حوار مع أول رئيس لجهاز الأمن الوقائي

بعد عزوفه عشر سنوات عن الحديث للإعلام

حوار مع أول رئيس لجهاز الأمن الوقائي

حوار: فداء المدهون*

[email protected]

بعد صمت دام عشر سنوات ومنذ استقالته من منصبه_ القيادة العامة لجهاز الأمن الوقائي _عزف اللواء مصباح صقر الحديث فيه مع وسائل الإعلام على اختلافها وإلحاحها ، تمكنا  وفي أول لقاء صحفي معه أن تلتقي به وتناقش معه في أكثر من لقاء قضايا عدة لتكون أمام حقبة تاريخية التفها الغموض وقلة المعلومات واختلاطها ،عدا عن إرث عسكري وأمني كبير حمله اللواء صقر الذي جعل من هذا الحوار مادة أمنية دسمه و كتاب تاريخ مفتوح للمرحلة العرفاتية التي أُسِست فيها الأجهزة الأمنية..

·   اللواء مصباح صقر أمضي أكثر من خمسين عاما مرتديا الزى العسكري في خدمة العلم والقضية ، أسس أول تنظيم سري للضباط الفلسطينيين الأحرار عام 1958، وهو صاحب فكرة إنشاء جمعية المحاربين القدامى، ومن المؤسسين الأوائل لجيش التحرير الفلسطيني ، شارك في حرب حزيران في قيادة لواء خانيونس،أسس تنظيم قوات التحرير الشعبية ، قامت القيادة العليا في الخارج بإعلان استشهاده عام 1971م وفي 14/5/1994 أعلن الرئيس ياسر عرفات ظهور اللواء صقر بعد فترة اختفاء امتدت لأكثر من ربع قرن في ضربة أمنية للاستخبارات الإسرائيلية وأطلق  الرئيس عليه  حينها اسم الشهيد الحي ، قاد جهاز الأمن الوقائي بعد تأسيسه في غزة والضفة وقدم استقالته منه بعد عام ونصف من قيادته

أترككم مع نص الحوار ..

ما الأسباب التي دعتك إلى ترك منصبك كأول قائد لجهاز الأمن الوقائي بعد مدة قصيرة نسبياً ؟

 إن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تركي لمنصبي – بعد مدة قصيرة نسبياً- كأول قائدٍ عام لجهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية و قطاع غزة, يصعب حصرها في مثل هذا الحوار الصحفي , لأن الأمر يقتضي التطرق بحكم الضرورة إلى علاقتي بالأخ الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات رحمه الله, و على الرغم من ذلك فإنه من حق الناس علىّ أن يعرفوا بعضاً من  الحقيقة

 بداية السبب الحاسم وراء تركي لمنصبي , يتمثل في الموقف الإسرائيلي المتعنت الذي اعتبر إعلان ظهوري لأول مرة على الملأ يوم 1994/5/22م داخل قطاع غزة تحدٍ سافرٍ لأجهزته الأمنية, خاصة وهي تعتبر نفسها المؤسسة الأمنية " السوبر" التي تتفاخر بذراعها الطويلة , و التي لا يجاريها أحدٌ في المنطقة في انجازاتها الأمنية التي أذهلت العالم سواءٌ على المستوى العسكري أو الأداء الأمني الاستخباراتي ، لقد أذهلتهم صدمة المفاجأة لأن "مجرد" بقائي مختفياً داخل الأرض المحتلة كل هذه السنيين – وعلى مدى أكثر من ربع قرن- دون أن يعلموا بوجودي أو يظفروا بي, شكّل بالنسبةِ لهم ظاهرةً يصعب التغاضي عنها و جرعةً من العلقم لم تستسغ أفواههم الأمنية  ابتلاعها بسهولة , لأن في طعمها مرارة الفشل و الإذلال, خاصةً وأن عيونهم المزروعة في كل ركن من أركان الوطن المحتل لا تغفوا و التي اخترقوا أيضاً من خلالها  كل فصائلنا و مؤسساتنا و معظم عائلاتنا لا تنام لحظةً واحدةً  , ولذلك جاء رد فعل الطرف الإسرائيلي على قدر الصدمةِ التي أصابته و صمم بكل ما أوتي من قوة و جبروت , و ما جُبِلَ عليه من عنجهية على الانتقام , فما كان منه إلا أن حاول منذ البداية تجاهل حقيقة اختفائي و اعتبرها "كذبة كبيرة" , وهذا الموقف الهروبي الإسرائيلي مثبتٌ لدي في وثائق لجنة التنسيق العليا : JSC" " والتي يبلغ عددها ثلاثة عشر وثيقة حيث اعتبر فيها وجودي في منطقة الحكم الذاتي "PA"  و بقائي على رأس جهاز الأمن الوقائي أمراً غير شرعي و مخالفاً لاتفاقية أوسلو. و بيّت النيّة على المس بي و تصفية الحساب معي عندما تحين الفرصة,و هكذا استمر الموقف الإسرائيلي الرافض لوجودي, و لمنصبي حتى تمكن في النهاية ,عن طريق أعوانه في جهاز الأمن الوقائي و غيرهم في مؤسسات السلطة الذين تفانوا في خدمته و من ثم أبدعوا في عملية الدس والوقيعة بيني و بين أخي الرئيس الراحل , كما استثمروا إلى أقصى حد القيود المشددة التي كانت مفروضة على تحركاتي , و من ثم تهيأت الظروف وتوفر المناخ الملائم لتحقيق ما أضمره الإسرائيليون ضدي , لكن الشيء المؤسف أن انتقامهم هذا قد تحقق بأيدي فلسطينية مشبوهة, لا زالت حتى اللحظة تعبث في الساحة الفلسطينية لخدمةِ أغراض أسيادهم هذا من جانب أضيفي لذلك أن المناخ الأمني الذي كان سائداً ومهيمناً على كل نشاطات السلطة الوطنية منذ بدء نشوئها, كان مشبعاً إلى حدٍ كبير بالإرث الثقيل لمنظمة التحرير الفلسطينية, سواء كان ذلك على صعيد الحكم أو الإدارة أو الأمن, والذي "يتميز" كما هو معلوم للجميع بالشللية و الولاء للقائد الأب " نظام الأبوات" و بالتسيب وانعدام الشفافية والمساءلة, تغليباً " لقانون الحب الفتحاوي" و " بوس اللحى" على قاعدة الثواب والعقاب. وإذا كانت هناك ضرورات موجبة تقتضي إتباع مثل هذا النهج " اللا إداري "ولا أقول " الفوضوي" في متاهات الشتات و مقتضياته, فإن انتقال هذا الإرث كما هو مع الإخوة الوافدين إلى الأرض المحتلة بعد اتفاقات أوسلو, أمر كان ينبغي التنبه إليه جيداً, لان هناك عملية تَحوّل تاريخية قد بدأت عجلاتها بالدوران, ومن ثم الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة بناء السلطة التي هي نواة الدولة. إن إغفال ذلك بعد اتفاقات أوسلو وعدم إجراء أي تقييمٍ أو استخلاص للعبر قبل العودة إلى ارض الوطن من قِبَل قيادة قوات الثورة الفلسطينية, و بالتالي عدم وضع برامج تأهيل وتلقين وتعبئة مكثفة للكوادر الأمنية قبل رجوعها إلى أحضان شعبها, فيه قصور و تجاهل صارخ لكل تجارب الشعوب المناضلة التي سبقتنا في هذا المضمار , و التي انتقلت من مرحلة الكفاح ومقارعة الاستعمار , إلى مرحلة البناء والتحرر والاستقلال .

