مقابلة الدكتور محمد رواس قلعه جي
من هو الشيخ ؟
كان لقائي مع أ . د . محمد رواس قلعه جي وهو غني عن التعريف ، وأحد تلاميذ الشيخ محمد راغب الطباخ ، فقد عاصره وتأثر به كثيراً فأصبح علامة في الفقه له مؤلفات كثيرة في فقه السلف والموسوعة الفقهية الميسرة ، وفي الاقتصاد الإسلامي وغيرها من الكتب .. حاز على الجائزة الأولى العالمية للتقدم العلمي ، وهو عضو في عدد من المجامع الفقهية ، وخبير إدارة البحوث والموسوعات وله باع طويل في التدريس حيث درس في عدة جامعات درس فيها فقه العبادات وفقه المعاملات والقواعد الفقهية المشجرة ، كما أشرف على كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه نرحب أشد الترحيب بأستاذنا الفاضل ونشكره على تلبية دعوتنا وبدأت بالسؤال :
قلت : من هو الشيخ محمد راغب الطباخ ؟
قال : هو أستاذي وشيخي المؤرخ الفذ العلامة صاحب كتاب إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء وغيره من الكتب الكثيرة النادرة .
رجل تجاوز السبعين من عمره بل عاش اللحظات الأخيرة من حياته وهو رفيق كتاب ، باحث عن حلول لمسألة ما .
قلت : بم تمتاز شخصية الشيخ محمد راغب الطباخ ؟
قال : كان في شيخنا رحمه الله نزعة إلى الزهد والصلاح هي من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان مثال الأمانة والإخلاص والصدق والورع يتحرى في أفعاله رضا الله تعالى ..
وكان مثالاً للمثابرة والبحث والجد ، شغوفاً بالمطالعة حريصاً على التعليم ، وكانت له مكتبة نادرة تضم نفائس الكتب .
قلت : في ذلك العصر كان المتعلمون قلائل حيث إن طالب العلم يلاقي صعوبات ومشقات كثيرة ليحصل على العلم ، هل لديك لمحة عن كيفية تلقيه العلوم ؟
ـ قال : نعم وكثيراً ما ذكر ذلك أمامي .
ـ قلت : من فضلك حدثني .
ـ قال : قد أتم حفظ القرآن الكريم وتلاوته في الثامنة من عمره في أحد الكتاتيب المعروفة آنذاك ثم بدأ يتلقى أصول الكتابة والخط على يد الخطاط الشيخ محمد العريف ، ثم دخل المدرسة المنصورية وفيها تعلم مبادئ اللغة التركية والفارسية والإفرنسية بالإضافة إلى العربية وكان النور الذي يستضيء به هو السراج الزيتي .
ـ قلت بالإيجاز كيف كانت رحلة حياته بعد التعليم ؟
ـ قال : شيخي رحمه الله كان إقباله على الكتب والمصنفات وشغفه بالمطالعة والبحث وولعه بالعلم والعلماء ، لم يكن هذا الشغف يستغرق منه جل وقته ، ويصرفه عن أمور الحياة التي يعيشها فقد كان له نشاط بارز في ميادين الصحافة والتدريس والتوجيه والإصلاح مع ما يقتضي ذلك من تكوين العلاقات الاجتماعية الواسعة على الصعيدين الرسمي والشعبي .
وقد حظيت بمقالاته العلمية وتحقيقاته التاريخية صحف كثيرة عربية وإسلامية .
ـ قلت : هل استفاد المعاصرون من ثمرة رصيد علمه ؟
وما بعض المناصب الذي تولاها ؟
ـ قال : قد تولى مناصب عدة فقد عين في مجلس معارف ولاية حلب فانصرف إلى تدريس اللغة العربية والإنشاء والعلوم الدينية في مدرسة شمس المعارف ثم لما افتتحت المدرسة الخسروية عام 1921 انتدب لتدريس السيرة النبوية والحديث ثم التاريخ والثقافة الإسلامية .
