حوار مع الكاتب القصصي أحمد ممو
تجاوز السائد غير المفيد
حاورته : هيام الفرشيشي – تونس
الأديب أحمد ممو من أبرز أعضاء نادي القصة " بالوردية " . كانت أول مصافحة له بمجلة " قصص " من خلال قصة " المرآة التي تعكس وجوه الآخرين " في 1968 ، ثم تواتر إنتاجه الإبداعي في مجلة " قصص " وقد تراوح بين كتابة القصة والدراسة والترجمة . وهاهو يواصل إسهاماته الكتابية في هذه المجلة ، وقد أهلته جديته ليصبح المدير المسؤول عن هذه المجلة التي تعنى بنشر القصة والدراسات النقدية والمتابعات القصصية .
وهو دكتور في علم الجيولوجيا و كاتب بارع للقصة القصيرة ، استفادت القصة القصيرة التي كتبها من المفاهيم العلمية : الزمن ، والفضاء ، والبعد ، وقام بناء القصة لديه على المعادلات الفكرية والارتسامات الذهنية ، وزخرت بالظلال لتعطي للصور الاجتماعية والذهنية ظلالها الفنية.
وصدر له :
ـ " لعبة مكعبات الزجاج " 1974
ـ " زمن الفئران الميكانيكية " 1980
ـ " دراسات هيكلية في قصة الصراع " 1984
ـ " تاريخ الأدب التونسي الحديث والمعاصر " ـ مؤلف جماعي ـ صادر عن بيت الحكمة 1993 .
ـ " زمن المواسم اليومية " 2001 .
الأديب أحمد ممو ، على غزارة ما يكتب ، ظل مقلا في تعامله مع الإعلام إذ يتعامل معه بحس انتقائي فلا يدلي بحديثه إلا إذا لمس الجدية والإضافة . وقد كان لي معه هذا الحوار لإلقاء الظلال على كتاباته القصصية ونشاطه الثقافي والتعبير عن رؤاه واقتناعه الفكري وعن توجهات مجلة " قصص" وتوجهات "نادي القصة" بتونس .
ـ هل ترى وجود تحديد جاهز للقصة ؟
على مستوى الشكل يمكن تعريف القصة القصيرة باعتبارها صنفا سرديا يتميز ببعض الخصائص الأساسية التي هي الحدث ( الزمن والمكان والشخوص ) والحبكة ( نسق الأحداث وكيفية تقديمها ) والموضوع ، ولكن في الواقع وكما هو الأمر بالنسبة إلى أي أكلة لا يكفي أن نصف العناصر المكونة لها لكي تكون طبقا جاهزا للاستهلاك ، كما أن أي طبق حتى وإن قدمت الوصفة الخاصة به بكل التفاصيل الممكنة يمكن أن يخرج من يد طباخ مختلفا عن طبق يقدمه طباخ مغاير ، ولكن القصة القصيرة لا تلتبس بالشعر والمسرحية مثلا ، لذلك فهي صنف أدبي له مقوماته المتعارف عليها من قبل المشتغلين بها من مبدعين والنقاد .
ـ هل يمكن اعتبار وجود جيل جديد للقصة في تونس ؟
الأجيال الأدبية عملية متواصلة لا تعرف الوقوف ، وللمرور من جيل إلى آخر تظهر التغييرات التي تصنع المراحل وتضع الحدود وتميز الأجيال ، وهذا التمايز لا يعني بالضرورة نسقا بعينه في مجال التطور ، بل فقط الاختلاف النسبي الذي يسمح به باعتبار أفراد أو مجموعات منتمية إلى جيل دون آخر . ولا فضل لجيل عن غيره إلا بما يتوفر له من مجالات الإضافة والإثراء ، وهي حظوظ تتفاوت بحسب عديد الظروف والمعطيات . وإذا كان العامل الزمني هو الذي كثيرا ما يوحد بين أفراد الجيل الأدبي نظرا لوجودهم تحت نفس التأثيرات الوجودية الكبرى من أحداث وتاريخ وبيئة ثقافية ، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة انتماء كل أدباء نفس المرحلة التاريخية إلى نفس الجيل الأدبي ، وغالبا ما يحدث التمايز بينهم أو التفرد من كيفية تعبير كل مجموعة عن المؤثرات الثقافية الغالبة التي تطبع الفترة التاريخية المعينة .