وفي مقابل هذه الحالة الصعبة التي عاد بها الإخوة العائدون وهي اقرب ما تكون إلى حالة "المليشيات", فإنني منذ أن عدت بعد حرب عام 1967  , إلى داخل الأرض المحتلة مع ثلة طلائعية من ضباط جيش التحرير الفلسطيني , لتأسيس "قوات التحرير الشعبية" لم أغادر الأراضي المحتلة , وهكذا حافظت على نقاء تربيتي العسكرية بعيداً عن ذلك الإرث , وعندما شرُفت بالتكليف الرئاسي " العرفاتي" الذي ألقى على كاهلي مهمة بناء جهاز الأمن الوقائي , برزت  المفارقة وظهر التناقض بين عقليتين ونهجين وتربيتين ... الأولى " ميلشياتية" مستغرقة حتى النخاع في ارث المنظمة والثانية مشبعة إلى أقصى حد بقيم و مبادئ وتقاليد "المدرسة" العسكرية المصرية العريقة . وعلى الرغم من ذلك وتقديراً مني لثقل المسؤولية التي أُنيطت بي , حاولت قدر المستطاع التغلب على هذا التناقض الصارخ المشار إليه عاليه بالتسامح تارةً و الصبر والتغاضي بقدر المستطاع تارةً أخرى , مصمما على ضرورة النجاح في مهمتي باعتباري المسئول الأول عن انجازها.

    ويوماً اثر يوم بدأ " الإرث الميليشياتي" يفعل فعله ويداهمني في عقر موقعي من قِبل صاحب القرار الأول في السلطة ,و يُصيب في الصميم اخطر المفاصل التي ترتكز عليها الحياة العسكرية, وهو "التسلسل القيادي" , وبمعنى آخر بدأ الأخ الرئيس الراحل يمارس معي – عن قصد أو غير قصد- هوايته في"التقزيم و التحجيم" و في " التفتيت والتفريق أي سياسة فرق تسد" وذلك من خلال القفز عني والاتصال مباشرةً بالمرؤوسين لديّ دون علمي , خاصةً بمساعدي في قطاع غزة , وقد كان آنذاك برتبة رائد , وبمساعدي في الضفة الغربية وقد كان آنذاك برتبة مقدم -وكلاهما كانا آنذاك غير مؤطرين ومؤهلين عسكرياً أو أمنياً- , و على الرغم من تلميحاتي وإيحاءاتي المتكررة للأخ الرئيس الراحل في هذا الشأن عسى أن يكف عن ممارسة هذه الهواية المدمرة , إلا انه للأسف الشديد لم يلتفت إليها ولم يعرها أي اهتمام, مما أثار استيائي و قلقي .

 ومع مضي الوقت أصبح لجهاز الأمن الوقائي الوليد ثلاثة قادة , أو بالأحرى ثلاثة رؤوس يتعامل معها الأخ الرئيس الراحل على قدم المساواة على الرغم من أن احدهم برتبة لواء ,والثاني برتبه مقدم , والثالث برتبة رائد !!! وبالتالي لم يعد هناك معنى لتدرج الرتب  , مما انعكس سلباً على الانضباط العسكري داخل الجهاز , و ساعد التنافس الغير شريف, على أضعاف سيطرتي على الجهاز باعتباري المسئول الأول عنه  , و قوى أيضا – وهذا هو الأهم - لدى المرؤوسين  النزعة الاستقلالية والرغبة في التشرذم والشللية , ومهد المناخ الملائم لبروز مراكز قوى داخل جهاز الأمن الوقائي .

   ومن المفيد أن أشير هنا إلى أن الأخ الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات, مارس هذه الهواية "الفريدة !!! " بقوة واقتدار , وعلى أوسع نطاق, في معظم مؤسسات السلطة الوطنية ,إن لم يكن جميعها , وأحدثت فيها نفس الآثار السلبية المدمرة التي أحدثتها في المؤسسة الأمنية و لدي البراهين الكافية للتدليل على ذلك.

لكن  الشعرة التي قصمت ظهر العلاقات الحميمة التي كانت تربطني آنذاك بأخي الرئيس الراحل ياسر عرفات طيب الله ثراه, وعكرت كذلك صفو علاقات الزمالة مع بعض القادة العسكريين المحيطين بالسيد الرئيس , تمثلت في مفردات الجزء الأول من تقريري الأمني الصادر في شهر فبراير عام 1996 م بعنوان " جهاز الأمن العام في عامه الثاني ملاحظات على هامش التجربة" والذي يقع في مائة وخمسين صفحة, عالجتُ فيه عدة قضايا أمنية هامة ووضعت إصبعي من خلال سطوره على ما تخلل هذه التجربة الأمنية الوليدة من ممارسات خاطئة وتجاوزات مؤسفة، و ظل هذا التقرير الأمني  – الغير مسبوق- طي الكتمان أكثر من عشر سنوات امتدت من تاريخ صدوره حتى اليوم , ومع انه كان يستهدف تحديداً تقييم التجربة الأمنية واستخلاص العبر منها وذلك قبل انطلاق الأجهزة الأمنية لتوسيع هيمنتها على مدن وقرى إضافية في الضفة الغربية , ومن ثم ضرورة تأهيلها وتلقينها و تعبئتها  قبل ذلك حتى لا يتكرر الخطأ الذي وقعت فيه القوات العائدة, بعد اتفاق أوسلو .

إن القيام بهذا الواجب كان ضرورياً و ملحاً  لان الضفة الغربية – كما هو معلوم – تختلف في عدة أوجه عن قطاع غزة , " سكانياً, جغرافياً , سياسياً , اجتماعيا, اقتصادياً , امنياً , إلى غير ذلك من أوجه الاختلاف " كما أن فيها مصالح متداخلة لا يستهان بها للاعبين على ساحتها من الدول المجاورة , واخص بالذكر هنا كل من " الأردن و إسرائيل" وهذه كلها اعتبارات كانت في الحسبان عندما وَضَعتُ تقريري , وعلى الرغم مما حفل به هذا التقرير من معالجاتٍ تخص قضايا أمنية هامة وملحة تهم المؤسسة الأمنية , فقد قوبل صاحب هذا التقرير بما قوبل به  " سِنِمّار!!! " وأترك للباحثين والدارسين المختصين وحدهم عملية تقييمه و تقدير أهميته ورد الاعتبار له بعد كل هذه السنين إذا كان فعلاً جديراً بذلك .

