صلاح عدس بين تهذيب التراث وريادة المسرح الإسلامى
صلاح عدس
بين تهذيب التراث وريادة المسرح الإسلامي
أبو الحسن الجمّال
حوارنا اليوم مع علم من أعلام الأدب الإسلامى .. برع فى أحد رواف هذا الأب وهو المسرح الإسلامى، وقد كان جليا أن يعده النقاد خليفة للأديب والكاتب المسرحى والشاعر على أحمد باكثير (1911- 1969) الذى استوحى مسرحياته من تاريخ وطنه الأكبر فنفذ إليهم من خلال السياسة والتاريخ لأنه كان يعتبر أن تاريخنا أكبر التواريخ جميعا وأشدهم إمتلاء بالروح الإنسانية، وكان هو امتدادا لباكثير ووصل إلى القمة بما يملكه من قدرة عالية على استخدام مفردات اللغة الشاعرة بطريقة توقظ فى القارىء كل الإحساس بالحدث ويحيله جزء منه لا يكاد ينفك عنه بسهولة إلا إذا انتهى من قراءة العمل كله ..
إنه الدكتور صلاح عدس المولود فى محافظة الدقهلية عام 1943م، تخرج فى كلية الطب القصر العينى، وكان اثناء الدراسة يطوف فى أرجاء كليات الجامعة يلتقى بأعلام عصره فى الجامعة وخارجها وارتبط بصلة وثيقة بالدكتور أحمد هيكل أستاذ الأدب فى دار العلوم، والدكتور رشاد رشدى أستاذ الأدب الانجليزى فى كلية الآداب، وغيرهم، وله معهم ذكريات .. شغف بالآداب العالمية منذ صغره وكان أخيه المفكر الإسلامى الكبير محمد يوسف عدس القدوة والمثل..كذلك اهتم بالتراث الإسلامى العريق وهذب واختصر بعضه ليشكل مشروعيا ثقافياً رائعاً ومفيداً واختار بعض الكتب لتغطى التاريخ، والسيرة، وتاريخ الصحابة، والسنة النبوية المشرفة..
نلتقيه ليسرد لنا تجربته فى الحياة وليجلى رؤيته لبعض القضايا ومنها الأدب الإسلامى والمسرح الإسلامى الذى وصل فيه لمرحلة عليا من الإبداع والعطاء ... وإلى نص الحوار:
*ما الدوافع التى جعلتك تلجأ إلى بعض كتب التراث وتهذب بعضها؟
- بدأت بتلخيص كتب التراث التى تهم المسلمين فى دنياهم، وشملت علوم الدين الإسلامى من التفسير، والسيرة النبوية، وسير الصحابة، والتاريخ الإسلامى العام فى كل عصوره، وركزت على تاريخ الحروب الصليبية التى لم تنتهى حتى اليوم، وبدأت بالتفسير، ووجدت فى كتاب "تفسير القرآن العظيم" للإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقى القرشى (701-774هـ) لما رأيت قبولاً عليه شديداً من العامة والخاصة على السواء، فعملت على اختصاره لتعم الفائدة فى مجلد واحد بدلا من أربعة مجلدات، وكان دافعى عندما رأيت الذين اختصروا التفسير جاءت كتبهم فى مجلدات عدة، ثم عرجت على كتاب السيرة النبوية لعبدالملك بن هشام (316هـ)، وهو اقدم كتاب وصلنا عن السيرة اختصره عن ابن اسحق، وتعرض له البعض بالشرح تارة والاختصار تارة أشهرها فى عصرنا مختصر أستاذنا عبدالسلام هارون، واختصرته فى كتاب صغير بدلاً من الكتاب الأصلى الذى جاء فى مجلدات أربع، وكان لابد لى أن أكمل مشروعى الذى قصدت به تعليم الشباب والناشئة لما وجدت عزوف منهم عن كتب التراث وعلوم الإسلام، فاخترت كتاب "أسد الغابة فى معرفة الصحابة" للحافظ عزالدين على بن الأثير الجزرى (ت630هـ)، واختصرته فى مجلد كبير بدلاً من خمسة مجلدات، أوضحت منهجى فى المقدمة، وأبانت عن بعض عيوب ابن الأثير فى منهجه، ثم اخترت كتاب الزبيدى فى مختصر صحيح البخارى، وانقيت شروحه فى هامش المتن من كتاب "فتح البارى شرح صحيح البخارى" للإمام شهاب الدين أحمد بن على بن حجر العسقلانى المصرى (754هـ)، هذا بخصوص السنة وعلومها، أما بخصوص الفقه فقد وضهت كتاباً بعنوان "ملامح الإسلام" وصدرته بفصل عن أهم القضايا المعاصرة.
