ذكرياتهم مع شهر الصوم.. حوار مع الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض

أبو الحسن الجمّال

الدكتور إبراهيم عوض قامة أدبية تعددت نشاطه بين الأدب والنقد تخصصه الرفيع حيث يعمل أستاذ للأدب العربى فى كلية الآداب جامعة عين شمس، كما شارك فى الدراسات الإسلامية والردود على أعداء الإسلام والترجمة، وخلف عشرات الكتب ومئات المقالات التى دلت على موسوعية هذا الرجل وتشعب موضوعاته.. تخرج الدكتور إبراهيم عوض فى كلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة القاهرة بتفوق عام 1970 فهو خلال مراحل تعليمه المختلفة يسجل اسمه على رأس قائمة الأوائل، ويعين معيداً بذات القسم، ويذهب فى بعثة علمية إلى جامعة أوكسفورد استمرت حوالى عقد من الزمان، لم ينساق إلى الانحراف كما فعل غيره فهو ملتزما بثقافته الإسلامية التى كانت بمثابة المصل الواقى له من الانحراف والجرى وراء كل ناعق، وكانت فرصة أن نهرع إليه ليحدثنا عن شهر رمضان فى بريطانيا وأهم المواقف التى تعرض لها هناك، يحكيها لنا فى أسلوب جذاب ساخر كعهدنا به فى كل كتاباته متأثرا بالأديب الذى يؤثره وهو الحاحظ ، وإلى نص الحوار:  

1- كيف تتذكر شهر رمضان؟

فى طفولتى بقرية كتامة الغابة التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية: كنت مغرما ككل أولاد الريف فى ذلك الوقت بصوت طبل المسحراتى والبازة التى تسبق بها أم عوض طبل المسحراتى بقليل، فكأنها تمهيد له. وكانت أم عوض تكتفى بأن تنادى الناس فى البيوت قائلة فى بساطة محببة: "أنا ام عوض يا ولاد". وفى ليلة من الليالى، وكان أبى قد مات، عزمت على أن أبقى فى الشارع حتى أرى، وجها لوجه، المسحراتى وهو يقرع طبله أمامى لا مجرد سماع، فنمت على التراب فوق مصطبة بيت الشيخ أحمد زيد صانع القفف والغلقان بعيدا بضعة أمتار عن بيتنا، إلى أن استيقظت على صوت طبل المسحراتى، فكنت كمن بُعِث من القبور إلى الحياة مرة أخرى من شدة الفرحة. وبطبيعة الحال لم أخف من العفاريت، إذ كنا نؤمن أن العفاريت تُسَلْسَل فى ليالى رمضان، كما كان الوقت صيفا فلا ينام الناس مبكرين كما يفعلون فى فصل الشتاء والأمطار والبرد، فضلا عن أن الناس فى رمضان يسهرون ولا يخلدون إلى الفراش سريعا على عكس الحال فى ليالى الشهور الأخرى، وبعض الدكاكين لا تزال مفتوحة، وأنوار مصابيحها تزيح ظلمة الشوارع.

2- سافرتم فى بعثة إلى جامعة أوكسفود وكثت هناك بضع سنين كيف كان رمضان فى بريطانيا؟ 

فى بريطانيا حين كنت أسكن مع أسرة بريطانية فى مدينة "هستنجز": وقعت بعض الطرائف المزعجة أثناء إقامتى مع تلك الأسرة: فمنها أن ربة البيت كانت تقدم لى فى السَّحُور كل ليلة مربى أو عسلا حتى ضاق صدرى بهذا اللون الطعامى الذى لا يتغير، والذى أجده كل ليلة على المائدة حين أستيقظ لتناول السَّحُور، ففاتحتها برغبتى فى شىء من التغيير. مثل ماذا؟ قلت لها: بيضتان مثلا. قالت فى ضيق واضح: ألست تحب السكر وتطلب أن يكون الشاى (باللبن والله!) حلوا؟ قلت: وهل معنى ذلك أن أظل آكل المربى والعسل على الدوام؟ قالت: لكن البيض غال. فقلت فى سرى: ماذا أقول لبنت الفرطوس هذه؟ ثم توكلت على الله قائلا فى نفسى: هى مَوْتَةٌ أم أكثر؟ وأكدت لها أن ثمن المربى والعسل هو نفسه ثمن البيضتين. فاقتنعت ونزلت أخيرا على رأيى بعدما ظننت أن روحى ستطلع قبل أن أنجح فى زحزحتها عن عنادها وتيبُّس مخها. كما لاحظت أنهم ينادون إسماعيل بـ"إشماعيل" (بالشين) فأبديت دهشتى، فغضب الرجل منى وكأننى قد طعنته فى عِرْضه. وهذا إن كان الطعن فى العِرْض يزعجهم فى شىء! ثم نسمع من يقولون إن الإنجليز دائما أهل سياسة ودهاء من طراز رفيع! لا، يا سيدى أنت وهو، ليس دائما، وإن لم تصدقونى فاسألوا مدام "جونزاليش" وزوجها ذا الصوت الهادئ الصادر عن فمه وأنفه معا، والعينين اللتين لم أكن أرتاح لنظراتهما، وما هما إلا مجرد مثال!