   إن بعض القادة العسكريين والأمنيين الفاسدين ممن استغرقهم " ارث الميليشيات" و شعروا أن التقرير قد استهدفهم ولو بطريقة غير مباشرة ,شخصنوا التقرير و أقاموا الدنيا ولم يقعدوها , و استقبلوه بالسخطِ والرفضِ والحقد , وكعادتهم راحوا يكيدونَ يوغرونَ صدر الرئيس الراحل ضدي , وأقنعوهُ -على ما يبدو- أن هذا التقرير إذا ما تسرّب خارج النطاق الأمني فسوف ينشر غسيل السلطة والأجهزة الأمنية القذر على الملأ, ونسيّ هؤلاء المغرضون أنهم مرصودون هم وكوادرهم تحت المجهر من قبل شعبهم لحظة بلحظة, وانه يراقب ممارساتهم السيئة ويختزنها في ضميره و وجدانه إلى أن تحين لحظةَ العقاب

   وعلى الرغم من العاصفةِ الشديدة التي أثارها المغرضون  عن سوء قصد حول هذا التقرير إلا أنني حاولت جاهداً مواصلةَ أداء واجبي إلى جانبِ قائدي الزعيم الراحل الذي أحبهُ واقدرهُ , خاصةً في تلك المرحلةِ الحرجةِ والدقيقة من تاريخ شعبنا , أما بطانة السوء من القادة العسكريين التي اعتبرت عودتها إلى ارض الوطن فرصةً لا تعوض للإثراء على حسابِ شعبها الذي لا يجد قوت يومه , فقد واصلوا تحريضهم ضدي وضدَ كل الشرفاءِ والمخلصين , لكي تخلو لهم ساحة الوطن بما فيها ومن عليها لخدمةِ مصالحهم الذاتية , وهكذا تزاوج الفساد الوافد من الشتات مع الفساد القاعد و المتجذر هنا في الداخل وأنجبا لنا لسوء الحظ فساداً هجيناً هو الجرادِ بعينه الذي أتى على كل ما في مزرعة الوطن فأهلك الأخضر واليابس , وفي لحظةٍ ما وسطَ هذا المناخ المسموم والجو المكفهّر  وجدت نفسي وحيداً بين هؤلاء اللئام وفي مواجهة خيارين لا ثالث لهما : ( فإما أن اخسر منصبي تاركاً " عرشه" إذا صح التعبير لهؤلاء الوشاة المحرضين الذين تكالبوا عليه وهم ما زالوا في الشتات , وإما أن اخسر نفسي , أو بالأحرى أخسر كرامتي وقيمي ومبادئي لأصبح شيئاً آخر غير ذاتي ) فاخترت بلا تردد الخيار الأول تاركاً منصبي كقائد أول لجهاز الأمن الوقائي , غير مأسوفٍ عليه... ثم تحررت بعد عدة شهور أَخر من قيود عضويتي مما كان يسمى آنذاك " مجازاً" بالمجلس الأعلى للأمن القومي ,إذ أرسلت على الأثر رسالةً وديّة مع زميلين لي من كبار القادة لأخي الرئيس الراحل اطلب منه فيها إعفائي من أية مشاركة في العمل داخل السلطة, متمنياً له التوفيق في مسيرته النضالية الشاقة.

إن الأخ الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات رحمه الله لا يُجارَى في مواقفه الوطنية ,لقد كان يقف في مواجهة  التحديات الجسام  كالطود الشامخ لا تهزّه ريح مهما اشتدت  -أو هكذا على الأقل كان يحب أن ينعت نفسه –بعبارته المشهورة" يا جبل ما يهزك ريح" ومن ثم كان لزاماً على كل من يقترب من هذا الرجل الجبل – أو يرغب العيش في ظله طويلاً , ويحرص على استمرار التمتع بعطاياه السخية - أن يختار في لحظات المواقف الساخنة,  التي تتطلب شجاعة الرجال  , واحداً من ثلاثة خيارات هي:

·إما الصمت المطبق وإما المداهنة والنفاق أو الرضوخ والاستسلام.

وجميع هؤلاء لا بد وان يجدوا أنفسهم في نهاية المطاف- في مقابل الحفاظ على مصالحهم- وقد تنازلوا عن الكثير من مقومات شخصياتهم وفي مقدمتها كرامتهم .أما إذا امتلك ناصية الشجاعة شخص ما وتجرأ مبدياً النقد الصريح و البنّاء فسوف يصبح حتماً ولو بعد حين من " الخوارج " المغضوب عليهم , ومن ثم عليه أن يتحمل ضريبة مواقفه.

هل كنت من هؤلاء ؟؟  

يمكنني أن ادّعي بتواضع أنني كنت أحد  هؤلاء الذين تجرئوا  و مارسوا معه حقهم في إبداء النصح و النقد البناء , ولا أبالغ إذا قلت أن سطوة هذا الرجل لم تكن تحدها حدود , و هي نابعة من ثقل وزنه التاريخي و من هيمنته على حركة نضالية كبيرة و ممتدة كحركة فتح , و هيمنته أيضاً على كل مقاليد القوة و السلطان وأهمها " الأمن , والمال , و الإعلام"  و بالتالي لم يكن بمقدور أحد أن يقول له "لا"  خاصة في المراحل الأخيرة من مسيرة الكفاح الفلسطيني , بعد أن غابت عن الساحة النضالية معظم الشخصيات التاريخية ّذات الوزن , وتعاظمت هذه السطوة على الأخص بعد عودته إلى أرض الوطن و ميلاد السلطة الوطنية الفلسطينية حيث غَيّب عن - قصد أو غير قصد- أي دور لمنظمة التحرير الفلسطينية و قادتها. لقد شاهدت هذا الرجل رحمة الله عليه و هو يضرب ضباطاً و كوادر من الأمن الوقائي الذي كنت أرأسه آنذاك في جلسة من جلسات المجلس الأعلى للأمن القومي , و سمعته و هوا يحقّر بأقذع الألفاظ قادة كبار من أعضاء  هذا المجلس أمام الآخرين , كما حضرتُ  جلسة "استثنائية"-إذا صح التعبير-قام فيها و على مسمع من كثيرين بتعنيف أول "قاضٍ للقضاة" في السلطة الوطنية الفلسطينية , كما فعل ما هو أسوء من ذلك مع "نائب عام " مشهور و مشهود له بالكفاءة و النزاهة و أخيراً أؤكد انه لم يسلم من خشونة سطوته بعض أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة , و عدد غير قليل  من الوزراء و أعضاء المجلس التشريعي , و شخصيات أخرى كبيرة في حركة فتح وغير حركة فتح !! وهل هناك من دليل أسوقه في هذا الشأن أقوى من تجرؤ هذا الرئيس الراحل على الشيخ المقعد الشهيد أحمد ياسين رحمه الله  " الزعيم الروحي لحركة حماس"  – في الوقت الذي كانت حماس في أوج قوتها و عنفوانها – حيث أصدر قراره الشهير بوضع هذا الزعيم المجاهد في الإقامة الجبرية !!! 