*هل استقصيت كل ما كتبه ابن الأثير عن الصحابة؟
- اخترت750 صحابياً فقط، لأن الكتاب الأصلى كتبه ابن الأثير بحسن نية حيث استقصى كل ما يعرفه عن الصحابة بما فى ذلك بعض المآخذ التى لا يجب عرضها على العامة حتى تظل الصورة جميلة عن الصحابة ومن هذه المآخذ ترجمته لشخصية مثل عبدالله بن سلول ..
*هل يجب تنقية كتب التراث وحذف ما بها من إسرائيليات ومفتريات؟
- آن الأوان لتنقية كتب التراث وحذب المشوب منها بما يخدم الإسلام لأن هناك أمور لا يجب عرضها على العامة وإنما مكانها الطبيعى هو البحث الأكاديمى فقط مثل مسائل علم الكلام وما إلى ذلك..
*متى نكتب التاريخ الإسلامى برؤية إسلامية خالصة؟
- يجب تنقية التاريخ الإسلامى - كما أسلفنا- وهناك أكاذيب تعرض لها التاريخ الإسلامى وخصوصا فى زمن الفتن الكبرى وفى زمن الصراعات الأخرى التى يستغلها أعداء الإسلام فى الغرب والداخل للتشنيع على الإسلام وتاريخه وشريعته، ولم يتعرض فقط للتاريخ بل تعداه إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد عمد الكثير من المؤرخين فى القديم والحديث إلى استخدام منهج "الجرح والتعديل" لغربلة الوضع والأكاذيب، وقد نجحت هذه الجهود فى الحديث الشريف، ولكن فى مجال التاريخ نحتاج بعض الوقت لإنجاز وهناك جهود فى الوقت الحالى كتبت التاريخ بروح إسلامية خالصة منهم الأساتذة: أنور الجندى، ومحمد الخضرى، وعبدالوهاب النجار، وضياء الدين الريس، ومحمود شيت خطاب، وعبدالعزيز الشناوى، وعلى محمد الصلابى، ومحمود شاكر الدمشقى، وليس الأستاذ أبى فهر محمود محمد شاكر وغيرهم..
*كيف ترى الأدب الإسلامى.. نشأته وتطوره؟
عرف العرب قبل الإسلام بأكثر من مائة وخمسين عاما الشعر وكانوا أصحاب بلاغة لذلك جاءت معجزة الإسلام متمثلة فى القرآن الذى لم يستطع أحد تقليده، وقد بلغ النبى صلى الله عليه وسلم قمة بشرية فى البلاغة وإن يكن قد استطاع البعض تقليدها بدليل الأحاديث الموضوعة، وقد برع العرب فى الخطابة والأمثال والحكم وسجع الكهان، وبرعوا أكثر فى الشعر رغم تشكيك طه حسين فى كتابه "الشعر الجاهلى" وقوله بأنه منحول وذلك تمهيدا منه للتشكيك فى القرآن وطعن الإسلام.وقد ظهر الشعر الإسلامى بظهور البعثة النبوية وفى عهود الخلفاء الراشدين وذلك على يد بعض الصحابة من أمثال "حسان بن ثابت" و"كعب بن مالك" و"كعب بن زهير" و»عبدالله بن رواحة« وغيرهم ممن قاموا بالدفاع عن الإسلام والدعوة له وذلك بمدح النبى وهجاء الكفار والرد على شعراء الجاهلية.وقد تميز هذا الشعر الإسلامى بما فيه من الرؤية الإسلامية الجديدة للإنسان والكون والحياة حيث الله هو الخالق الرازق المحاسب وحده يوم البعث والقيامة، وأن الكون كله خاضع لله ومن ثم يجب أن يخضع الإنسان فى كل حياته لله الواحد، أى أن الأدب الإسلامى منظومة مركزها عقيدة التوحيد، وكانت مدخلات هذه المنظومة هى آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والتى قام الشعراء فى صدر الإسلام باقتباسها وتضمينها فى شعرهم الذى تحول بتأثير الرؤية الإسلامية إلى موضوعات ومضامين جديدة تختلف عن الرؤية الجاهلية الوثنية التى كانت فى الشعر وتجلت فى أغراضه وأهمها: المدح والفخر الفردى والقبلى والفخر بالأنساب وتحبيذ الخمر وتمجيد الظلم كما تجلت الجاهلية فى شعر امرىء القيس الإباحي.إذ يقول:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع*** فألهيتها عن ذى تمائم محول