ـ ما هي الخصائص التي تؤهل الأسماء الشابة للنشر في مجلة " قصص " ؟
مجلة " قصص " هي مجلة "نادي القصة" بالوردية منذ انبعاثها في 1966 ، وهي موجهة لخدمة القصة التونسية والتعريف بها وتوسيع مجال إشعاعها وخدمة الأدب التونسي بتوفير الذاكرة التاريخية له والتقريب بين أجياله ، والأسماء الشابة في هذا النادي أو على صفحات مجلة " قصص " هي سيرورة تاريخية للحركة الأدبية في هذه الربوع ، لذلك فإن تقديم إنتاج الأدباء الشبان على صفحات هذه المجلة تفرضه مثابرة أصحابه على الإنتاج والتطور . والمعروف عن شروط النشر في هذه المجلة أنها على درجة كبيرة من البساطة إذ يكفي أن يقدم الإنتاج للقراءة على أسماع أعضاء النادي في الجلسات الدورية وتقع مناقشته والحكم له أو عليه ، لكي يتم تبين مدى استحقاقه للنشر . وهذا الشرط لا يخص إنتاج الأدباء الشبان فقط بل هو ساري المفعول على كل ما ينشر من قصص في المجلة ، وهذا يعني حدا أدنى من التمكن من اللغة ومن تقنيات كتابة القصة وتوفر الموضوع المتميز بخصوصية غير مبتذلة وتعبير عن بعد فكري أو اجتماعي يمكن أن يفيد القراء .
ـ إلى أي مدى تتفاعل ككاتب لقصة مع تيارات الحداثة ؟
تيارات الحداثة غالبا ما تعني التباين الصريح مع السائد المطروق ، لذلك فهي تتميز بالجرأة على التزام الجدة والطرافة ، وقد تذهب أحيانا إلى حد التطرف في ذلك ، ولكن ما يضمن لها شرعية الوجود أنها تقوم دائما على ضرورة تغيير السائد طلبا للأفضل . وقد أثبت تاريخ الفكر الإنساني أن ما يبدو "حداثة" اليوم سيكون بالضرورة التاريخية "سائد" الغد ، لذلك تتطلب مفاهيم من قبل "النخبة" و"الطليعة" لياقة فكرية متواصلة تضمن لها الريادة على طول مسارها الفكري وهو ما يتم تداوله من مجموعة أدبية إلى أخرى كالمشعل الذي يتم تسليمه من السابق إلى اللاحق من أجل نفس الهدف النبيل وهو الوصول إلى ما فيه خير الفكر والمجموعة المنتمي إليها.
اعتمادا على هذا الفهم للحداثة ، يمكنني أن أدعي أنني مازلت أسعى لكي تتوفر الحظوظ لأكبر عدد من المسكونين بهوس التعبير الأدبي لكي يجدوا لهم مكانا تحت الشمس لأني أعتبر أن كل الطروحات الفكرية التي يتحمس لها أفرادها ستخضع لمحك الزمن لكي تثبت باعتبارها الأفضل أو لكي تتقلص لبهتانها . ولا يضر الساحة الثقافية في شيء أن تتباين فيها المواقف الفكرية وتتنوع إذ في اختلاف المجموعة إثراء للحركة الأدبية وفي تباين الأصوات الفكرية والتعبير الأدبي تجذير للأدب التونسي في بيئته بأكثر ما يمكن من حظوظ الانفتاح على واقعه وتهيئته لمستقبل واعد .
ـ ما هي توجهات " نادي القصة " في ندوته السنوية ، والتي تنظم في المركز الثقافي بالحمامات ؟
هي مناسبة متميزة في حياة مؤسسة ثقافية ما انفكت تعمل من منطلقات وطنية ، من أجل تأكيد شرعية حضور القصة والرواية والنقد الأدبي في الساحة الثقافية . ويكفي هذا النادي فخرا واعتزازا انتماء أغلب أدباء هذا الوطن المبدعين في هذه المجالات ، في فترة ما من مسيرتهم الأدبية ، إلى هذا النادي وما استقطاب مجلة " قصص" لذلك العدد الضخم من أسماء كتاب القصة والرواية والنقد إلا تأكيد لذلك . وقليلة هي المؤسسات الثقافية التي يمكنها اليوم أن تثبت مثل هذه المدة ، في خدمة الثقافة من خلال أجيال متتالية لا يجمع بينها إلا الإيمان بتأكيد حضور الأدب التونسي المساير لعصره .