لماذا لم يتولَ أحدٌ بعدك القيادة العامة لجهاز الأمن الوقائي في الضفة والقطاع معاً  وانفصلت فيما بعد؟

 الجواب بسيط وسهل يا ابنتي و يمكن للقارئ الفطن أن يستنبطه بيسر من بين سطور إجابتي السابقة  , والتي برهنتُ فيها أن الأخ الرئيس الراحل كان مُغرماً  بمبدأ التقزيم والتحجيم لأي قائد أو مسئول كبير يعمل بجواره , كما  برهنتُ كذلك أنه من كبار دعاة سياسة " فرق تسد" (ولهذا فان تقسيم جهاز الأمن الوقائي الى نصفين احدهما في الضفة و يعمل بمعزل عن النصف الآخر في القطاع , و يقودهما شخصين برتبتين عسكريتين متدنيتين بدلاً من قائد واحد) يخدم تماماً  فلسفة الأخ الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات طيب الله ثراه, والتي تتجسد فيما يلي: سياسة"الإفساد",و سياسة " فرق تسد " و" الغاية تبرر الوسيلة" و "اذا كان الصدق يُنجّي فالكذب أنجى" هواية "التقزيم و التهميش " و مقولة " أنا متخصص في إذلال الرجال " ثم مقولة " دول جزم أخوض بهم الوحل"  يقصد بذلك بعض القادة العسكريين .

بصفتك كنت مسئولا عن جهاز الأمن الوقائي ،هل كنت تتوقع ما حدث مؤخرا في قطاع غزة ؟

بكل تأكيد نعم ,لان كل ما جرى مؤخراً على الساحة الفلسطينية من أحداث مؤسفة و متلاحقةٍ ,لم يأتِ من فراغ بل سبقته ظواهر و إرهاصات كثيرة بمعنى أن هذا الذي جرى مؤخراً هو  نتيجة حتمية لمقدمات سبق أن لاحظتها و تنبأت بها  وحذرت من عواقبها  يوم كنت منذ حوالي عشر سنوات على رأس جهاز الأمن الوقائي , وفي أول لقاءٍ منفردٍ لي مع الأخ الرئيس الراحل نبهت إلى المخاطر التي تنطوي عليها عملية بناء المؤسسة الأمنية على أساس فصائليٍ "فتحاويٍ" بحت , و من ثم تسييس الأجهزة الأمنية , والتفرد بها و احتكارها , وتساءلت بالتحديد في الفصل الخامس من الباب الثاني من تقريري الصادر عام 1996م  ( عما سيحدث فيما لو حدث تداول للسلطة , وارتقت أحدى فصائل المعارضة سدة الحكم , ولو بعد حين طال الزمن أو قصر مع استمرار الوضع على ما هو عليه , أتقومُ بهدم البناء الأمني من أساسه لتعيد تشكيله على نحوٍ فصائليٍ جديد  يضمن لها السيطرة على الأجهزة الأمنية ؟) و ها هي تتحقق نبوءتي الآن.

والان جميع الفصائل الفلسطينية تطالب بإعادة صياغة و تشكيل المؤسسة الأمنية على أساس وطني وليس على أساس فصائلي أو حزبي وهو عينُ الصواب الذي كان ينبغي أن يفطنُوا إليهِ و يطالبوا بهِ منذُ مدة طويلة " و قبل خراب مالطا" .

   ومن باب المكابرة أو الهروب من مواجهة الحقيقة, يحاول بعض قادة فتح ,تبرير خطيئتهم التي ارتكبوها بحق هذه المؤسسة ,يوم أن سيسوها , بحجة أن معظم كوادر فصائل منظمة التحرير عزفت عن الانتساب إلى الأجهزة الأمنية باعتبارها إفرازا من إفرازات أوسلو , ولكني أقول رداً على هذه المغالطة المفضوحة : من قال لكم أن كل  الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة منضوي تحت لواء الفصائل؟و لماذا أغلقتهم في وجه هذه الغالبية العظمى من الشعب باب الانتساب وحرمتموها من فرصتها المتساوية , لقاء أطماع حركة فتح في الهيمنة على جميع الأجهزة الأمنية واحتكارها  بلا استثناء؟

   وإذا افترضنا أن السنوات الأولى من عمر السلطة كانت تقتضي من فتح أن تفعل ذلك , فلماذا يا ترى بقيّ الوضع على حالهِ كل هذه السنين إلى أن أُجبِرتْ عنوةً مؤخراً على التنازل ً عن هذا الاحتكار.

     علاوة على ما تقدم فلقد حذّرتْ من الطريقة العشوائية التي تمت على أساسها عمليه الانتساب للأجهزة الأمنية وترك الحبل على الغارب لقادة الأجهزة "وهم من هم" يقبلون أو يرفضون من شاءوا  وفقاً لأهوائهم ومصالحهم و أجنداتهم الخاصة دون تقيد بأية شروط أو ضوابط للقبول , و دون الرجوع إلى أية هيكلياتٍ معتمدة ,مما ساعد لاحقا على تحويل هذه الأجهزة إلى "ممالك" أو" إقطاعيات خاصة",لا يستطيع احد المنافسة عليها أو الاقتراب منها , والتي تحولت تلقائياً بمضي الوقت إلى مراكز قوى ذات صبغة فتحاوية و عشائرية تتصارع فيما بينها لخدمة مصالح قادتها ولخدمة أجندات أجنبية , لقد كانت خطيئة فتح الكبرى على الصعيد الأمني أنها سمحت لكوادر "تنظيمها" بالانخراط والتماهي في بنية و دهاليز مؤسسات السلطة الوطنية بما فيها الأجهزة الأمنية, وصبغتها بصبغتها الخاصة و سخرتها لخدمة مصالحها و مصالح أبنائها . 

   إن حركة فتح وهي الحركة الوطنية الرائدة تتحمل أمام الله والشعب مسئولية كل ما جرى لهذه المؤسسة على مدى عشر سنوات, مع أنه كان في مقدورها لو أرادت منذ البداية  , أن تضرب المثل الأعلى لجميع الفصائل و الشعب و تبني النموذج الأمني السليم البعيد كل البعد عن تجاذبات الفصائل وأجنداتها الذاتية أو الخارجية.

