مع فراس حج محمد
كل حرف مما كتبه الأصدقاء يساوي عندي ألف ألف أغنية
خلال توقيع الكتاب الأخير للكاتب "فراس حج محمد" "كأنها نصف الحقيقة". قدمته وقد قرأت كل كتبه الصادرة حتى الآن والبالغة اثني عشر كتابا، وكتبت عن معظمها قراءات نقدية، فهو شاعر وناقد وناثر، ذو جوانب متعددة، فكان لي هذا الحوار معه، ليكشف للقراء عن معالم تلك الشخصية، ومكوناتها الإبداعية:
• لماذا يميل الكاتب إلى النصوص النثرية، أكثر منه إلى الشعر، علما بأن الشعر أرفع مكانة من النثر؟
- باعتقادي لا يوجد فنّ أرفع قدرا من آخر، فالمعوّل على الأسلوب والفكرة، واتحادهما معا، ربما يكون النثر أحيانا أكبر مساحة من الشعر في "الفضفضة" الذاتية المباشرة، وهذه بالضبط ما يضعف الشعر، لذلك حاولت في الكتابين الأخيرين "يوميات كاتب يدعى X" و"كأنها نصف الحقيقة" أن أكون على طبيعتي وألا أتصنع أو أداور أو أتكئ على المجاز، فاتجهت إلى النثر والنصوص القصيرة تحديداً.
• ما هي لحظات التجلي عند الكاتب لممارسة فن الكتابة، الفرح أم الحزن والقسوة؟
- ربما الكاتب كائن حزين بالفطرة، هل ثمة كاتب سعيد؟ ربما اجترحنا فرحا عابرا قصير العمر، فإذا جاءت تلك اللحظة عليّ ألا أكتب، أحب أن أعيش تفاصيلها وأتشبث بها قبل أن تتلاشى وتذوب، وأظن أن القسوة هي عصب الحزن، القسوة في كل شيء، ليس القسوة من هجر الحبيب فقط، بل قسوة الحياة ذاتها وصعوبة إدراك مراميها، ومحاولة التصالح معها، يجعل الكاتب قلقا، أو يجعله حزينا، ويدفعه لمدارة كل ذلك بالكتابة لينتصر أو يوهم نفسه بأنه ينتصر على كل ذلك الحزن الرابض فينا ليل نهار.
• هل وجد الشاعر نفسه بعد ديوان "وأنت وحدك أغنية"عاجزا عن تجاوز ما كتبه من قصائد فاتجه إلى النثر؟
- عند تأمل ما تكتب بعد أن يصبح كتابا منشوراً، تقف أمام ذلك العمل، كأنك لست كاتبه، وأنك لست أنت الذي فيه، من عادتي أن أعيد قراءة كتبي مرة أخرى بعد الطباعة، وأتأمل ما كتبت بعين القارئ، أحيانا أفاجأ بفظاعة الجريمة التي ارتكبتها بحق ذاتي واللغة والمعاني، وأحيانا تبهرني القصيدة أو جملة في نص، ولكن ديوان "وأنت وحدك أغنية" أقلقلني وجعلني في وضع لا أحسد عليه، فهو أنضج كتبي المطبوعة الشعرية والنثرية، ولم أستطع إلى الآن أن أكتب نصا يوازي نصوص ذلك الديوان، صدمت نفسي بنفسي فأصابني ما يشبه السكتة أو الردة. ماذا أصنع إذن؟ سأحاول تخطي هذا العمل الذي قلت فيه ما قلت إلى منطقة أخرى، أدرك أنني مقبل على مجازفة كبيرة، تعتمد على لغة أخرى ومجازات مختلفة. لعلني أنجح في تخطي الحد الذي وصلت فيه في هذا الكتاب.
وهذا ليس له علاقة بالنثر والاتجاه للكتابة النثرية، فمشروعي النثري دائرته خاصة ومجالاتها مختلفة، وإن ظهر أنها تتقاطع مع بعض الدوائر الجانبية فيما كتبت من شعر.
• هيمنة المرأة على كافة النصوص/ الشعر/ النثر، فديوان أميرة الوجد ديوان كامل لامرأة واحدة، ألا يعتبر هذا هروبا من الواقع إلى الحلم وإلى عالم المرأة وما تحمله من مفاهيم الراحة والنعومة والسكون؟
- عرفت المرأة بمعناها النفسي والروحي والعاطفي في فترة متأخرة من حياتي، فلم أعش في مراهقتي أي قصة عاطفية، وحتى المرحلة الجامعية، ربما عرفت من بعيد واحدة أو اثنتين، ولكن المرأة في تلك الفترة لم تدخل إلى العصب، وتفتت الروح كما حدث معي في عصر التكنولوجيا. وهنا لا بد من الاعتراف أن كل النساء اللواتي عرفتهن حق المعرفة بالبعد الأنثوي والعاطفي كانت علاقتي معهن افتراضية، وأشعلن قلبي افتراضيا، وعشت حالة من الجنون افتراضيا، وكأنني كنت أعيش وهما حقيقيا أو حقيقة موهومة، ولم تتطور أي علاقة من تلك العلاقات لتكون علاقة حقيقية، بقيت كما بدأت وماتت مثلما بدأت. بل على العكس فإن الواقع قد أبعدهن عني بعد المعرفة الشخصية، وكأنه ينطبق عليّ ما قاله درويش يوما: "هي لا تحبك أنت، يعجبها مجازك، وأنت شاعرها، وهذا كلّ ما في الأمر".
