حوار مع الشاعر العراقي يحيى السماوي

حوار مع الشاعر العراقي يحيى السماوي

الشعر منديل .. ودواء .. وعصا ..

العراق وطني ومنفاي في ذات الوقت

الشعر هوالفارس الذي يملي شروطه على الشاعر

يحيى السَّماوي

[email protected]

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

ما كاد الشاعر العراقي الكبير يحيي السماوي يبلغ سن الستين حتى بادرت مؤسسة المثقف  الثقافية الصادرة في استراليا بتكريم الرجل عبر انجاز ملف عن تجربة الشاعر ، وتضمن الملف قراءات نقدية لتجربته ، وحوارا مع الشاعر ، وساهمت في هذا الملف  نخبة من الشخصيات الثقافية العراقية وكاتبة هذه السطور . وتعهدت المؤسسة بنشر هذا الملف المهم في كتاب . هذا وقد اشتغل الشاعر يحيى السماوي بالتدريس والصحافة في العراق والمملكة العربية السعودية ، ثم هاجر إلى استراليا . وصدر له  إلى حد الآن سبعة عشر ديوانا .

يحيى السماوي الذي شبه الشاعر بالحصان والشعر بالفارس الذي يملي شروطه على الشاعر . كان شعره بدوره يتقلب بين الوطن داخل الكلمات والمنفى خارج الوطن . وكان  الشاعرأشبه بالطفل الذي "يطرب لثغاء شاة أو نباح كلب في بستان من بساتين السماوة، أكثر مما تطربه موسيقى منتديات الليل في المدن الكونكريتية" ... وكان ديوانه "شاهدة قبر من رخام الكلمات "، شاهدا على مأساة الشاعر المفجوع في أمه ووطنه ، ليبقى الشعر بالنسبة إليه منديل ... ودواء ... وعصا ....

1 - بين وجع الشعر ووجع المنفى يبزغ شعر يحيى السماوي كسبائك النور من لجة الظلام، لا يحفل بشكل فني خاص، فهل يتلون ايقاع القصيدة حسب التيمة، أم يختار الشاعر يحيى السماوي شكل القصيدة قبل الشروع في كتابتها؟ 

ج : الشاعر والصيّاد توأمان سياميان ... كلاهما ينصب فخاخه وشِباكه ويبقى متحفّزا محدّقا بالأفق ـ باستثناء فرق واحد بينهما، فالصياد هو الذي يصطاد طريدته، أمّا بالنسبة للشاعر فإن الطريدة هي التي تصطاده ...

الشعر حصان أصيلٌ عنيدٌ كثير الإعتداد بنفسه، وبسبب أصالته وعناده واعتداده بنفسه فإنه يُصرّ أن يختار ـ هو وليس فارسه ـ وقت الركض وشكل الميدان ونوع الركض ...

حيت أكتب القصيدة، أكون أنا الحصان، والشعر هو الفارس ... هو الذي يملي شروطه عليّ .

2 - "عيناك لي وطن ومنفى": عنوان هذا الديوان استعارة للشعر الذي يجد الشاعر عبر صوره مكان وجوده ووطنه الحقيقي الذي ارتحل عنه؟ وبين الوطن والمنفى، هل ثمة حلم ينعتق عن أرض الشاعر نحو لحظة شعرية مدهشة؟ 

ج : تأكيدا لرأيك المصيب، أقول : كان اسم الديوان قبل طبعه " وطنٌ من رماد الحروف " ... لكنني لسبب ما، غيّرت اسمه إلى " عيناك لي وطن ومنفى " .. قصائده فعلا تتحدث عن وطن ٍ هو جنتي وجحيمي معا ..

الغريب سيدتي أنني خلال وجودي في العراق كنت أحلم بالمنفى ... وحين وصلت المنفى بقيت لا أحلم إلآ بالعراق . .. فهو وطني ومنفاي في ذات الوقت .