  *   *   *

ونفس ما قلتُه عن عدم تركى الصلاة منذ أن بلغت الثانية عشرة وذهبت إلى طنطا أتعلم فى الأزهر يمكنك أن تقوله أنت عن الصيام، الذى لم أكسره منذ انتظمت فى أدائه بدءا من تلك السن أيضا رغم ما تعرضت له مرارا وأنا صبى لم أبلغ الحُلُمَ بَعْدُ من عطش محرق كان الشيطان يوسوس لى خلاله أن أطفئ ظمئى بشربة ماء حتى أتخلص من تلك البُرَحَاء. وكنت، وأنا صغير لم أبدإ الصيام بعد، أضيق أشد الضيق حين آكل بعد صلاة الجمعة، وهو اليوم الذى لا أذهب فيه إلى الكتاب وأكون قريبا من أبى، فأجده لا يشاركنى الطعام.

3- ماهى المواقف التى تعرضت فىبريطانيا أثناء شهر الصيام؟

فى أحد أيام رمضان فى هستنجز قبل مجىء زوجتى إلىَّ فى بريطانيا: منها غابة قريبة من مدينة هستنجز وجدنا أنفسنا أنا وإسماعيل (الإيرانى) الذى كان يسكن معى عند أسرة بريطانية هناك، حينما كنا نتمشى ذات عصرية وأردنا أن نثبت أننا متحضران كالأوربيين فقلنا: نعتمد فى سيرنا على الخريطة، ولا نسأل أحدا. ورغم أننا لم نستطع أن نفهم منها شيئا فقد ركبنا رأسينا وظللنا نسير متوهِّمَيْنِ أننا متجهان الاتجاه الصحيح... إلى أن ألفينا أنفسنا فى غابة شاسعة، فاخترقناها متصوِّرَيْنِ أننا سوف نفرغ منها بعد قليل. لكن كان للغابة رأى آخر. وبعد وقت طويل خلناه دهرا، وخفنا أن نظل سائرَيْنِ طوال الليل بين تلك الأشجار التى لا تنتهى، وجدنا أنفسنا خارج المدينة عكس الاتجاه الذى كان ينبغى أن نتخذه. وحتى لا أطيل عليكم ولأننى لا أذكر التفاصيل الآن أقول إننا بلغنا البيت أخيرا بعد المغرب بوقت طويل، وكنا فى رمضان: أنا صائم، وإشماعيل (بالشين من فضلكم!) مفطر. ولكننا كنا من فرط السعادة بسبب النجاة لا نحس بجوع. وفى حالتى أنا بالذات لم أكن (كما شرحت لكم من قبل) أتناول طعامى مع المغرب، بل أؤجله لحين تناول أهل البيت عشاءهم، ومن ثم لم يكن هناك بالنسبة لى أى فرق.

 يوم رمضانى بالمستشفى فى أكسفورد: 

 ويذكر الدكتور عوض موقفا آخر: "أما فى أكسفورد فى أواخر عشريناتى بعد أن كبرت وسافرت إلى بريطانيا مبعوثا للدراسة من أجل الحصول على الدكتورية فقد دخلت المستشفى مرة لمدة يوم لإجراء عملية منظار على المثانة للتأكد من خلوها من الالتهاب، وأتتنى الممرضة الصغيرة الظريفة بعدها تطلب منى أن أشرب بعض الماء ليَرَوْا نتيجة العملية أو لشىء من هذا القبيل، فاعتذرتُ، ولكنها أصرت، فقلت ضاحكا تخلصا من الموقف: إن الله سوف يغضب منى إذا أفطرت. فقالت: إنه لا يمكن أن يغضب لمجرد تناولك شربة ماء لا راحت ولا جاءت. إلا أنى رددت وأنا ماضٍ فى الدعابة: أنا متأكد أنه سوف يغضب، بينما هى تجيبنى بقولها: لا أظن ذلك. وانتهى الأمر بأن مر الوقت الباقى من اليوم، وكان مدة صغيرة، ومن ثم خرجت من الموقف المضحك على الوضع الذى آثرتُه. ولا أدرى هل كنت على صواب فى قرارى هذا أو لا، إلا أنى، بينى وبينكم، قد استثقلت أن أفطر وأعيد صيام اليوم وحدى فى الوقت الذى لم يكن قد بقى من النهار سوى جزءٍ جِدِّ قليل.

