عالم القرآن واسع وخطابه بدون تدرج في التنزيل قد يصدع الإنسان، فلا بد من فقه التنزيل أيضاً..

س10: كيف نتعامل مع القرآن؟ ما تأثير الوضوء وإستقبال القبلة وحضور القلب في التلاوة؟

-القرآن أكثر الكتاب قراءة لكننا لا نزال متأخرين في تقديره وبلوغ آفاقه، فالبعض يقرأ بعضه في الطفولة ثم يتركه، والبعض يحرص على أداء شكله الصوتي التجويدي وحسب، وآخرون يستمعون أحياناً لتفسيره الكلماتي دون ربطه بواقعنا وعصرنا ويغلب عليه الإنذار والتخويف، ومنهم من قاطعه ظناً أنه كتاب أمة أخرى مع أنه هدى للناس، ومنهم من يريد أن يستمد الحق أو ما يسميه الحقيقة من غيره، وشذ آخرون فآتبعوا وحي أنفسهم في بعض الأمور فيما يسمى بالنبوة المستمرة مع أن الرسول خاتم النبيين.. ومع أن علينا أن نتلوه حق تلاوته.. ونعيش به عصرنا ونحسّن به واقعنا ونرضي بالعمل به ربنا.. أما تأثير الوضوء فهو مطهّر ومنشّط وعبادة كفاصل حركي للدخول في الصلاة، ولم يوجد في القرآن ما يأمر به لتلاوة القرآن إلا أنه لا بأس به، وكذلك استقبال القبلة مقاربة مفضلة غير ملزمة فالمهم توقير الله واستحضار الشعور بجلاله..

س11 هل من بأس في تلاوة القرآن تلاوة تصويرية لأحداثها كأنها ماثلة أمامك "القراءة المصورة"؟.. لقد كان لقصة أصحاب الكهف ويوسف تأثير كبير على المشاهدين..

- شاهدنا في التلفزيون شيئاً من ذلك ولم نسمع فتوى بالنهي عنه أو نقرأ ذلك في كتاب، فتصوير المواقع التي وقعت فيه أحداث بينها القرآن تضفي بعداً مشهدياً يقرب الوصف القرآني، وكذلك مشاهد الكون والحياة في القرآن.. فللتصوير تأثيره خاصة في هذا العصر الصوري والعيني.. أما المسلسلات الدينية فلا بد أن تكون بمواصفات إسلامية وشروط شرعية وخلواً من الإثارة والخلوة بين الجنسين وإبداء الزينة للأمر بذلك في القرآن، بينما يتحفظ البعض على الإختلاط الكثير والتقارب بين الذكور والإناث في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني..

س12 هل في القرآن وجوه متعددة وباطن وظاهر؟

-شبه (رولان بارت) النص الأدبي بفص البصل فيه دلالات عديدة، وكل قاريء قد يقرأ النص كما يريد في حالة النص البشري خصوصاً إذا لم يتقيد بالأمانة والحياد واللغة، ولا شك أن القرآن الذي نزل بلسان عربي لا بد أن يفسر به وأحياناً تكون للكلمة دلالات مقاربة فيؤخذ بأقربها إلى اليقينيات العلمية فمثلاً: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)الذاريات: ٤٧ قد يفسر الوسع بالطاقة أو التوسيع وكلاهما قد يكون مراداً خاصة بعد اليقين بتوسع الكون، وهو كتاب محكم ولا تناقض فيه أو إختلاف، وليس لأحد أن يحرف دلالاته أو يقرأها كما يظن ويهوى، وإن كان كل أحد يعطيه القرآن حسب حاجته ومستواه، يأخذ منه ذو الثقافة المحدودة والمتخصص سواء، وقد حاول البعض إخراج بعض الآيات عن تفسيرها الظاهري إلى تفسير باطني كأن يفسر الصلاة والزكاة والصيام والحج والكعبة والبلد الحرام بالأئمة ..وأن الجنة والنار حقائق مرموزة.. فالجنة ترمز إلى حياة الكمال أو السعادة والراحة النفسية والنار ترمز إلى حياة النقص والجحيم المعنوي..وغير ذلك، وبعضهم فسر القرآن تفسيراً إشارياً أو تصوفياً تحت تأثير التصوف ورموزه ومنطلقاته ومصطلحاته وما سمي بالفيوضات أو الإلهامات التي تخرج الآيات عن دلالتها أحياناً..