   

باعتقادك أين يكمن الخلل في المؤسسة الأمنية؟ و هل يمكن استبدالها مع استبدال الحكم؟ أم أن هذا إفراز طبيعي لمبادئ أوسلو؟

  الحكم رغم ما جرى مؤخراً يا ابنتي لم يستبدل كما تسألين  فلا يزال الصراع عليه بين حركتي فتح وحماس مستعرا و متواصلاً حتى اللحظةً , فحركة فتح تحكم الضفة الغربية , وحركة حماس تُحكِمُ  قَبضتها على قطاع غزة , وهذا مؤشرٌ على وجود أزمة سياسية حادة تشوه المشهد السياسي الفلسطيني وتكاد تقوضُ أركانه, وللأسف الشديد لم يستطع اتفاق مكة أن يصمد طويلاً أمام ما حدث مؤخراً في القطاع يوم 2007/6/14م .

    إن مكمن الخلل في المؤسسة الأمنية يعود إلى أسبابٍ كثيرة , غطيت بعضاً منها في إجاباتي السابقة , وأضيف عليها عدة نقاط منها:

·    قبول المنتسبين للأجهزة الأمنية بطريقة عشوائية , وعلى أساس فصائلي و دون وجود معايير أو ضوابط أو شروط تضمن القبول على أساس الكفاءة واللياقة والأهلية ودون الاستناد على هيكليات معتمدة تراعي الاحتياجات الأمنية الوطنية .

·   حتى نهاية عام 2005 م تقريباً لم يكن هناك وجود على الإطلاق لأية قوانين أو نظم أو لوائح أو تعليمات مستديمة تنظم العمل داخل هذه الأجهزة وتحدد مهامها وصلاحياتها ,وتنظم علاقاتها بالمجتمع , وتفرض عليها خضوعها للمستوى السياسي.

·    غياب أية رقابة داخلية , أو أية رقابة خارجية على المؤسسة الأمنية من قبل "المجلس التشريعي" و "جمعيات المجتمع المدني" ,مما وفر الفرصة للأجهزة الأمنية أن تعمل بلا حسيب أو رقيب , فغابت الشفافية , وانعدمت المساءلة ,و تدنى الانضباط إلى أسوأ حالاته, وبالتالي فتح الباب واسعا أمام استشراء الفساد فيها على مختلف أشكاله وألوانه,وهذا يفسر لنا دواعي الانهيار السريع الذي أصاب هذه المؤسسة في أول اختبار حقيقي لها يوم 2007/6/14م .

·   انعدام التنسيق بين جميع الأجهزة الأمنية على نحو مقنن و منتظم, خاصةً في السنوات الأولى من عمرها مما أدى الى حدوث صدامات كثيرة بينها , ومع إنني قدمت مذكرة منفصلة , و مفصّلة في هذا الخصوص للسيد الرئيس الراحل أبو عمار حول هذا الموضوع لكنه لسببٍ ما لم يأخذ بما جاء فيها .

·   انعدام روح العمل كفريق داخل قيادات هذه الأجهزة بمعنى عدم وجود "هيئة أركان" في كل جهاز أو على الأقل في القيادة العليا للمؤسسة , حتى عندما تقرر إصلاح هذه الأجهزة أُلقِيتْ مسئولية ذلك على كاهل رجل واحد هو وزير الداخلية , مع أن ثقل المسئولية و جسامتها كان يقتضي بالضرورة تشكيل فريق متخصص وعلى مستوى عالٍ من الكفاءة, و تُشارك فيه عدة جهات ذات علاقة بالموضوع .

    لقد سبق لي أن شَخّصت في تقريري المطول سالف الذكر معظم مواطن الخلل التي أمكنني حصرها خلال التجربة الأولى التي مرت بها الأجهزة الأمنية منذ قيام  السلطة الوطنية و حتى شهر فبراير عام 1996م  . و اقترحت فيه العلاج الملائم لكل علّة, ولا أظن أن المجال يتسع يا ابنتي فداء للكشف عن جميع مواطن الخلل التي غطيتها في تقريري. ومن أجل خدمة الحقيقة التي تنشدينها

ما أهم عناوين هذه العلل كما وردت تقريرك ؟

)ملاحظات حول إدارتي العمليات والتدريب - المطالبة باستحداث إدارتين ضروريتين هما : إدارة التفتيش , وإدارة الأزمات –  نواقص في احتياجات الأجهزة –  متطلبات ضرورية تتعلق بشؤون الأفراد – وجود اختلال في التوازن بين نسب الرتب المختلفة –ملاحظات على نظام الترقي في الأجهزة- تدني مستوى الرواتب خاصةً للرتب الصغيرة – تدني مستوى الانضباط –تدني مستوى الروح المعنوية – تدني مستوى الوعي القانوني خاصة في مجال حقوق الإنسان - مخاطر الانتماء الحزبي و ممارسة النشاطات السياسية – تفشي الفساد الإداري في الأجهزة الأمنية" الواسطة,المحسوبية, الشهادات المزورة , الازدواجية في العمل والرواتب , جمع التبرعات من الجمهور , الرشوة " – وجود ثغرات في جدارنا الأمني – غياب التعليمات والأوامر المستديمة –غياب تعليمات الأمن المستديمة- غياب التفتيش الأمني – عدم الاهتمام بأمن الأفراد على النحو المطلوب و تحصينهم امنياً ضد الإسقاط- تردي مستوى الاتصالات والمواصلات- خطورة بقاء قيادات الأجهزة في مبنى السرايا القديم- تفشي ظاهرة التجسس في المجتمع و ضرورة تحصين قوات الأمن و الجبهة الداخلية – محاذير الاسترخاء العسكري والأمني في أجواء السلام- انتهاك حقوق المُعتقل و السجين الفلسطيني و ممارسة التعذيب الجسدي والنفسي في مراكز توقيف غير قانونية – أهمية الجمعيات الأهلية والدولية لحقوق الإنسان في مراقبة الأجهزة الأمنية – ملاحظات على المجلس الأعلى للأمن القومي شكلاً وموضوعاً).

  إذا كانت المؤسسة الأمنية تعاني من كل هذه الأعراض و العلل, فهل يمكنها على ضوء كل ما تعانيه , أن تؤدي واجباتها و مهامها  الموكلة إليها ؟

بالتأكيد لا... ذلك إن درجة الممانعة لديها كما هو واضح من تزاحم العلل في جسدها ,تكاد تكون صفراً وقد قمتُ بهذا التشخيص الشامل والمضني قبل أكثر من عشر سنوات ,و يبدو أنه لم يتم عمل الكثير خلال هذه السنين ,    وإلا بماذا يمكن تفسير انهيار قلاع المؤسسة الأمنية مؤخراً في لمح البصر و كأنها شُيّدت من ورق فعلام يدل ذلك و من المسئول عنه يا تُرى؟؟  

    لقد تم تجاهل تقريري تماماً في عام 1996م , واحتفل بعض قادة الأجهزة الفاسدين بهذه المناسبة, وأحيوا على شرفها- إذا صح التعبير - ليلةً حمراء في أوكارهم احتفاءً بوأد هذا التقرير و اطمأنوا إلى بقاء الحال على ما هو عليه من تسيب و فساد إلى ما شاء الله ... , لكن الله يمهل ولا يهمل , و ها هم قد ذهبوا جميعاً  إلى غير رجعة تطاردهم خطاياهم و آثامهم التي ارتكبوها بحق أجهزتهم , وهي أمانة في أعناقهم و بحق شعبهم المرابط ووطنهم الذي يعاني أشد المعاناة من الاحتلال ,و ها هو التقرير يعود مرة أخرى للعلن  بعد طول غياب من بين الركام مرفوع الرأس ,  لينفض عن نفسه غبار النسيان والتعسف ليتعرف على ما فيه من خير و نصح كل الحريصين والغيورين على مصلحة الوطن .