إذا ما بكى من تحتها انصرفت له*** بشق وتحتى شقها لم يحول
أما تحبيذ الخمر فمثل قول "عمرو بن كلثوم" فى مطلع معلقته:
ألاهبى بصحنك فأصبحينا*** ولا تبقى خمور الأندرينا
ويقول أيضا فى تمجيد الظلم:
بغاة ظالمين وما ظلمنا ***ولكنا سنبدأ ظالمينا
وأما الشعراء فى صدر الإسلام فقد هجروا الفخر بالقبيلة والفخر بالظلم وبالباطل ومدح النفاق والتملق وهجرواوصف الخمر ومجالس اللهو والغزل الصريح، وابتدع هؤلاء الشعراء أغراضا جديدة مبنية على العقيدة والرؤية الإسلامية مثل شعر المغازى والفتوح والفخر بالإنتصار فيها وامتداح الفداء والجهاد فى سبيل الله والإشادة بالرسول وأصحابه ورثاء الشهداء، ومن أمثلة ذلك قول حسان بن ثابت:
فينا الرسول وفينا الحق نتبعه*** حتى الممات ونصر غير محدود
مستعصمين بحبل غير منجذم*** مستحكم من حبال الله ممدود..
ومن روائع الشعر فى صدر الإسلام أيضا قول "كعب بن زهير":
إن الرسول لنور يستضاء به*** مهند من سيوف الله مسلول
وقد عفا النبى صلى الله عليه وسلم عنه بعد إنشاده قصيدته وأعطاه بردته فسميت القصيدة باسم البردة.. ومن أجمل المدائح النبوية أيضا قول عبدالله بن رواحة:
أنت النبى ومن يحرم شفاعته*** يوم الحساب فقد أزرى به القدر..
وبعدذلك جاء عصر بنى أمية والعصر العباسى وحدثت ردة إلى الجاهلية حيث تفشى الترف واللهو والمجون ودخلت الخمر والرقص إلى قصور الأمراء وأيدهم شيوخ السلطة ومداحيهم من الشعراء فى مواجهتهم لسيدنا "على" ثم قتلهم الحسين وأهل البيت من بعده، وبدأ يظهر فى الشعر الغزل الإباحى على يد "عمر بن أبى ربيعة" ثم الإنحلال الجنسى فى شعر بشار بن برد وشذوذ أبى نواس ودعوته للخمر فى قوله:
دع عنك لومى فإن اللوم إغراء*** وداونى بالتى كانت هى الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها*** إن مسها حجر مسته سراء
وكذلك عاد الهجاء الفاحش مثلما فى أشعار حماد عجرد وبشار بن برد إذ قال له حماد: (وأعمى يشبه القرد/ إذا ما عمى القرد) وكذلك عاد شعر المدح على يد شعراء القصور وأصبح أكثر نفاقا وكذبا.. بل كان »بشار« شعوبيا يكره العرب لكراهيته للإسلام كما شرح ذلك »الجاحظ« فى كتابه »البيان والتبيين«، بل إن لأبى العلاء المعرى شعرا صريحا فى الهجوم على الإسلام والأديان ومع ذلك يقولون أن بشار وأبى نواس والمعرى هم عظماء الشعر العربى ويردمون على غيرهم ممن أحيوا الشعر الإسلامى من أمثال شعراء أهل البيت الذين أىدوا أهل البيت فى شعرهم ودافعوا عنهم فلاقوا بعض ما لاقوه من سجن واضطهاد وتعذيب ومنهم الفرزدق وابن الرومى والكميت والسيد الحميرى ودعبل ومهيار الديلمى والإمام الشافعى، كما ظهر فى الشعر الإسلامى أيضا حُبّ الله ونبيه صلى الله عليه وسلم على يد شعراء الصوفية رابعة العدوية وابن الفارض وغيرهما.