3 - حين يتحول الوطن إلى منفى، وحين يتحول المنفى إلى وطن الشاعر الذي يحقق فيه حريته، ويتحول إلى مرفإ للإبداع والانعتاق من الخوف ومن الملاحقة، كيف يحقق الشاعر يحيى السماوي لحظة التوازن عبر الذات في غياب هذا التوازن مع الواقع؟

ج: من عيوبي أنني رجلٌ بكّاء ... أعني أن تحت عباءة كهولتي يختبئ طفلٌ شديد التعلق بدميته الوحيدة ... لذا يمزّق في كثير من الأحيان عباءة الوقار ليخرج منها فيبكي كالملدوغ حين يجد أنّ دميته ليست معه على وسادته حتى حين يقدم له ذووه دمية أخرى ربما تكون أجمل من دميته تلك ... قد لا أكون مبالغا إذا قلت لك إن هذا الطفل يطرب لثغاء شاة أو نباح كلب في بستان من بساتين السماوة، أكثر مما تطربه موسيقى منتديات الليل في المدن الكونكريتية ... هذا ماكنت أقصده في قولي من إحدى قصائدي :

أنا جرحٌ يسيرُ على دروب ٍ

يتوهُ بها المُصيبُ عن الصّواب ِ

ولولا خشيتي من سوء ظن ٍ

وما سيُقال عن فقدي صوابي

لقلتُ أحنُّ يابغدادُ حتى

ولو لصدى طنين ٍ من ذباب ِ

4 - "البكاء على كتف الوطن" يعيدنا هذه العنوان إلى الشعر القديم، إلى البكاء على الأطلال، وإلى تمثل الكاتب للفجيعة، لكنه ما طفق يتمثل الجسد حسيا وجغرافيا، وكأنه يواسي الوطن الجريح في جرحه الذاتي؟ هل ثمة تجاوز للفجيعة نحو مرتكز أو أفق معين برأيك؟

ج : الأطفال حين يبكون من هلع ٍ ورعب فإنهم لايجدون حصنا ً أكثر مناعة من حضن أمهاتهم ... أما الفتية فإنهم يجدون الأمان حين يتوكأون على أكتاف آبائهم ـ والعراق في قصائد هذه المجموعة هو أب ذلك المرتعب الذي غادر أباه وهو فتىً، وعاد إليه وهو في الخمسين وقد تحوّل ذهب لحيته إلى فضة (الذهب حين يشيخ يصبح فضة كما قلت في نص ذات مرض وجزع ووجع وحشي) ... القصائد تعاتب ذلك الأب المقدس وترجوه أن ينشّ بعصاه ذئاب الظلاميين والمحتلين والإرهابيين واللصوص عن خراف مسرّته التي وُلِدت بعد سقوط الصنم .

نعم تجاوزتُ الفجيعة لأن العراق تجاوز فجيعة الحرب الأهلية التي راهن عليها أعداء العراق ... والغد العراقي يُنبئ عن مهرجانات فرح ستغسل أحزان الماضي .

5 -  "شاهدة قبر من رخام الكلمات "، وصف هذا الديوان بنزعة الرثاء عند رحيل الأم، هل في رحيل الشاعر بحثا عن الحياة، وفي رحيل الأم ونكبة الوطن، ما يسطر الحزن على مواضيع خارج الذات لكنها محفورة وتاركة آثارها على نفسه ما يجعل الرثاء تمثلا للحزن المغموس في الشعر؟ وهل الكتابة تعبير عن المأساة في نهاية الأمر؟ 

ج : " شاهدة قبر من رخام الكلمات " هو مرثية لي أكثر من كونه مرثية للطيبة أمي التي أشقيتها كثيرا بغربتي (أنا ابنها البكر ... وكنت بعد وفاة والدي رحمه الله بمثابة قنديلها وعكازها ـ ورغم شيخوختها ومرضها فإن " الأشاوس " لم يخجلوا من " رجولتهم " حين هربتُ من العراق فأرعبوها مرات عدة بزيارتهم بيتها والتحقيق معها واستدعائها للأمن أكثر من مرة ... فقلت

