الشرارة الأولى تنطلق من أرشيف أم الفحم!
ميسون أسدي – تفانين
*صالة العرض في أم الفحم، لا تتوقف عن إقامة المشاريع والفعاليات والمعارض الفنية والدورات وغيرها الكثير، لكن المشروع الأكبر، الذي يشغل بال الجميع والإعداد له بدأ منذ فترة وسيستمر على مدى سنوات، هو مشروع تأسيس الأرشيف الذي سيكون نواة لمشروع المتحف الفلسطيني، حيث سيتم تجميع المواد من أرشيفات البلاد وأرشيفات شخصية وأرشيفات بريطانية وعثمانية ومقابلات شخصية، والحديث هنا عن أرشفة (12) قرية ومدينة في وادي عارة: أم الفحم، أم القطف، من الغرب وحتى سالم من الشرق ومن الخط الأخضر في الجنوب وحتى وادي الملح في الشمال.
لنضع الحضارة والتاريخ والماضي نصب أعيننا!
-يقول سعيد أبو شقرة، مدير عام الصالة: إذا كانت أمي تمثل الحكاية الفلسطينية، فبلا شك كل أم وأب يجسد هذه الحكاية، ماذا عملنا جميعا من اجل تجسيد هذه الحكاية الجميلة والتاريخية لأولادنا؟ بصراحة، لم نعمل شيء والكثير من هذا التراث والتاريخ اندثر وضاع من أيدينا بدون أن نعطيه أي اهتمام، وآن الأوان، بأن نقوم ونغير سلم الأولويات في حياتنا لنضع الحضارة والتاريخ والماضي نصب أعيننا.. الكثير من مشايخنا وكبار السن فينا توفوا أو فقدوا الذاكرة واخذوا معهم الحكاية والسر الكبير لهذه الحضارة، فعلينا من جهة واحدة أن نشعر باللوم الشخصي على أننا أضعنا فرص كثيرة لتوثيق أجمل القصص وعلينا أخذ المسؤولية لإنقاذ ما تبقى من هذه القصص الجميلة والتي لم يتبقى منها الكثير!
فأنا على سبيل المثال وبشكل شخصي، يتمحور من حولي قصص كثيرة سمعتها في العشر سنوات الأخيرة من أمي عن التراث الفلسطيني، تجسد قصة الأرض والتراب، لدرجة أنني وجدت نفسي أسجل أمي في قصصها عن نفسها من لحظة زواجها وعندما كانت طفلة في الثانية عشرة من عمرها، قصة أبيها الشيخ يوسف، الذي وجد نفسه لاجئ في بلد غير بلده بعيدا عن أولاده وأحفاده وقصتها أيضا مع أخيها المناضل محمد يوسف الشريدي، الذي يحكي بتاريخه قصة الإنسان الفلسطيني المناضل والمرتبط بشعبه وبلده. هناك أيضا الكثير من القصص الجميلة والشيقة التي تجسد سوية حكاية شعب واحد،.. وجدت نفسي أسجلها وأصورها وأعتقد بأن كل إنسان في جيلها يحمل قصة الإنسان الفلسطيني، وممكن تصويره وتخليد ذكرياته قبل مماته،.. من هنا بدأت صالة العرض مشوارها بإحياء الذكرى وتخليدها للأجيال القادمة..
**الأرشيف هو المتحف العربي القادم
يضيف أبو شقرة: يهدف أرشيف أم الفحم ومنطقة وادي عارة، عمليا، إلى حفظ هذا التاريخ من الاندثار ولكنه بسبب أهميته يحمل أبعادا كبيرة، فهو سيكون احد دعامات وأسس المتحف العربي الذي سيقوم.، هذا المتحف سيكون متحف للفن المعاصر، لكنه لن يكون ناجحا إذا لم يكن له ارتباط بالفن الفلسطيني والتراث القديم، لأننا لن نستطيع أبدا أن نغرز الشعور بالمحبة والانتماء والشموخ بالإنسان والثقافة العربية، بدون أن نعرف أو أن نعّرف أولادنا بما كان سابقا، لذلك بدأنا بهذا المشوار الذي هو بمثابة أهم مشروع تقوم به صالة العرض خلال 2008 وللسبب أهميته، فقد توجهت صالة العرض للفنون لشخصيات عديدة لها الخبرة في هذا المجال للمساعدة في أقامة هذا المشروع، وارتبطت صالة العرض مع الدكتور مصطفى كبها، كمؤرخ ومحاضر في جامعة بير السبع والجامعة المفتوحة ويعد من البارزين في هذا المضمار، ليأخذ مسؤوليته في إقامة الكوادر المهنية وبناء هذا المشروع، وكذلك توجهنا للفنان "جاي راز"، الذي يعتبر من المؤرخين البارزين في مجال التصوير ليساهم مع الدكتور مصطفى كبها في بناء النواة الرئيسية لهذا الأرشيف.