وكذلك شعر الزهد منذ سيدنا علىّ حتى أبى العتاهية فى قوله:
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح*** لست بالباقى ولو عمرت كما عمر نوح
وقوله:
فياعجبا كيف يعصى الإله***أم كيف يجحده الجاحد
وفى كل شىء له آية*** تدل على أنه الواحد..
هذا هو الشعر الإسلامى وليس شعر بشار بن برد وحماد عجرد وأبى نواس.
أما فى العصر الحاصر فتندرج هذه النظرية في الحقيقة ضمن خانة الأدب الإسلامي الذي نظر له كل من: الشيخ أبو الحسن الندوي، والإمام الشهيد حسن البنا، والسفير صلاح الدين السلجوقي، والسيد قطب، ومحمد قطب، والدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا، والدكتور أحمد بسام ساعي، والدكتور نجيب الكيلاني، والدكتور حسن الأمراني، وحسين مجيب المصرى، والطاهر أحمد مكى، وحلمى محمد القاعود، وصابر عبدالدايم ..
أما في مجال المسرح وفنون الدراما، فلابد من استحضار الدكتور عماد الدين خليل صاحب كتابي: (في النقد الإسلامي المعاصر) و(فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر)، ونجيب الكيلاني في كتابيه (مدخل إلى الأدب الإسلامي) و(المسرح الإسلامي)، وكتابات الباحث العراقي حكمت صالح حول المسرح الإسلامي المعاصر، ومحمد عزيزة في كتابه القيم (الإسلام والمسرح)، وعمر محمد الطالب في كتابه (ملامح المسرحية العربية الإسلامية)...
*كتبتم المسرح الإسلامى وصرتم من أعلامه فى الوقت الحالى...ما هى سماته وأهدافه؟
- المسرح الموجود الآن على الساحة أما مسرح مترجم عن الأعمال العالمية لكبار الكتب مثل شكسبير وغيره، وإما مسرح تجارى هابط ومسف يعزف على الغرائز، أو مسرح متغرب بمعنى أن الكاتب المسرحى يكتب أعماله على النمط الغربى فى البناء والرؤية مع استخدام أسماء وأماكن مصرية..
أما المسرح الإسلامى فهو معالجة لأوضاع العالم الإسلامى باختيار نماذج تاريخية موازية والمسرح الإسلامى ليس من ابتداعى وإنما شاركت فيه بمجهود وبداياته كانت عند شوقى وعزيز أباظة وبلغ القمة عند على أحمد باكثير.
ما أبرز الاختلافات بين المسرح الإسلامى والمسرح المتغرب؟
-المسرح الإسلامى يختلف عن المسرح المتغرب، وقد جاء بعد باكثير كتاب مسرح منهم عبالرحمن الشرقاوى، وصلاح عبدالصبور..والشرقاوى عندما كتب عن الحسين لم يقصد الإشاة بالإسلام وإنما هو ماركسياً يريد النيل منه عبر أعماله التى تتناول موضوعات إسلامية ولكن على المذهب الماركسى المادى ..هو فى النهاية ماركسى تهمه النظرية الماركسية أكثر من تمجيد الإسلام بالرغم من كتابته عن الحسين شهيدا وعلى إمام المتقين وابن تيمية وغيرها وكذلك صلاح عبدالصبور لم يعجبه من تاريخ الإسلام سوى الحلاج الملحد.