واستكمالاً لإجابتي على سؤالكِ هذا يا ابنتي فداء أقرر على ضوء معرفتي باتفاقات أوسلو و ملحقاتها و ما تلاها, أن هذه الاتفاقات قد ضيقت فعلا  تضيقاً شديداً على مهام و صلاحيات  الأجهزة الأمنية الفلسطينية , و حاصرتها داخل دائرة الأمن الإسرائيلية التي سخرتها لخدمة مصالحها الأمنية, أو بمعنى آخر الاستجابة التامة  لجميع متطلبات الأمن الإسرائيلية في مقابل تجاهل مقتضيات الأمن الفلسطيني سواءٌ من حيث مسؤوليتها عن حماية  الأرض الفلسطينية أو حماية المواطن الفلسطيني , و تركهما لقمة سائغة في فم الاحتلال الإسرائيلي الغاشم ,مما يَشي بقوة عن عدم خبرة المفاوض الفلسطيني و مدى ارتجاله وتهاونه في حقوق شعبه , وذلك يعود إلى أن صاحب القرار الأول لدينا تعجل الأمور... وفضل كعادته للتفاوض أصحاب الولاء والثقة على أصحاب الكفاءة والخبرة.

    ولقد تعرضت بالنقد لهذا النهج الخاطئ في الفصل السادس من الباب الرابع من تقريري سالف الذكر بخصوص الطريقة الارتجالية التي تم بها إعداد ملفنا الأمني التفاوضي داخل جدران المطبخ الخاص بصاحب القرار, بعيدا عما كان يسمى آنذاك بالمجلس الأعلى للأمن القومي الفلسطيني , الذي يفترض فيه و هو صاحب الاختصاص أن يتولى إعداد هذا الملف الهام .و في المقابل و من باب المقارنة ضربت مثلاً بالطريقة التي أعد بها الجانب الإسرائيلي ملفه الأمني التفاوضي. لكن " لا حياة لمن تنادي! " . إن هذا الواقع السيئ الذي كانت تعيشه المؤسسة الأمنية ما كان ينبغي تحت أي ظرف من الظروف أن تعفي نفسها من النهوض بمهامها وواجباتها نحو شعبها ووطنها على الوجه الأكمل و هذا بدوره كان يتطلب بالضرورة  من صاحب القرار أن يدقق في عملية اختيار القادة الأمنيين و العسكريين , وان يحرص على سلامة بناء هذه المؤسسة الأمنية  حتى لا يستشري فيها الفساد و تغيب الشفافية والمساءلة و تنتهي الى مصيرها المحتوم الذي انتهت إليه في قطاع غزة مؤخراً 

من وجهة نظرك ما النموذج السليم لبناء المؤسسة الأمنية ؟

إذا كُنتْ بكل تواضع قد حظيتُ بشرف إطلاق الطلقة التحذيرية الأولى في هذا الخصوص منذ سنوات,وإذا كنتُ قد حزنت اشد الحزن على انهيار المؤسسة الأمنية مؤخراً في قطاع غزة , إلا إنني لم افقد الأمل بعد , نتيجة لمتابعتي المتواصلة منذ مدة لكل الندوات و الورشات و الدراسات التي اهتمت بهذه القضية الأمنية الحيوية . إنني أُثمن عاليا كل هذه الجهود المخلصة التي جاءت متممة لما بدأته في تقريري, وعليه و نتيجة لتضافر كل هذه الجهود المثمرة والمخلصة يمكنني إجمال متطلبات النموذج الأمني للمؤسسة الأمنية في النقاط التالية:

أولا: وضع عقيدة أمنية فلسطينية متفق عليها, و تحظى بالإجماع الفلسطيني تلائم ظروفنا الخاصة ,حيث أننا مازلنا تحت الاحتلال و لا ننعم بالسيادة و الاستقلال .

عقيدةٌ تخدم أهدافنا و مصالحنا العليا و توفر كل المتطلبات الأمنية اللازمة لتحقيق الردع ولحماية أرضنا و شعبنا و هويتنا من أي عدوان .

عقيدةٌ  تلبي كل احتياجاتنا الأمنية وما ينبثق عنها من الهيكليات و الاستراتيجيات والمهام والخطط والبرامج المختلفة " العملياتية , و التدريبية , و التسليحية ... الخ".

ثانياً: تحييد الأجهزة الأمنية تحييداً تاماً ,بحيث تكون وطنية الطابع , وتقف على مسافة متساوية من جميع الفصائل بما في ذلك الفصيل الحاكم , و ذلك لتأمينها  ضد التجاذبات السياسية المحلية والإقليمية, و إبعادها عن المحاصصة الفصائلية . إن هذا يتطلب بالضرورة للحيلولة دون تسييس الأجهزة الأمنية , وضع ضوابط و شروط  دقيقة و مشددة لقبول كوادر و منتسبي الأجهزة الأمنية , تضمن تجردهم تجرداً تاماً من أي انتماءٍ حزبيٍ أو فصائليٍ , و تكفل في ذات الوقت توفر الكفاءة و اللياقة المهنية و تُحرّم عليهم ضباطاً , و صف ضباط , و جنوداً ممارسة أية نشاطات سياسية , أو اقتصادية بل وتمنع الاشتراك في أية نشاطات اجتماعية إلا بإذن خاص من الجهة المخولة بذلك, حفاظاً على طابعها "المهني الخالص " كما تحَظُر عليهم الاتصال بأي جهات أجنبية أو الزواج من أجنبيات إلا بتصريح من جهة الاختصاص.

ثالثاً : إن بناء المؤسسة الأمنية على أساس حرفي و فني بحت و وفقاً للاحتياجات الأمنية والوطنية ضرورة لا بد منها , مما يستدعي حالياً " استخدام مشرط التطهير  لإجراء عملية جراحية قاسية" تخلّص الأجهزة الأمنية مما أصابها من ترهل و تضخم بشري شديد .