وقد درج "نادي القصة" على تنظيم ملتقى سنوي لأعضائه في نهاية كل صائفة استعدادا للموسم الثقافي الموالي. ويتصف هذا الملتقى الدوري بالعديد من الأنشطة مثل معارض المنشورات والرسوم الفنية والإعلان عن جوائز "نادي القصة" التي يرصدها النادي في نطاق التشجيع على إثراء الكتابة القصصية ، وكذلك تنظيم ندوة فكرية خاصة بمحور يتعلق بالكتابة القصصية . لذلك حاولنا أن نجعل منه تظاهرة فكرية متميزة ليس فقط على المستوى الوطني .
ألاحظ في مجموعتك القصصية الأولى " لعبة مكعبات الزجاج " حضور الفنون كالرسم والنحت
والمسرح والرقص وهي فنون تسكن مخيلات الشخصيات القصصية، ولكنها بدت ظلالا تعكسها
هذه الشخصيات على الواقع لتعيد صياغته قصصيا، كما ألاحظ حضور المنطق حيث تحولت
الأحداث إلى معادلات منطقية قابلة للتفكيك والتحليل، فهل الكتابة القصصية هي لعب
بالأحداث ورؤية للواقع من خلال ارتسامات الذهن ومعادلات الفكر ؟
الكتابة
القصصية هي قبل كل شيء موقف صاحبها من الأشياء ومن الذات، ومن هذا المنطلق فهي
انعكاس لثقافته ومزاجه، أي لنمط تفكيره، أي أنها – كما قلت – "رؤية للواقع من خلال
ارتسامات الذهن ومعادلات الفكر". وإن كان في قصص "لعبة مكعبات الزجاج" (الشركة
التونسية للتوزيع، 1974) ما يستجيب لحضور الفنون والمنطق، فلآني في تلك المرحلة
التي كتبت فيها تلك القصص (1972-1976)، وهي فترة العشرينات من عمري، كنت أعيش عدة
تساؤلات عميقة متصلة بالإبداع وفهم العالم. ولعلي قد توصلت في تلك الأقاصيص إلى أن
أعبر عن البعض مما كان يسكنني من هواجس، ذلك أني أعتقد أن الكتابة الإبداعية هي
بالأساس موقف من الحياة ومن الآخرين، وهي البعض من تلك المساهمة الفكرية المتواضعة
التي يقدمها المبدع للمجتمع الذي يعيش فيه، إذ من خلال موقفه ذاك يعبر عن رؤيته
للأشياء، وعن تصوره لتبين ما فيه إفادة للآخرين.
في مجموعتك القصصية الثانية " زمن الفئران الميكانيكية " نرصد اللعب المنطقي
بالأحداث ولكن نلاحظ ظهور الأبعاد الأسطورية التي تعيد كتابة الواقع وترصد أحلام
المجموعة التي لم تتحقق في الواقع، فهل العمل القصصي هو تصوير للماضي الذي لم يتحقق
في الحاضر؟ و تذويب الذات من خلال الحلم الجماعي ؟
اقترنت فترة كتابة أقاصيص "زمن الفئران الميكانيكية" (شركة صفاء للنشر والتوزيع،
1980) بالسنوات الثلاثين من حياتي (1973-1980)، وهي الفترة التي دخلت فيها الحياة
العملية وانتظمت فيها حياتي وفق نسق عائلي مستقر وفهمت فيها كيف يصبح الإنسان
مسؤولا عائليا واجتماعيا، وكانت تلك الفترة أيضا بالنسبة لي، مرحلة تراكم الخبرة
المعيشية والسعي لفهم ثقافتي. وقد اقترنت تلك الفترة باهتمامي بنظرية الكتابة
القصصية كما تجسمت في بعض الدراسات التي نشرتها حول "هياكل القصة النضالية"(1)
و"هياكل قصة البطولة في الأدب الشعبي"(2) وخاصة كتابي "دراسات هيكلية في
قصة الصراع" (الدار العربية للكتاب، 1984)، وكان ما استرعى انتباهي حضور الجانب
التخييلي في الإبداع القصصي واعتماد الكتابات السماوية والملحمية على هذا الجانب
التخييلي لتقريب المفاهيم ووجدت أن فهم العقل البشري لكل ما هو مسيرة حضارية
للإنسان تقوم على إعادة فهم الأسطورة ومحاولة الربط بين الواقع المدمر للشخوص
والحلم الذي يبقى في النهاية الملجأ الأخير لهم، وبذلك تصبح الأسطورة مجالا لتصور
ما كان يمكن أن يحدث لو أن الأشياء وقعت بالشكل الذي نرغب فيه.