في بداية هذه السنة، ابتدأ أيضا محمود إغبارية (أبو انس)، بالعمل في صالة العرض وأخذ مسؤولية مرّكز لموضوع الأرشفة وهذا يأتي بعد أن افتتحت صالة العرض دورة لتأهيل الكفاءات المناسبة لإدارة هذا الأرشيف وأهلت اثني عشرة شخصا من منطقة وادي عارة وأم الفحم، حيث يعمل قسم منهم في هذه الأيام بشكل مكثف على جمع هذه المواد: صور فوتوغرافية وإجراء مقابلات شفوية مع شيوخ المنطقة وكبار المسنين وجمعها بشكل مهني في أرشيف أم الفحم.
**ومتى ستفتتحون المشروع؟
- سيكون الافتتاح في شهر أيار المقبل وبالمقابل سيتم افتتاح معرض شامل وكامل لصور فوتوغرافية وقسم من المستندات التي تم جمعها أو سيتم جمعها إلى ذلك الحين، تطمح صالة العرض في أن يتم جمع ما يقارب المائة ألف صورة حتى السنة القادمة.. ويوم الأحد القادم سوف أسافر مع "جاي راز" إلى انجلترا للبحث في متاحف الانجليزية عن جميع المواد الموجودة هناك من فترة الانتداب أو ما قبلها لجلبها لتكون جزءا من أرشيفنا الأول من نوعه والذي نطمح أن يكون مثلا للاقتضاء به في باقي القرى والبلدان العربية.
**وماذا تفعلون الآن؟
- حتى يوم افتتاح المعرض تعمل صالة العرض على تجهيز كتاب من (350) صفحة، يحكي قصة الأرشفة والمعرض الذي سيقام وهذا الكتاب سيكون الجزء الأول من (3) كتب، تحكي قصة أم الفحم ومنطقة وادي عارة من جميع جوانبها الجغرافية والاجتماعية والحضارية والمعمارية وغيرها..كما أننا نسعى لإقامة مجلس شعبي ومجلس أمناء للأرشيف، يضم أناس يمثلون الحضارة في هذه المنطقة والذين سيكون لهم الدور الأكبر في إبداء آراءهم، لتكثيف الجهود ولجعل هذا الأرشيف جامعا، يؤهله ليكون بكل ثقة، احد أعمدة المتحف المقرر إقامته في السنوات القريبة، على اعتبار أن هذا الأرشيف يمثل المنطقة بتاريخها وحضارتها بمشاركة شرائح اجتماعية من جميع أنحاء المنطقة.
د. مصطفى كبها: سنرفع أصوات المغيبين!
**هذا وكان لنا لقاء مع د. مصطفى كبها- المدير الأكاديمي لهذا المشروع، وسألناه عن دوره في هذه المسيرة فقال:
-دوري يتمثل بالأشراف على سير العمل- أعطاء استشاره، فحص المواد من ناحية قيمتها التاريخية، ومسح حاجات الأرشيف، من حيث الوثائق والمقابلات الشفوية والصور.. وقد تم اختياري لهذا العمل، بسبب تجربتي في هذا المضمار، كوني مؤرخ ومختص في التاريخ الفلسطيني الحديث والتاريخ الشفوي.