  *   *   *

الصيام مع زوجتى فى بريطانيا: 

كنا فى أوكسفورد فى أواخر سبعينات القرن الماضى وأوائل ثمانيناته نمسك عن الطعام قريبا جدا من هذه المدة. ولم نكن نشعر بتعب أو جوع أو عطش. وكنت آخذ زوجتى وولدينا الصغيرين ندفع بكرسيهما المزدوج أو عربتهما بين الحقول القريبة من أوكسفورد والقرى التى نمر بها، ونقضى من بعد الظهر إلى قريب من المغرب فى مشى وتوقف بين الحين والحين، ثم نعود منتشيين قد قضينا وقتا جميلا فى النزهة والقراءة والاستماع إلى صوت العرب فى راديو نقالى وأرجحة الولدين أو زحلقتهما فى كل أرجوحة أو زحلوقة تقابلنا فى القرى التى نمر بها، وقد نصلى أحيانا على جانب الطريق بجوار سور عشبى، ونتناقش فى كل شىء ونستمتع بالمناظر الطبيعية والجو الصيفى البريطانى البديع. وكانت زوجتى تقرأ كثيرا مما أحضره من كتب من مكتبة الكلية عربية وإنجليزية. هييييييييييه! أيام! وصرنا الآن عجوزين كركوبين ننتظر النهاية. متى؟ قريبا جدا على كل حال. وأنا أنتظر أن أعبر الفاصل الذى يفصل بين الدنيا والآخرة دون شعور بأى حزن كما كنت أشعر قبلا وأنا شاب، إذ أريد أن أعرف ماذا هناك على الجانب الآخر وأبث ما فى قلبى إلى الله سبحانه وأطلب منه السماح. وإذا أدخلنى ربى الجنة فرجائى، إذا كانت هناك قراءة، أن يوفر لى كاتوبا ومشباكا (كمبوتر ونت) ودار نشر تطبع كتاباتى وتنشرها ولو لى أنا فقط وزوجتى وأولادى حين يأتون إلينا. فمتعة القراءة ونشوة الكتابة مما لا يمكن وصفه، وهو مما "تجالدنا عليه الملوك" لو فهموا وعقلوا وعرفوا قيمته كما قال أحدهم يوما منذ زمن طويل. فاللهم اجعل خواتيم حياتنا طيبة، واغفر لنا تقصيرنا وأخطاءنا وعيوبنا، وهى كثيرة، فنحن عبادك، وأنت إلهنا، وتحبنا أكثر من آبائنا وأولادنا وأصدقائنا بل تحبنا أفضل مما نحب أنفسنا، ولا أتصورك تضعنا فى النار، فأنت رحيم كريم حليم غفور ودود تحب العفو. اللهم بارك فى أولادنا وأحفادنا وارأف بحالهم فى الدنيا والآخرة. آمين.

       *   *   *

مع شاب بياع سريح مفطر فى رمضان: 

ومن ذلك أيضا أننى، فى نهار رمضان منذ عدة سنوات، رأيت بياعا شابا يدخن وهو يبيع لى بعض الخضراوات. ولما كنت أشترى منه بين الحين والحين رأيت أن أداعبه لتدخينه علنا أمام الناس فقلت له: أيصح وأنت رجل ملء هدومك أن تدخن فى رمضان، وأمام الناس فى الظهر؟ فما كان من الشيطان إلا أن رد ردا أفحمنى وشغلنى بظَرْفه عن الاستمرار فى الكلام، إذ قال: ماذا أفعل؟ إننى أسلى صيامى! ترى بم كان يمكن أن أرد على هذا الظرف الأصيل المخرس؟ لقد خرست فعلا، وانتهى الأمر، وانصرفت وأنا أقهقه، وما زلت حتى هذه اللحظة أضحك دون أن أتمالك نفسى فأتوقف حتى لقد فكر أهلى فى إرسالى إلى العباسية، ونحن منها جِدُّ قريبٍ! وأحيانا ما أقول لنفسى ضاحكا أيضا: ألا يمكن أن يغفر الله لهذا البياع لقاء خفة ظله؟ ألم يقل الرسول: تبسمك فى وجه أخيك صدقة؟ إن هذا الشقى لم يبتسم فى وجهى فقط، ولا جعلنى أنا نفسى أبتسم فقط، بل جعلنى أقهقه. أقهقه يا عالم! أتفهمون معنى "أقهقه" فى هذا الزمن الكئيب؟ أولو كان الرسول حيا وسمع من ذلك العفريت هذا الرد أما كان سيضحك كما كان يفعل بسبب مقالب الصحابى نعيمان؟

وسوم: العدد 624