يابنتَ سبعين التي عكّازها

صدري .. وأحداقي لها فانوسُ

نخرَ الأسى قلبي .. فما لعراقنا

في كلّ يوم ٍ " داحسٌ " و" بسوسُ " ؟

" تمّوزهُ " عارٌ على أعوامنا

ويفوح من " نيسانه " التدليسُ

آهٍ على زمن ٍ تعثّرَ فجرُهُ

فاسْتعبدتْ أرضَ الأسودِ تيوسُ

فإذا ابنُ طاهرة ِ الثياب ِ مشرَّدٌ

وإذا ابنُ صـائدة الرجال ِ رئيسُ

... كنت على موعد معها لكنها غفت إغفاءتها الأخيرة وتدثرت بالتراب قبل بضعة أيام من موعد لقائي بها ... نعم، كانت نصوص الكتاب تعبيرا عن المأساة ... كنت ـ وهي في الحياة ـ طفلا حتى وأنا أقف على مشارف العقد السادس ... أما حين توفاها الله، فقد جفّ حليب الرضاعة في فمي فجأة وتحول عشب عمري دغلا ً بريّا ً لايصلح حتى حطبا .. بل وشعرت أنّ عينيّ أصبحتا فائضتين عن الحاجة كما لو أنهما زائدة دودية مادامتا لن ترياها بعد ...

6 - لم يتخل الشاعر يحيى السماوي عن الشعر القديم ببنائه وبعض أغراضه في بعض الأحيان، فما الذي لم يتغير في الإنسان العربي وفي الشعر العربي عامة والذي يجعل من الماضي مرايا لبعض معاناته وبناه النفسية الموقعة حسب الايقاع العروضي المتناغم مع وجدانه؟

دواويني الصادرة ـ وعددها سبعة عشر ـ تقول عكس ذلك ... فشعر التفعيلة أكثر من الشعر العمودي في تلك المجاميع ... للشعر عندي ثوابته الأساسية، لذا أستخدم العروض .... لكن ذلك لايعني تزمّتا بقدر مايعني شغفي بموسيقى الشعر ... وأصدقك القول إنني أقرأ قصائد النثر أكثر من قراءة الشعر الفراهيدي بشقيه العمودي والتفعيلي (حدث يوما أن أخبرني صديق أنه قرأ قصيدة جديدة للشاعر هادي الناصر وقصيدة عمودية جديدة لصديق شاعر، فكان جوابي له : أسرع بإرسال قصيدة هادي الناصر)وحدث ذات شغف أن وصلني ديوان "إكليل موسيقى على جثة بيانو " للصديق الشاعر جواد الحطاب ـ وكنت على موعد مع الطبيب، فتفرغت لقراءة الديوان وأهملت موعد الطبيب رغم أن خيول داء الربو كانت تطحن صدري وقتذاك ... على فكرة أنا من عشاق الموسيقى (رغم كوني لا أجيد العزف حتى ولو على صفيحة فارغة .

7 - أمام زخم كتبك وفيض شعرك فهل ترى أن روحك التي تفيض على شعرك وتعتقه، وذاكرتك التي تعكس صور الوطن بجماله ومعاناته، ولحظات الفراق المزدوجة : فراق الوطن وفراق الأحبة ما جعل الشعر كالطائر الذي يبحث عن نقاط ارتكاز، فيجدها في بناء معماري من الذاكرة يجعل الشاعر قريبا من ذاكرته الشعرية وتراثه الشعري المتين؟

ج : الشعر بالنسبة لي منديل .. ودواء .. وعصا ..

بهذا المنديل أمسح دموع قلبي ... وبهذا الدواء أقاوم الموت إكراما للمحبة والحياة .. وبهذه العصا أنشّ عني ذئاب الوحشة في براري الغربة .