• إصرار الكاتب على عدم خوض تجربة قصصية كاملة أو روائية، ما هي الأسباب الحقيقية، علما بأن الكاتب يعتبر كتابة الرواية موضة عصرية، وهذا ينطبق في حقيقته على النص النثري المواكب لعصر الإنترنت؟
- السؤال معقد، وجدلي ربما، ويحيل إلى السؤال الأشهر لماذا يكتب الكاتب؟ لماذا تكتب القصة؟ ولماذا تكتب القصيدة أو الخاطرة أو الرواية؟ ولذلك لا جواب مقنع في كل هذا السؤال المفتت إلى مجموعة أسئلة بإمكان الواحد منا أن يفتتها إلى ما لا نهاية من الأسئلة المدببة.
لقد قلت سابقا أن الرواية موضة العصر، وهذا مشاهد، فكل الكتاب يريدون أن يصبحوا روائيين ويكتبوا رواية، ولكنهم لا يعلمون أن الرواية عمل معقد ويحتاج إلى معارف وأدوات ليس أقلها اللغة، هناك الخبرة الحياتية العميقة، والنظرة الفلسفية، والبناء المحكم، وتجاوز المنجز الروائي الحالي، والقفز إلى مناطق أخرى بكر مدهشة، كما أن الرواية تحتاج تفرغا لتعيش مع الأحداث والشخصيات، وإلى نفسية مستقرة إجمالا، وليس كشخصيتي المتقلبة كل حين، وهذا ليس بمقدوري فأنا سريع التقلب والتفلت، وعديم الاستقرار حتى لو لم أبرح مقعدي في السرير، وهذه الشخصية وهذه المزاجية في تصوري لا تصنع روائيا ناجحا.
• ما هو الدافع الرئيس للكاتب لإصدار هذا الكم وهذا النوع من الكتب (12) كتابا بين نصوص نثرية ودواوين شعر ونقد خلال عام واحد؟
- هذه الإصدرات الاثنا عشر كانت حصيلة ثلاثة أعوام، وليست في عام واحد، على الرغم من إن بعضها منجز قبل ست سنوات أو يزيد، وبسبب ما استجد من ظروف وتحسن الأحوال المادية، إذ إنني أصدرت أحد عشر كتابا منها على حسابي الخاص، فقد كنت معنيا بنشرها دون أن ألتفت إلى تراكم نسخها في غرفة نومي، أو أن تذهب هدايا للقراء والأصدقاء. فمنذ أن أقنعت نفسي بأنني (كاتب) قررت أن أصدر كل ما كتبت، ولم أخطط للتسويق أو الانتشار أو حتى الشهرة، حتى فكرة توقيع الكتب وإشهارها في ندوات خاصة لم أكن ألتفت إليها. أشعر أن ما كتبته يجب أن ينشر، فقط أن ينشر، حتى لو بنسخ محدودة مودعة في إحدى المكتبات العامة أو في مكتبة اتحاد الكتاب أو بيت الشعر أو وزارة الثقافة أو عند أحد الأصدقاء.
• من يبحث في محركات البحث الإلكترونية، يجد الكاتب قد نشر في العديد من المواقع الإلكترونية، وهذا من حقه، وقد كتب عنه الكثير من الكتاب والكاتبات، من هم أبرز الكتاب الذين كتبوا عن "فراس حج محمد"؟
- في الحقيقة كتب عني كتابٌ كثير، وليس هناك في نظري أبرز أو أقل بروزا، كلهم عندي سواء في مرتبة واحدة، وأجلهم جدا وأقدرهم، ومن اختلف معي قبل من اتفق معي، ولكن ثمة أمر يهمني جدا في مسألة القراءات بشكل عام، هي أن كل من كتب عني كتب عني لأنني بالنسبة إليه مقنعا، وجديرا بالكتابة، أقدر جيدا في المقام الأول بتحية خاصة مقدمي كتبي، إذ إنهم كتبوا عنها وهي في حالة احتمال قد لا تنشر، ثم من كتب عن كتاب أو أكثر، ثم من توقف عند نص أو قصيدة، وهناك كتاب وكاتبات كانوا مقدمين لكتبي وقارئين لكتب كاملة، وكذلك تناولوا بالكتابة بعض النصوص المفردة، فلكل من كتب عني ألف تحية وتحية، فكل حرف عندي يساوي ألف ألف أغنية.
• في الكتاب الأخير "كأنها نصف الحقيقة" وجدنا تراجعا في التأثير بالنص القرآني، هل يعود ذلك إلى تقدم الكاتب من مفاهيم وجد نفسه فيها، ويمكنه من حلالها التعبير عن نفسه أكثر؟
- المسألة ليست بهذه البساطة، فلست أتعمد الاقتباس من القرآن الكريم أو من غيره، وإنما هي لغتي التي شكلها القرآن الكريم والمعرفة الدينية تحديدا، فهي القاعدة الصلبة التي انطلقت منها كل معرفة، وكل فكر آخر هو مبني على تلك المعرفة ومنبثق منها، فعندما يحضر النص الديني يحضر تلقائيا يستدعيه اللاوعي ليدخل في النسيج الحيّ للنص، ليتساوق مع الموسيقى الداخلية والخارجية، ليخفى في النص، ولا يلتفت إليه سوى الناقد أو القارئ المتأني لأنه يندمج في لحمة النص كأنه روح النص وجسده، وليس لغة تكميلية لاستعراض العضلات الثقافية. ومن هنا ربما لم يكن مناسبا للغة كتاب "كأنها نصف الحقيقة" أن تستدعي النص الديني بلغته وآياته.
وسوم: العدد 664