رسالتي في الدكتوارة كانت عن الصحافة الفلسطينية في فترة الانتداب البريطاني.. الشعب الفلسطيني يفتقر إلى الوثائق بسبب الدمار الذي حل به جراء النكبة في المدن الكبرى وعدم قدرة الناس على الاحتفاظ في الوثائق.. حتى أنه كان هناك خوف من الاحتفاظ بالوثائق.. لذلك سيتم التعويض عنها بالتاريخ الشفوي أو بمن شاركوا في صنع التاريخ، والملفت للنظر، أن هذه الأصوات هي أصوات مغيبة، التاريخ الفلسطيني كان تاريخ نخبوي: الحسينية والنشاشيبية وما إلى ذلك.. وكانت هناك عملية إغفال للأصوات المغيبة، الطبقات الوسطى أو الدنيا.. كتبت عن تاريخ ثورة الـ 36 وكتاب عن تاريخ للنكبة وإشكالياتها وفي مؤسسة "مدى"، كنا وما زلنا بصدد إجراء مشروع جمع الروايات الشفوية وصياغة كتابة تاريخية.. قمت مع مؤرخ فلسطيني من رام الله، بإصدار (3) أجزاء من سلسلة تاريخ فلسطين الشفوي، الأول عن عبد الرحيم حاج محمد- القائد العام لثورة (36) والقضاء على الثورة من خلال القاضي بشير إبراهيم- احد قضاة الثورة، والجزء الثالث عن بلاد الروحة (قرية السنديانة- نموذجا)، والجزء الرابع تحت الطبع وهو "معجم عام للقاضي والثوار والمساعدين" ويحوي أكثر من (12) ألف ترجمة شخصية لأشخاص شاركوا في الثورة.. كما وان هناك كتاب تحت الطبع بعنوان "جولات في القرى الفلسطينية المهجرة"، وكتاب باللغات الثلاثة: العربية والعبرية والانجليزية، بعنوان "تحت عين الرقيب"، صدر في لندن عام 2007 وعدا عن مقالات عديدة وأعمال أخرى تتعلق في تاريخ الشرق الأوسط العام.
**وكيف سيتم العمل على هذا المشروع؟
-في البداية سنعمل على تطوير الآليات لجمع وتوثيق التاريخ المحلي وربط ذلك بالراوية الفلسطينية العامة ويتم في (3) محاور: صور فوتوغرافية، وهي أساس المعرض الذي سيفتتح في شهر نيسان القادم وسيصدر في كتاب، ثم جمع مرويات شفوية، وثالثا وثائق أرشيفية، وهي شهادات على المستوى الشخصي (وثائق ملكية، مراسلات على المستوى الفردي والمستوى الرسمي) وطبعا التأكيد على الأبعاد الثقافية والحضارية، على سبيل المثال تاريخ الحركة الرياضية والثقافية وأصحاب الحرف وما إلى ذلك، إضافة إلى البعد السياسي.
المشروع مكون من مرحلتين: المعرض وبناء الأرشيف، والذي سيستمر لعدة سنوات، خلالها سنجمع من الأرشيفات المحلية والشخصية، فهناك عائلات لها أرشيفاتها الخاصة.. وأرشيفات عالمية، خاصة البريطانية ومن المخطط زيارة الأرشيف العثمانين، الحديث هنا عن ارشفة (12) قرية ومدينة في وادي عارة: أم الفحم، أم القطف من الغرب وحتى سالم من الشرق ومن الخط الأخضر في الجنوب وحتى وادي الملح في الشمال، وهذه مشروع ونواة لمشروع فلسطيني عام.
**وماذا أنجزتم حتى الآن؟
-حتى الآن، المشروع جيد وتم التخطيط له بالشكل السليم، من حيث التوجه للناس والأرشفة وإجراء المقابلات، وتقنيات إجراء المقابلة وكيفية تفريغها بعد ذلك، وأقمنا لذلك دورة تأهيل خاصة، مدتها (80) ساعة، من ضمنها (40) ساعة للتمرين على إجراء اللقاءات.. كنت اذهب مع الطالب إلى اللقاء، حيث يجري المقابلة ساعة ونصف وبعدها تعالج التقنيات مع الطالب، من حيث التفريغ وثم الأرشفة.. وهذا ليس المشروع الأول، فقد خضت العديد من المشاريع المماثلة ولكن حتى تنجح يجب أن تخطط كما يجب وان يعمل بها أشخاص مؤهلون.
**أفهم من ذلك أنك من المهتمين جدا بالتاريخ الشفوي؟
-اهتم بالتاريخ الشفوي من منتصف الثمانينات وأصبحت من الرائدين في ذلك المضمار، كان لي مثل هذا المشروع في جامعة "بير زيت"، وفي سخنين كان هناك مشروع لتأهيل شباب الجبهة لورشات لجمع مواد عن "يوم الأرض" وما اعرفه أنهم باشروا في ذلك قبل "يوم الأرض" الأخير بقليل.