رابعا: أن لا تتدخل المؤسسة الأمنية في الشأن السياسي بتاتاً , وان تكون خاضعة للمستوى السياسي و تنفذ قراراته و تعليماته وان يكون ولاؤها لله وللوطن وللقانون , و أن تعمل على حماية أمن الوطن و أمن المواطن و أن تحافظ على حريته و حقوقه التي كفلها له القانون ,و كفلتها له كذلك المواثيق و العهود الدولية , و أن تحافظ أيضا على سلامة النظام السياسي , و النظام العام , و سيادة القانون, و هذا يتطلب  في ذات الوقت بناء منظومة قِيَم , و ترسيخ مفاهيم و تقاليد أمنية صالحة و ذلك من خلال تعبئة أمنية وطنية سليمة , يعبّأ بها العسكريون و رجال الأمن على نحو مستمر بعيدا عن التعبئة التنظيمية للفصائل , و هذا بدوره يتطلب أيضاً إعادة النظر في طبيعة و تبعية و دور جهاز "التفويض السياسي و فروعه المختلفة" في المجال التعبوي .

خامساً:وضع الإطار القانوني السليم الذي يُنظّم عمل المؤسسة الأمنية , وذلك من خلال منظومة قانونية و في مقدمتها " قانون أساسي عصري" للأمن ,يلبي من الناحية القانونية كافة الاحتياجات الأمنية , مما يقتضي إعادة النظر في القوانين الأمنية التي صدرت عن المجلس التشريعي في نهاية عام 2005م مع مراعاة إضافة فقرات أو سن تشريع خاص يكفل حماية رجل الأمن وظيفياً من ثأر العائلات , و يقدم من الحوافز ما يجعله يُقدِم على تنفيذ القانون بحذافيره غير هيابٍ و تحت أي ظرف من الظروف . وقد تكون هناك حاجة أيضا لإعادة النظر في هيكلية و صلاحيات جهاز القضاء العسكري بغرض تطويره و تفعيله . كما أن هناك حاجة ماسّة إلى " قانون موحد للأحكام العسكرية – و مجموعة كاملة للأوامر المستديمة – و تعليمات و أوامر امن مستديمة – ومجموعة لوائح انضباطية – و نظم متعلقة بالصناديق الخاصة بالأجهزة الأمنية " .

    و أود تعليقاً على ما تقدم أن أشير الى أنني قد طالبت في تقريري الصادر عام 1996م بضرورة توفير قوانين عصرية, تلبي حاجة الأجهزة الأمنية , إلا أن المصالح الشخصية والفصائلية غيّبت هذا الطلب , ولم تتم الاستجابة إليه إلا في عام 2005م !! تحت ضغط داخلي و خارجي! فلمصلحة من جاء كل هذا التأخير في سن القوانين التي لا يمكن بدونها بداهةً ضبط أداء الأجهزة الأمنية وتنظيم علاقتها بالنظام السياسي و المجتمع على حد سواء ؟ ومن المفيد أيضا أن أشير الى أنني شرفتُ في عام 1995م برئاسة لجنة خاصة كُلّفت بوضع نظام "لصندوق الخدمة الاجتماعية" الخاص بالأجهزة الأمنية , وقمت بالفعل بوضع نظام مثالي لهذا الصندوق, و كعادته دوماً قدم قام الأخ الرئيس الراحل بوضعه على الرف , و هنا قد يتساءل المرء لماذا قام إذن الأخ الرئيس الراحل بتشكيل لجنة و هو يعلم تماماً انه لن يأخذ بتوصياتها و سوف يضعها على الرف ؟  إن من يعمل مع الأخ الرئيس الراحل عن قرب  يعرف جيداً أن لعبة تشكيل اللجان التي يجيدها لا تعدو كونها وسيلة للتهرب من مأزق أو موقف يريد الخلاص منه. و هكذا يكون قد  فتحَ الباب على مصراعيه للعبث بالأموال الطائلة لهذا الصندوق و هي تقدر بملايين الدولارات , التي لا يعرف احد حتى اليوم كيف تم هدرها والتصرف فيها, ذلك لأنه أوكل إدارة الصندوق لشخص واحد مُوالٍ له أخذ  يديره دون رقابة أي مجلس إدارة و دون الاستناد إلى  أي نظام قانوني سليم خاص بهذا الصندوق . 

سادساً: تشكيل المجلس الأعلى للأمن القومي على أساس وطني - بعيداً عن المحاصصة والتجاذبات الفصائلية -ووفقا للأسس و المعايير المتعارف عليها دوليا , على أن يتولى هذا المجلس الذي يعتبر بمثابة المرجعية للمؤسسة والأجهزة الأمنية النهوض بالمهام التالية:

·   الاهتمام ببلورة سياسة أو رؤية وطنية أمنية شاملة تغطي كافة الأبعاد " العسكرية, والسياسية, و الاقتصادية, و الاجتماعية, و المائية...الخ " حفاظاً على وجودنا المهدد و حمايةً لهويتنا المستهدفة بالتشويه والتغييب, وأن تضع هذه الرؤية باعتبارها طبيعة نظامنا السياسي.

·   تحديد مفهوم واضح لنظرية الأمن الفلسطينية بما في ذلك مفهوم موحد للمقاومة و استراتيجياتها و وسائلها على أن يستجيب هذا المفهوم لمتطلبات مشروعنا الوطني في الحرية والاستقلال .

·        إقرار السياسات والاستراتيجيات و الخطط الأمنية المختلفة  و متابعة تنفيذها .

·   يمارس دوره الرقابي على المؤسسة الأمنية من خلال آليات   تضمن كفاءة أداء هذه المؤسسة و انتظام التنسيق الذي يحقق التعاون والانسجام بين أجهزتها.و تصويب علاقتها بالمجتمع و ضمان خضوعها للمستوى السياسي و عدم الانزلاق لخدمة أجندات فصائلية أو شخصية أو بالأحرى التورط في متاهة المحاور و الأجندات الإقليمية والدولية .

·   ينسق أيضاً دوره الرقابي مع جميع الهيئات الرقابية الأخرى كالمجلس التشريعي و مؤسسات المجتمع المدني " الأهلية و الدولية".

·    يعمل المجلس كآلية وصل بين المؤسسة الأمنية الفلسطينية و غيرها من المؤسسات الأمنية الأجنبية, سواءٌ أكان ذلك في مجال التعاون المتبادل في الخبرات والمعلومات, أو في مجال تلقي المعونات والمساعدات.