ومن هذا المنطلق، حاولت أن استوعب ما تحمله القصة والملحمة والأسطورة والقصة الدينية من رموز وعلامات دالة على تطور فكر الإنسان، وهو يبني حضاراته المتتالية لبنة لبنة، وجيلا بعد آخر، وكيف أصبح الآن وهو يواجه هذا الواقع الذي يضيع الفرد في تلك المجموعة المعنية دوما بالبحث عن جانب من "الجنة المفقودة". وما التجائي إلى استقراء تاريخ المجموعات البشرية إلاّ لتأكدي من أن الفرد ليس في النهاية إلا بلورة صغيرة في المرآة التي تعكس تطور ملامح البشرية خلال مختلف مراحل تطورها، لذلك فإنه وجوده أساسي ولكنه غير كاف لفهم نفسيته وتصرفاته ومراحل تطوره. وبذلك يكون العمل القصصي ليس فقط تصوير للماضي الذي لم يحققه الحاضر، بل أيضا كل ما يمكن أن يكون قد حدث وكل ما يمكن أن يحدث لهذا الإنسان الذي يتخبط وسط فهمه للكون من خلال شبكة الفكر التي تضبط حدود إدراكه. وعلى هذا الأساس يكون من الضروري أن يتم استقراء كل مواقف الفرد لفهم المجموعة، وتأثير الوجود الجماعي لتبين انعكاساته على الأفراد.
في المجموعة القصصية الثالثة " زمن المواسم اليومية " نلاحظ ذلك الخط المتطور في
نحت القصة من حيث اعتماد الرموز الأسطورية والدينية والتاريخية لتمثل الواقع بطريقة
قصصية ليخرج القارئ برؤية متكاملة تنطلق منها ككاتب لتبلغ عبر الرمز ما لا يقال في
الواقع؟ فهل الكتابة هي انعكاس لما يجول في الذهن عن الواقع أم العكس ؟
كما
قلت ذلك من قبل فإن الكتابة هي بالأساس، موقف الإنسان من الذات ومن الوجود، لذلك
فهي تعبير عما يجول في الذهن عن الواقع وعن المتوقع، وقد تكون في جانب منها انعكاس
للواقع الفردي أو الجماعي إن كان في ذلك الانعكاس بعض ما يرجو الكاتب تبليغه. وما
التجاء الكاتب إلى الجانب الرمزي لتبليغ خطابه القصصي، اعتمادا على العلامات التي
يشترك ثقافيا بواسطتها في فهم الواقع، مع المتلقي، إلا سعي منه لضمان الجدوى لخطابه
التعبيري. وكلما أمكن للكاتب أن يضع في متناول القارئ المزيد من الأبعاد التي تفتح
أمامه مجالات تفسير النص وفهمه بمستويات متعددة، تأكد لديه أن فئة ما – على الأقل -
من القراء في إمكانها أن تنفذ إلى الفهم الذي يرغب فيه من وراء كتابته تلك. ومن هذا
المنطلق، تصبح الكتابة تعبيرا عن "سيرورة" الإنسان وتضع إشكالية الجدوى منها كأهم
جانب في موقف الكاتب الذي يقدم على السعي في اتجاه "المتلقي" (القارئ الافتراضي) من
خلال ما يحاول تبليغه إياه من معنى وأفكار.