وما كتبته من مسرح إسلامى مختلف عن المسرح المتغرب فى نقاط أهمها:
المسرح الغربى الأغريقى يصور الصراع بين الألهة والبشر وان الإنسان فى صراع دائم مع القدر مثل مسرحية "أوديب" ..أما فى المسرح الإسلامى، الصراع التراجيدى هو صراع بين البشر وهم والكون خاضعين لله على الأقل فى جانبه البيولوجى أما فى جانبه الروحى هو مخير ويتحمل مسئوليته، ويجب أن يخضع الإنسان لله حتى يحقق التوازن، والخلل الذى أصاب الإنسان هو مخالفة الإنسان لهذا التوازن .. المنظومة والرؤية والمسرح الإسلامى هو نتاج لهذه الرؤية .. وبالتالى لايمكن أن يكون الماركسى والعلمانى إسلاميا لأن له رؤية مخالفة، هناك فلسفة ماركسية وأدب ماركسى وتاريخ ماركسى واقتصاد ماركسى وأسلوب حياة ماركسى والماركسية ليست ترفا فكريا ولكنها أسلوب حياة، والدين فى المفهوم العلمانى هو علاقة بين العبد وربه وهو يختص بالجوانب الروحانية فقط ولكن الإسلام يختلف عن هذا فهو منهج كامل متكامل ومنظمومة ومنهج حياة (ما فرطنا فى الكتاب من شىء)، وقد عرف المسرح الغربي مجموعة من النظريات والمدارس والمذاهب المتباينة في التصور والممارسة. فقد نقل لنا المسرح اليوناني صراعا تراجيدياً عمودياً بين الإنسان وحشود الآلهة، فكان البطل ينهار دائما خائبا أمام صفعات الآلهة القوية على الرغم من التحدي السيزيفي أو البروميثيوسي من أجل تحيق النصر. ويقتفي المسرح الروماني أثر المسرح اليوناني في تصوير ضآلة الإنسان أمام قوة الآلهة، وتجبر الأسياد الحاكمين. لننتقل، بعد ذلك، إلى مسرح العصور الوسطى الذي كان يطغى عليه الجانب الديني والتعليمي، فتصبح الفرجة ذات مسحة تبشيرية تجمع في طياتها بين رؤية دينية مسيحية مشوهة، ونبرة تعليمية زائفة، تجسد صراع الإنسان مع الأهواء والشياطين.
ومن مسرح عصر النهضة والأنوار إلى مسرح القرن التاسع عشر الميلادي، سيعمل المسرح الغربي على تمجيد الفرد الإنساني تمجيدا، وتقديسه عقلا وعاطفة وحسا. ومن ثم، سيتخذ الصراع المسرحي بعدا إنسانيا أفقيا، يتطاحن فيه الإنسان مع أخيه الإنسان، ضمن صراع جدلي قائم على العدوان والكراهية والاستغلال، لاسيما مع نظريات القوة والإرادة (نيتشه، وشوبنهاور...)، ونظريات التصور المادي الماركسي (ماركس، وفيورباخ، وهيجل، وبيليخانوف، وأنطونيو غرامشي، ولوي ألتوسير...).
وبعد انهيار أوربا بعد الحربين الكونيتين، ظهرت مجموعة من المذاهب المسرحية التي تندد بالعقل والمنطق، فبرزت فلسفات عابثة،وتشكلت نظريات فنية وجمالية شاكة تدعو إلى الفوضى، والعبث، والجنون، والعدمية، والغضب، واليأس، والتشاؤم، والثورة على الواقع الكائن، كالسريالية والدادائية والرمزية والوجودية ومسرح العبث واللامعقول....
وفي مقابل هذه التيارات الملحدة ذات الرؤية السوداوية، نجد المسرح الإسلامي يعلن حربه على العبثية والفوضى والعدمية، ويقف بالمرصاد في وجه كل الأفكار اليائسة والسموم القاتلة. وبقي هذا المسرح الإسلامي، وما يزال إلى يومنا هذا، يدعو إلى العمل والعطاء والبناء والإبداع والخلق والابتكار، والتسلح بالإيمان والأمل والصبر من أجل الظفر بسعادة الدنيا والآخرة، مع التغني دراميا بقيم الخير والمحبة والحق والجمال والحرية مصداقا لقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ (المؤمنون: 115).
*وماذا عن الواقعية الإسلامية فى الأدب؟
- المذهب الفنى فى الأدب الإسلامى ومنه المسرح هو الواقعية الإسلامية وهى مختلفة تماما عن عن الواقعية الغربية فالواقعية عند نجيب محفوظ مثلاً هو ما نطلق عليها الواقعية المخزية ويسمونها خطأ الواقعية وهذه التسمية خطأ ويطلق عليها فى الغرب "Naturalism " عند أميل زولا وبلزاك وكانوا يعمدون إلى اختيار النماذج السيئة فى المجتمع مثل الجنس والدعارة والشواذ ويناولها بكثرة فى أدبهم .. والواقعية الإسلامية تختلف عن هذه الواقعية الغربية في نقطتين أساسيتين:
أولاً: طبيعة تصورها للإنسان، وموقفه من الله والكون والحياة وأخيه الإنسان.فالإنسان في نظر الإسلام إنسان، لا هو بالحيون ولا هو بالملاك ، مخلوق ليس شرًا خالصًا ولا خيرًا خالصًا، وإنما فيه الاستعداد للخير والشر كما يقول الله تعالى "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا،فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا،قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا،وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" سور الشمس.ومن ثَم فالتصور الإسلامي، والأدب الإسلامي يصور الإنسان على هذه الصورة المزدوجة التي هي طبيعته الحقيقية، يصوره في لحظات ضعفه ولحظات قوته، لحظات هبوطه ولحظات رفعته، اللحظات التي يلتصق فيها بطين الأرض ونارية الشيطان، واللحظات التي يشرق فيها بنور الله عزوجل .