س13: هل أهل الأموات ينتفعون من تلاوة ذوي قرباهم؟وما حكم الإستشفاء بالقرآن؟

-القرآن كتاب للأحياء ليتعظوا، هذا ما جرى عليه القرن الأول، وقد تكون قراءة (سورة يس) التي ورد فيها حديث بقراءته على الموتى الذين في حالة السكرات لتثبيتهم على الإيمان باليوم الآخر والبعث، وكذلك ما ورد من أن القرآن فيه شفاء ورحمة هو شفاء للأمراض القلبية والنفسية، وإذا كان قد ورد حديث بقراءة بعض الصحابة للفاتحة على ملدوغ فقد يكون للتفاؤل والإستشفاء، والله قدير..

س 14: القرآن كتاب مبارك كيف نحصل على بركته التي تكاد تكون مفقودة في حياة المسلم؟

-البركة في اللسان العربي الزيادة غير المحسوسة، والحصول على بركة القرآن تكون بالتدبر والبحث والدراسة للآيات ومعرفة كيفية العمل بالقرآن فتزداد حياتنا غنى وأفكارنا وسعة وعلمنا ومعارفنا عطاء، وسبب قلة البركة في حياة المسلم الجهل بآفاق القرآن وقلة تفقهه دون تبين مراد الله ما أمكن من آياته والتأثر بها.

 

س 15: لقد أمرنا الله بتدبر القرآن فكيف نتدبر؟ هل التدبر عملية فكرية؟ ما الفرق بين التدبر والتفكر؟ ما هي موانع التدبر؟ وما الذي يعينك على التدبر؟ وما يمنعك عن التدبر؟

-الذي يبدو أن التدبر تشترك فيه مكونات الإنسان من السمع والبصر والفؤاد والفكر والعقل والقلب، والتفكر وسيلة للتدبر أي البحث عن مراد الله منا بتنزيل الآية، وموانع التدبر قد تكون رتابة التعامل مع الآيات، أو عدم تقديرها حق قدرها ضمن كم الإهتمامات الأخرى، أو عدم التمكن من اللسان العربي، أو عدم إدراك خصوصية الخطاب القرآني وبلاغته.. أو النظرة الجزئية للكلمات والآيات دون ربطها ببعضها وبما حولها.. أما ما يعين على التدبر فهو معالجة هذه النواقص والسلبيات..

س 16: هل في القرآن إختلاف في النص مثلاً أو في النزول "القراءات"؟

-ضخم بعضهم موضوع القراءات، وجعلها بعضهم إشكالية مستديمة، والذي تبين لي بعد مراجعة الأحاديث فيه أنها كانت قراءات للضرورة إن أفادت الأحاديث اليقين العلمي،فالنص لم يكن منقطاً.. وإن جمع عثمان قد أزال هذه الإشكالية ولا ندري سبب إعادة هذه القراءات الآن والتفنن فيها وفتح المجال للمشككين لإيهام الآخر في عدم وحدة النص المنزل الذي نزل بلغة قريش التي جمع بها عثمان القرآن ..

س17: لماذا كثرت تسميات القرآن مرة بكتاب وذكر وفرقان وغيرها؟

القرآن له أسماء بحسب كونه موضوعاً واسع الدلالة والسمات والخصائص فهو كتاب لأنه كتب في اللوح المحفوظ وفي الصحف، وهو ذكر لأنه يذكر الإنسان بالقضايا والمسائل المصيرية المتعلقة بوجوده وحياته ودنياه وآخرته.. وهو فرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والخطأ والصواب، والخير والشر، فالمسمى واحد والتسميات متعددة..