    و لضمان تفعيل و سلامة أداء هذا المجلس فمن البديهي أن تُسندَ  " أمانة السر"  فيه لرجل امن مؤطر كفء و نزيه, ليست له  أجندة سياسية خاصة أو مرتبط  بأجندات خارجية, وهذا للأسف  شرطٌ غير متوفر الآن  فيمن تولى هذه المسؤولية في المجلس الحالي, و هو الشخص الذي كان وراء دمار المؤسسة الأمنية مؤخراً في قطاع غزة  .ولقد سبق لي أن تعرضت بالنقد في الفصل السادس  من الباب الثالث من تقريري الصادر عام 1996م لما كان يسمى آنذاك " مجازاً" المجلس الأعلى للأمن القومي ,لقد كان في الحقيقية اسماً على غير مسمى ولذلك أبديت ملاحظاتي اللاذعة على هيكليته ,ومهامه, و طريقة تسمية أعضائه, و أسلوب عمله ...الخ.

  سابعاً: أن يخضع أداء هذه المؤسسة الأمنية " أفرادا و قادة" للرقابة و المساءلة, الذاتية من قِبل المستوى التنفيذي المسئول مباشرة عن هذه المؤسسة , وأن تتوفر جهة تكون مسئولة عن الإجراءات الانضباطية والأمن الداخلي , علاوة على إدارة متخصصة في الأمور المالية.

   أما بخصوص مراقبة  الأداء المهني للمؤسسة  فهناك حاجة لإدارة تسمى " إدارة التفتيش" تقوم بواجبها الرقابي داخل المؤسسة وذلك من خلال إعداد " برامج زيارات و تفتيش سنوية - فصلية – مفاجئة" تقيّم و تمتحن كل نشاطات المؤسسة سواءٌ على مستوى قيادتها أو على مستوى وحداتها الفرعية مثل: ( خطط العمليات – مستوى الكفاءة القتالية والجاهزية – مستوى التدريب وكل ما بتعلق به من "مناورات و بيانات و تمارين رماية...الخ" – كفاءة الأسلحة والمعدات والمركبات والأجهزة – صيانة التجهيزات و الإنشاءات – مستوى الانضباط و الروح المعنوية – مدى العناية بالنشاطات الأخرى" الرياضية والثقافية والترفيهية" – مدى العناية بمشاكل الأفراد الاجتماعية ).

    وعلى ضوء ما سبق تقوم هذه الإدارة الرقابية برفع تقاريرها الدورية إلى الجهات المعنية في المؤسسة ومن ثم للمستوى السياسي . ومرة أخرى أشير إلى إنني طالبت مبكراً في تقريري سالف الذكر " في البند سابعا من الفصل الثاني من الباب الأول" بضرورة استحداث هذه الإدارة الهامة , وحتى اللحظة لا اعرف من هو المفتش العام للأمن الوطني ,أو للأجهزة الأمنية الأخرى . و كما أن الأخ الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات تغمده الله بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته , كان يشغل منصب القائد العام للثورة , و منصب نائب القائد العام , و منصب رئيس هيئة الأركان – إلى جانب العديد من المناصب السياسية العليا- فلا غرابة إذا اتضح الآن أنه كان يشغل هذا المنصب شكلياً ودون أن يباشر مهامه أيضاً!!

ثامناً : أن تخضع هذه المؤسسة الأمنية للرقابة والمساءلة الخارجية من قِبل  المجلس التشريعي , سواء أكان ذلك من خلال اللجنة الأمنية فيه, أو من خلال المجلس الأعلى    للأمن , أو من خلال مجلس الوزراء, أو من خلال استدعاء القادة العسكريين والأمنيين أنفسهم  دون تعريض أسرار الدولة أو المؤسسة الأمنية للتسرّب. وأن تخضع هذه المؤسسة أيضا للرقابة من قِبل هيئة الرقابة المالية والإدارية .

     والجدير بالذكر في هذا السياق أن القانون الأساسي المعدَّل, والنظام الداخلي للمجلس التشريعي , قد اغفلا تماماً وضع أي نصوص تتعلق بزيارة أعضاء المجلس التشريعي لمقار و مراكز التوقيف في المؤسسة والأجهزة الأمنية , كما اغفلا النص صراحة على مبدأ التخصص عند تشكيل لجان تقصي الحقائق و تمثيل أحزاب المعارضة والمستقلين فيها . إن تحقيق هذين الأمرين سوف يساعد المجلس التشريعي , على أداء دوره الرقابي على المؤسسة الأمنية ,على نحو أدق و أفضل . وعلاوة على كل ما تقدم ينبغي أن لا نغفل أهمية دور الرقابة الشعبية على المؤسسة الأمنية و ذلك من خلال مؤسسات المجتمع المدني" المؤسسات الحقوقية المحلية والدولية "و على رأسها الهيئة المستقلة لحقوق المواطن .

تاسعا: تخصيص موازنة كافية ومنتظمة للمؤسسة الأمنية, تسد جميع احتياجاتها , تُعتمد وفق الأصول القانونية , ووضع آلية للصرف وفقاً لقواعد العمل المالي القانوني في كل ما يتعلق " بالمصروفات, والعطاءات , والمشتريات " على أن تباشر الإدارة المالية الخاصة بالمؤسسة رقابة كل ذلك علاوة على وزارة المالية أو أية أجهزة رقابية أخرى كديوان الرقابة المالية والإدارية . مع التشديد بعدم السماح للأجهزة الأمنية بجباية أية أموال من المواطنين.

عاشراً :التدقيق في عملية اختيار قادة الأجهزة الأمنية بحيث تتوفر فيهم الكفاءة و النزاهة والاستقامة و الانضباط الشديد , لكي يكونوا قدوة حسنة للآخرين , وان يكونوا متخصصين و مؤطرين عسكرياً أو امنياً, و أن يتم تغييرهم دورياً بمشاركة السلطتين التنفيذية والتشريعية, بحيث لا تزيد مدة خدمة الواحد منهم كقائد للجهاز عن أربع سنوات كحد أقصى,  غير قابلة للتجديد إلا في حالات استثنائية يحددها القانون.

·   حادي عشر: حماية الأجهزة الأمنية ووقايتها من مخاطر النزعات العشائرية والعائلية التي لا تقل ضراوة حالياً عن النزعات الفصائلية .إن الحرص على تحييد الأجهزة الأمنية ,و حمايتها من التجاذبات الفصائلية , ينبغي أن ينسحب على التجاذبات العشائرية والعائلية خاصةً في مجتمع غُيّب فيه القانون, و ضَعُفت فيه هيبة السلطة و انطلق فيه الانفلات الأمني من عقاله, و أصبحت فيه سطوة بعض العشائر المسلحة- خاصة في قطاع غزة-  أقوى من سطوة السلطة و الفصائل على حد سواء , وهذا بدوره يقتضي ولو مؤقتاً "لمدة عدة سنوات" للحيلولة دون تغلغل العائلات أو العشائر الكبيرة المتنفذة في المؤسسة الأمنية و بالتالي إساءة استخدام سلاحها و نفوذها , ومن ثم تصبح  هناك ضرورة ملحة حالياً لتحديد عدد المنتسبين من أبناء هذه العائلات للأجهزة الأمنية.

              

*صحفية فلسطينية ومدير تحرير صحيفة الثريا.