ترددت
كلمة الزمن في عناوين مجموعتيك " زمن المواسم اليومية " و" زمن الفئران الميكانيكية
" كما نلاحظ وجود للزمن في مجموعتك القصصية الأولى وبالتحديد في قصة " البعد
والفضاء والزمن " فهل من إضاءة حول مفهوم الزمن وجدلية العلاقة بين الفضاء والزمن ؟
الأكيد أن "الزمن" بأبعاده الفلسفية والفيزيائية، من المفاهيم التي تستقطب اهتمامي
بشكل خاص، نظرا لارتباطه بمعنى وجود الإنسان في مختلف أشكاله، ولعلي قد حاولت، في
"زمن المواسم اليومية" (منشورات قصص، 2001)، أن أبرز "الطيف" الكامل لمفاهيم الزمن
بداية من هذا العنوان المركب ومرورا بالمحتوى القصصي. وقد ابتدأ حضور هذا الهاجس في
تفكيري منذ كتبت قصة "الفضاء والزمن والبعد"(3)، وكنت خلال تلك الفترة
من حياتي شديد الاهتمام بالنظريات الفيزيائية المقترنة بالزمن وكيفية تحليلها من
خلال المجالات العلمية الحديثة، وقد يكون تخصصي الجيولوجي ساعدني على تعميق استقراء
تاريخ الإنسان والبشرية لكي أفهم بشكل أفضل، مفاهيم "التطور" و"التحول" وأسعى
لاستشراف تخلص الإنسان من الجاذبية الأرضية وسياحته في الكون.
وعندما يتعلق الأمر بالكتابة القصصية فإن الزمان والمكان يحكمان بشكل أساسي مواقف الشخوص وتطور الأحداث، ومن خلالهما يأخذ الشكل القصصي ملامحه المميزة، وغالبا ما يسعى الكاتب إلى أن يعكس من تقطيع الزمن وارتباط مقاطعه في القصة البعض من تلك الأبعاد التي يرغب في إبرازها والمتعلقة بالعلاقات بين الشخوص أو بالأوضاع الفكرية والنفسية التي تتحرك من خلالها، لذلك فحضور الوعي بالبعد الزمني في الكتابة القصصية لدى الكاتب، شديد الأهمية ويشكل أحد المداخل التي تساعد القارئ على حسن فهم ما يرغب الكاتب في تبليغه. وأعتقد أن الوعي بالزمن يشكل في الكتابة القصصية المعاصرة أحد أهم جوانب وعي الكاتب بحضور الشكل في تجسيم الأبعاد الخصوصية "لوجهة النظر" أو "زاوية النظر".
لم نقرأ لك رواية بل مجاميع قصصية، هل هو اختيار فني ؟ أم أن التركيز على الأحداث هو الأهم لديك من تحليل الشخصيات؟ أليست الرواية هي الأقدر فنيا على رصد التحولات الاجتماعية وعلى استيعاب تقنيات الحكي الحديثة ؟
رغم أنه قد سبق لي في سنة 1969، الشروع في نشر بضعة فصول من رواية "الفقاعة والمثلث"(4) إلاّ أني لم أتوصل إلى اليوم، لإيلاء الكتابة الروائية ما يلزم من الاهتمام لكي أجسم حضوري في الساحة من خلال هذا الصنف الإبداعي الذي أصبح اليوم من أهم مظاهر الكتابة القصصية. ولا أعتقد أن وراء ذلك موقف خاص من كتابة الرواية، بل هي مجرد ظروف شخصية لم تسمح لي بالتفرغ لإتمام بعض المشاريع التي هي حاليا في طور التجسيم.
الأكيد أن كتابة الرواية تمكّن الكاتب من حرية أكبر في استكناه دواخل الشخوص ومواقفهم، وكذلك في تنويع النماذج البشرية وتعقيد العلاقات بينهم، على عكس القصة القصيرة التي تقوم بشكل خاص على وحدة الحدث وتكثيف المواقف. والرواية هي بالأساس معمار متكامل يتطلب طول النفس لدى الكاتب لتفصيل الأحداث وربطها ببعضها، وكذلك القدرة على امتلاك النظرة الشاملة المتوازنة لكل الشخوص والمواقف، لذلك فهي جهد متواصل لمدة أطول لتجسيم ذلك العالم المتكامل الذي يرغب الكاتب في تقديمه للقارئ. ومن هذا المنطلق، فالرواية أقدر من القصة القصيرة على رصد التحولات الاجتماعية وتفسيرها واستشراف انعكاساتها على الشرائح الاجتماعية والنماذج البشرية المنتقاة، ولكنها لا تعوض في أي شيء ما قد ترغب القصة القصيرة في التعبير عنه، إذ لكل منهما مجال وكيفية لتبليغ ما يفكر فيه الكاتب، كما أنهما في النهاية، وجهان للتعبير عن المتخيل.