ثانيًا: وهنا النقطة الثانية التي تختلف فيها واقعية الإسلام عن واقعية الغرب، وهي طريقة المعالجة وتسجيل اللقطات البشرية التي تختارها الواقعية الإسلامية للتعبير الفني، فهي حين تصور لحظة الهبوط، تصورها على أنها كذلك.. لا على أنها لحظة بطولة تستحق التصفيق والاعجاب، وأما الواقعية الغربية فهي تبحث عن نقاط الضعف الإنسانية، وتسلط عليها الأضواء بشدة، وتسجلها بالتفصيل، بما يضفي صفة البطولة عليها، دون أن يحاول الارتفاع، لأنه يؤمن بأن الارتفاع خرافة والهبوط هو الحقيقة الواقعة التي لا مفر منها ولكن الواقعية الإسلامية لا تتنكر لجوانب الضعف البشري في الإنسان، كــــ لحظات الضعف الجنسي، وحب المال، والشهرة، ولكنها إذ تعترف بها ينبغي ألا تأخذ من العمل الأدبي القسط الأوفر منه، حتى لا يتحول إلى هدف وغاية ، ولكن عليه أن يصور الإنسان في لحظة القوة ولحظة الضعف، ويدعوه دائمًا إلى الصعود والارتقاء الارتفاع، لأن جوانب الهبوط موجود لا يحتاج إلى هتاف وتشجيع.
والواقعية الإسلامية تختلف بالضرورة عن الواقعية الأوربية (الانتقادية والطبيعية) والواقعية الاشتراكية (الماركسية)، وإن كانت هناك أسس موضوعية وفنية تجمع بينهما جميعًا.
فالواقعية الأوربية واقعية نقدية تعنى بوصف التجربة كما هي ، حتى لو كانت تدعوا إلى تشاؤم عميق لا أمل فيه ، في حين تحتم الواقعية الاشتراكية أن يثبت الكاتب في تصويره للشر دواعي الأمل في التخلص منه فتحًا لمنافذ التفاؤل حتى في أحلك المواقف ، ولو أدى إلى تزييف الموقف بعض الشيء.
*خلال تناولك للأحداث فى أعمالك المسرحية هل تصرفت فى الحدث التاريخى بما يخدم الدراما؟
- لم اتصرف الأحداث وإنما نقلتها نقلا أمينا من مصادرها التاريخية، واخترت نماذج موازية للحظة التاريخية المعاصرة لإعطاء الأمل للمسلمين فى كفاحهم ضد قوى الشر والظلم والإمبريالية المتوحشة التى تريد القضاء التام على الأمة الإسلامية وظهر من خلال تنظير مفكريهم مثل ريتشارد نيكسون وصموئيل هنتجتون وغيرهم...
*متى نرى نظرية نقد عربية تنبع من أرضنا وذاتنا وحضارتنا؟
- النظرية موجودة بالفعل منذ زمن وهى نظرية الأدب الإسلامي وهى نظرية مخالفة أيضاً للنظرية الغربية كما فصلنا من قبل، وهى موجودة بالفعل فى أعمال الكثير من مبدعى الأدب الإسلامى الذين حاول البعض الردم عليهم وتجاهلهم وإبراز الذين ينحتون من النموذج الغربى أو من نسميه بالردة إلى الجاهلية وهذه الردة ظهرت قديما فى العصر الأموى والعباسى فى نماذج من شعراء المجون والتبذل والهجاء ، وحديثاً نقصد بالردة إلى الجاهلية بالكتابة بمفاهيم غربية وبرؤية غربية مثل الماركسية والوجودية وغيرها من المذاهب التى ثبت عجزها وفشلها..