س18: مادام القرآن واحداً فلماذا الإختلاف والخلاف؟

إذا كان الاختلاف بين المؤمنين بهذا الدين والآخر فهو في القرآن أمر كوني وهو جزء من حكمة قد تخفى علينا الآن لنسبية علمنا وقد تدخل فيها أهواء مستحكمة وعصبيات وجمود فكري وغلبة التراث وقلة التحقيق :  (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) هود: ١١٨ - ١١٩.. وهذا لا يقتضي أن لا نحاول إزالة أو تقليل الخلاف بيننا وبين الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وتأصيل نقاط الإشتراك وإقامة الحجة النظرية على الآخر في الأقل لأن وضعنا ليس متكاملاً لإقامة الحجة العملية والشهادة على الناس، نفعل ذلك إن لم يكن الآخر متلبساً بظلم لا يسمع فيه نصحاً، نفعل ذلك حسب المشيئة الإستثنائية المذكورة، خاصة وأن أمة لم تخل من نذير ولها بقايا دين أو كتاب أو حكمة مستقاة من مرجع ديني أو عطاء أخلاقي..

أما الخلاف بين المسلمين فهناك تنوع في قضايا سميت فرعية وشكلت في عصور الفراغ الفكري عند البعض مدارس مغلقة تنافح عنها وتزيدها تحدداً وانغلاقا، علماً بأنها قد كانت أحياناً استجابات لبيئات وظروف ومشاكل تاريخية وسياسية ونفسية وحضارية وجدلية كلامية.. أما أن تُنسى الأصول المشتركة والأساسيات ويركز على بعض القضايا الثانوية فهذه إشكالية ليست مرجعها القرآن الذي يأمر في آياته بالوحدة الفكرية بين المسلمين والتعايش السلمي بين المكونات العالمية بشرط عدم الاعتداء والفتنة وعدم منع الانفتاح الفكري والمعلوماتي.. إن نسيان بعض آيات الكتاب كان هو السبب في العداوة والبغضاء بين أهل الكتاب سابقاً وبيننا لاحقاً كما بين القرآن الكريم.. فقد أدى ذلك إلى تباعد المسلمين وتنافرهم أحياناً فضلاً عن غياب جزئي للمرجعيات الجامعة:(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا )الفرقان: ٧٤.. وعدم تقدير فضل السابقين وجهودهم وغياب الرحمة مما جعل الأمة في شيء من الشقاق..

س19: لماذا كثرت تفسيرات القرآن تفسير إشاري، مذهبي، باطني، تجزيئي، موضوعي، إستقرائي؟:

-يبدو أن للنشاط الفكري للمفسرين والمدارس التي ينتمون إليها والتخصصات التي برعوا فيها أثراً في تلوين وتحديد تفاسيرهم، فالتفسير الإشاري غلّب أحياناً المعاني غير المألوفة كأن يقول أن رزقهم فيها بكرة وعشياً رؤية الله كما قال الآلوسي، أو أن العرش إشارة إلى قلب المؤمن.. أو أن طه التي هي مجرد حروف مقطعة طائف كعبة الأحدية في حرم الهوية،.. ونحن غير ملزمين بهذا التفسير لبعده على الأكثر عن ظاهر الدلالة وقد تجاوزه الزمن على الأكثر.. والتفسير المذهبي هو الذي غلّب موضوع الأحكام وفسر القرآن مع تفصيل وتأكيد المدرسة التي ينتمي إليها المفسر، والباطني بيّناه وهو صرف الدلالة الظاهرية وهو نوع من الإسقاط وتهرب من ظاهر الدلالة.. أما التجزيئي والموضوعي فهما متكاملان ولا يغني أحدهما عن الآخر إذ التجزيئي يأخذ دلالة الآية أما الموضوعي فيأخذ فصول القرآن أو المواضيع المتشابهة أو المتقارب في القرآن كموضوع المرأة والنساء في القرآن، والشعائر فيه، أو التزكية، أو الجهاد..وقد يجمع مجموعات الآيات ضمن سورة واحدة، والخط العام لسور القرآن ..

  س20: عرفنا أنك مقدم على تفسير القرآن بأية منهاجية تقوم بذلك ؟ هل هو على نمط كتاب النبوة والعصر حيث أن هناك مقولة تبين أن القرآن يفسره العصر ما تعليقك على ذلك؟