ما هي أهم الأنشطة التي ينكب "نادي القصة" بالوردية على برمجتها في هذا الموسم الثقافي ؟
يبقى "نادي القصة" تلك المؤسسة الثقافية التي التزمت بخدمة الأدب التونسي من خلال التعريف بالكتابة القصصية في هذه الربوع والسعي للربط بين مختلف أجيالها بتوفير "الذاكرة الوطنية" في هذا المجال، وكذلك الفضاء الذي يجمع أصوات كتاب القصة والرواية سواء من خلال ما ينشر دوريا في مجلة "قصص" أو مختلف التظاهرات الثقافية الأخرى التي تخصص لتقديم حديث الإصدارات في هذا المجال، كجلسات منتدى "مطارحات قصصية"، أو الندوات الفكرية المقترنة بالملتقى الدوري السنوي لهذا النادي.
وأهم ما يميز الموسم الثقافي لهذه السنة في "نادي القصة" اقترانه بمرور مائة سنة على ميلاد أبو القاسم الشابي وستين سنة على وفاة علي الدوعاجي. وقد فكر "نادي القصة" – نظرا لارتباطه بهذين العلمين الأدبيين، في انتهاز هذه المناسبة لمزيد دفع الساحة الثقافية إلى الالتفات إلى الإرث الأدبي والفكري لهذين الأديبين.
فكل من الشابي والدوعاجي من الأعلام الذين تركوا بصماتهم على الكتابة القصصية في تونس وكان لهم دور دعمها وتمريرها للأجيال الموالية. فأبو القاسم الشابي – الذي اقترن اسمه بالنادي الثقافي الذي نشأ في أحضانه "نادي القصة" بالوردية - قد ترك من خلال مذكراته وكذلك نصّه التنظيري للكتابة الإبداعية، "الخيال الشعري عند العرب"، مساهمة فكرية تنضاف إلى رصيده الشعري المتميز بالحداثة والمعاصرة. وليس كثيرا على الشابي أن تهتم به الساحة الثقافية في مائويته، وهو الرمز الوطني لتحديث الأدب والفكر في هذه الربوع.
أما علي الدوعاجي، فهو "أبو القصة التونسية" دون منازع نظرا لدوره في تركيز كتابة القصة القصيرة وتعتبر مجموعته القصصية "سهرت منه الليالي" التي قام "نادي القصة" منذ سبعينات القرن الماضي بتجميعها وطباعتها، إضافة إلى روايته "جولة بين حانات المتوسط" (الشركة القومية للنشر والتوزيع، 1962) خير مرجع في هذا السياق. كما أن رصيده الضخم من المسرحيات الإذاعية التي لم تلق بعد الاهتمام الذي تستحقه من طرف الدارسين، إضافة إلى كتاباته الصحفية ذات النزعة الأدبية الخالصة، أفضل تعبير عن روح العصر القلق الذي اقترن بحياته.
اعتبارا لهاتين المناسبتين فقد عزم "نادي القصة" على أن يقيم تظاهرة أدبية/ثقافية للإسهام في الاحتفال بمائوية أبي القاسم الشابي، وذلك خلال فصل الربيع لهذه السنة، كما قرر أيضا أن يخصص الندوة الفكرية المقترنة بملتقاه السنوي الذي ينعقد في مستهل الخريف من كل سنة، لموضوع "القصة التونسية، ستون سنة بعد الدوعاجي". وأعتقد أن في هذا الموضوع ما يسمح بالجمع بين الاعتراف للسابقين بدورهم في تواصل الاهتمام بالكتابة القصصية، وكذلك للاحقين بتوفير النظر الاستشرافية للمستقبل.
وطبعا فإن النشاط "نادي القصة" يشمل أيضا الجلسات الأسبوعية عشية كل يوم سبت والمفتوحة للقراءات القصصية ومناقشتها، وكذلك مواصلة إصدار مجلة "قصص" التي يتواصل صدورها منذ 1966