وأنا ادرس في الجامعة، آليات المقابلة الشفوية وموضوع التاريخ الشفوي- حوارات الروايات الشفوية، ادرّس في جامعة بئر السبع تاريخ وإعلام وفي الجامعة المفتوحة
ودرّست أيضا في جامعة حيفا وكلية بير بيرل.. درست في كل الجامعات ما عدا القدس و"بار إيلان".
محمود إغبارية: نوثق الماضي والحاضر، فنحن ماضي بالنسبة للمستقبل!
**كما والتقينا مع المهندس محمود إغبارية (أبو أنس)- مركز مشروع الأرشفة لصالة العرض والفنون في أم الفحم، وعن دوره في المشروع، قال:
- منذ عام وأنا اعمل بوظيفة كاملة في صالة العرض، قبلها عملت في إدارة مشاريع في شركات كبيرة في تل أبيب، والتحقت بصالة العرض، من اجل التغيير والتنويع ومن اجل الثقافة العامة.. بدأ المشروع من فكرة سعيد أبو شقرة، الذي تعرف على شخص كبير في العمر عن قرب، وله باع طويل في معرفة تاريخ أم الفحم وكان هناك حاجة لتوثيق أقوال هذا الشيخ، ولكن بسبب انشغاله الدائم بأعماله لم يتسنى له إجراء حديث معه، ومع مضي الوقت سمعنا المنادي ينعي وفاة هذا المسن ومن هنا نتجت هذه الفكرة.
**حدثنا عن برنامج الأرشفة؟
-برنامج الأرشفة له 3 مسارات: توثيق شفوي، تجميع صور ومستندات قديمة، وتصوير شخصيات مسنة، التوثيق الشفوي هو التسجيل الخطي بالإضافة إلى تصوير في الفيديو للشخص وليس فقط تاريخ الماضي بل توثيق الحاضر أيضا، والذي سيكون مرجع للأجيال القادمة، فنحن الماضي بالنسبة لجيل المستقبل.. بالإضافة للأرشفة، نجمع المعارض القائمة بموازاة المشروع من ناحية تصويرية وموجود تحت تصرفنا (15) مصور عربي ويهودي يقومون بتصوير زاوية معينة من تاريخ وادي عارة: أحدهم يصور الفرق الرياضية السابقة والحاضرة، وآخر يصور المساجد في كل وادي عارة، وأخر يصور الدعاية الانتخابية في السنوات الجديدة والقديمة، تصوير أزمة السير في وادي عارة، المصانع، المدارس، مداخل القرى والمدن في وادي عارة، بطل إسرائيل في الملاكمة عامر إغبارية، مقامات الأولياء والمقابر، المتقاعدين الأوائل من المثقفين والمتعلمين، المسنين وهم من اكبر المشاريع.
**كيف تنظر إلى المشروع بشكل عام؟
-انظر إلى المشروع كمشروع قومي وليس مجرد عمل، فنحن اليوم وفي جيلنا، نعرف القليل عن الماضي وأولادنا لا يعرفون شيئا، فمن لا ماضي له، لا حاضر ولا مستقبل له...
نأخذ المادة ونترجمها من الصوت إلى الكلمات المكتوبة وبعدها تمر تحت أشراف الدكتور كبها، للتدقيق بها لغويا وتاريخيا، ثم ندخلها إلى التوثيق وتلخيص المقابلة، وتنسيقها مع توابع لكل الأحداث التي حدثت في كل فترة وفترة، العمل على توثيق زمني وحسب الأحداث، محور زمن وحدث وشخصيات، والمميز في المشروع أن كل شخص وصلنا إليه، حدثنا قصة خاصة به ومعظم القصص لم ترو لأحد والقصة ممكن أن تكون له أو لأحد والديه.. أجرينا- حتى الآن- لقاءات شفوية مع ما يقارب (70) شخصية والعملية مستمرة، هناك أشخاص في فترة الانتداب العثماني هروبوا ووصلوا إلى اليمن والهند وغيرها وهناك من تاهوا في الصحراء وعادوا إلى بلادهم بعد سنوات عدة.
إن زيارتي لصالة العرض ولقائي القيمين على هذا العمل، والاطلاع عن قرب على النشاطات المكثفة، أثار إعجابي الشخصي، ويبين أن باستطاعتنا أن نحدث تغيير جذري في مجتمعنا العربي الفلسطيني لو قام كل شخص في مكان عمله بالعمل والمثابرة من اجل القضية الفلسطينية.