بعد أن فسرت آيات الأحكام شرعت في تفسير الآيات والسور الأخرى فبدأت بتفسير سورة البقرة وآل عمران إلى أكثر من مائة آية، لنشرها في المجلة.. ومنهاجي في التفسير هو التدبر وقراءة الآيات على ضوء المستجدات في العلوم الإنسانية والكونية مع مراعاة لسان العرب وبالإجابة عن أسئلة العصر وتحدياته ومشاكله وكيفية تطمين تطلعات العقل إلى العلم والمعرفة، وعدم وجود جدل بين الوحي والعقل _ ومن قبل حاول إبن تيمية درء التناقض الموهوم بين "العقل والنقل"_ مع الإستفادة من مدرسة المأثور ومدرسة رشيد رضا ومحمد عبده في التفسير دون تأثر بالنظرية الوضعية في المعرفة أو الفلسفات النقدية للنص الديني إذ أن آلياتها لا تخضع القرآن لأنه كتاب عزيز ممتنع عن القراءة الزائغة..إذ أن للغيب مكانته الآن في فلسفة الفيزياء ولا داعي لتأويل كل المغيبات أو تعميم فكرة المجاز على أصول الإيمان.. وأحياناً لا أجد جديداً فأكتفي بالتفسير الشائع..

س21: دحضت مقالات الحداثيين عن القرآن من خلال مجموعة من المقالات ماذا تقول للحداثيين بعد رحيل معظم رموز هذا التيار وكيف السبيل للوقوف أمام شبهاتهم؟

-أقول للذين يريدون نقد الخطاب الديني أن القرآن أحسن الحديث إن أرادوا الحداثة أو التجديد إن أرادوا التجديد المنضبط، وأن لا يتأثروا بالنظرة المادية للمعرفة فينكروا الغيبيات في القرآن كالجن والشيطان والملائكة فالفضاء والسموات والأرض مملوءة بقوى كثيرة غير مرئية، وأن يتطامنوا لخطاب الله ويثوبوا إلى رشدهم، فالقرآن ليس فيه أساطير أو قصص مختلق بل هو مصداق للآثار والحفريات التاريخية وكثير منه موافق لنصوص التوراة الحالية ويمكن مراجعة كتاب الكتب المقدسة في ضوء العلم لكاتبه "موريس بوكاي".. وأن لا يستبعدوا أن ينزل الله كتاباً وخطاباً في القرن السابع الميلادي في لحظة تاريخية معينة، ومكان خاص ليس فيه تراكم حضاري وفلسفي، كتاباً يصلح لجميع الناس وفي كل عصر، أما عدم تفجير الخطاب للملكات العلمية لتجاوز الزمن في عصر التنزيل من ناحية الكشوف العلمية والتقنية فلإنشغالهم بإقرار الإيمان والعدل في العالم، إلا أن الأجيال الإيمانية التابعة لهم سدوا هذه الفراغات، وعليهم أن لا يذهبوا إلى تاريخية الثوابت الإسلامية بإعتبار مادي أن البناء التحتي هو الذي يبني البناء الفوقي كالدين فهذه النظرية لم تعد تفسر كل شيء وفلسفة الفيزياء تؤمن الآن بأثر فعال للدين في البنية التحتية وبوجود الغيب فينا وفيما حولنا وموجوداته.. وأن الإسقاط الفلسفي المعاصر على القرآن ليس من الأمانة العلمية..

 أما النسخ الذي إختلف العلماء فيه بين من يراه في نسخ الآيات الكونية كأبي مسلم الأصفهاني وبابا علي القرداغي ومصطفى الزلمي، وبين من يراه نسخاً موقتاً وأن كل آية ينتفع منها في السياق الواقع المستجد الذي يناسبها كما يرى الغزالي وسيد.. وبين من يأخذ الآيات الناسخة فقط.. فعلى كل حال لا علاقة بين النسخ وبين تاريخية النص وإرتباطه بأسباب نزول ذهبت كلها مع الزمن ومع أصحابها، فالإنسان هو الإنسان، وبعض الوقائع تتكرر، والأمر والنهي لبعض الأمور ثابتة، والبعض على الأقل يتكرر بمقارباتها.. وأن القرآن ليس فيه نقص أو زيادة أو نسيان لحفظه كما ظن بعضهم لأن ذلك يخالف المنطق الديني إذ لا يبقى كتاب يعتمد عليه فالدين قد أكمل ولم يكن للرسول حق تبديله والآية تنص على حفظه:                            ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )الحجر: ٩..

__________________

-عن مجلة الإيمان العدد(46) الصادرة باربيل في كوردستان العراق .