وقد سمى إلى تعديل برامج هذه المدرسة الدينية بشكل يوافق روح العصر وعلومه الحديثة فقرر تدريس التاريخ الإسلامي والجغرافيا وقانون الحقوق الطبيعية وقانون الأراضي وأحكام الأوقاف وعلم الحساب والعلوم الطبيعية واللغوية ، وانطلاقاً من إيمانه بضرورة التوفيق بين علوم الدين والدنيا والتوفيق بين الحاضر والماضي للقيام بنهضة حديثة والتوفيق بين الحاضر والماضي للقيام بنهضة حديثة تخدم العرب والمسلمين ، كي يتخرج الطالب الشرعي عالماً بأمور دينه ، ملماً بشؤون دنياه مطلعاً على الكثير من المكتشفات العلمية والتي جاءت مصداقاً لما جاء به القرآن الكريم ، ومصداقاً لتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما تحدث عنه رجال الفكر الإسلامي الأوائل فيتجاوب مع العصر وينسجم مع المجتمع .
ـ قلت : أي العلوم نالت حظاً أوفر من اهتماماته ؟
ـ قال : كان مهتماً بالحديث النبوي وعنايته الزائدة بالحديث دعته إلى نشر كثير من نفائس كتبه .
ـ قلت : ما هي توجيهاته لطلابه خاصة والمثقفين عامة ؟
ـ قال : قد آمن أن المعاهد أداة للتوجيه وسبيل للعلم ومبعث للإيمان وكان يردد على مسامعنا ، ويل لعالم يتاجر بعلمه ، ويل لأمة يكثر فيها المعلمون ويقل المخلصون ، ويل لأمة كان معلموها غير مربين .
ما فائدة العلم إذا خلا من الخير ؟ ما قيمة العلم إذا تجرد من الإخلاص والفضيلة ؟ ما أهمية المدرسة إذا خلت من التوجيه والتربية ؟
إن الإنسان يولد على الفطرة ويتوجه نحو الخير بفضل التربية ، التربية هي الأساس في الحياة وهي أفضل من التعليم والتثقيف .
إن المعلم الذي لا يكون مربياً ومعلماً في آن واحد يخفق في أداء رسالته لأنه ينشيء جيلاً لا خير فيه ..
إن العلم والتربية متلازمان لا تفريق بينهما ولا انفصال بل هما كل لا يتجزأ بل إن التهذيب الخلقي وحسن السلوك قبل تلقي المعلومات وبحث النظريات .
ـ قلت : ما هو أسلوبه في التعامل مع الطلاب ؟
ـ قال : كانت حرية الطلاب عنده أساساً لنمو شخصيتهم التي ستنشئء منهم شباباً محرر الفكر ، ناجح العقل ، ذكي الفؤاد .
لذا لم يعهدوا به خلال إدارته للخسروية نيراً يطوق أعناقهم ، أو قيداً يمنع نشاطهم ، والتربية الحديثة اليوم تدعو إلى امتزاج الأستاذ بطلابه في جميع الميادين في الصنف ، والاستراحة والنزهة كي يلم بخصائص النفوس المختلفة ويسبر غورها ويدربها عن كثب فيستطيع بعدها أن يعالج مشاكلها وقضاياها معالجة صحيحة دقيقة قائمة على أساس الملاحظة .
كان رحمه الله إذا ما أنهى إلقاء دروسه التفت الطلاب حوله في الفرصة يسألهم أو يجيب على أسئلتهم ، أو يستمع لما يقولونه أو يبحث إحدى مشاكلهم بل كثيراً ما يخرج معهم في نزهاتهم إلى البساتين المجاورة ، لايمنعه وقار العلم أن يباسطهم أو يساجلهم بالشعر والابتسامة لا تفارق شفتيه والنكتة الحلوة لا تغارب عن باله .
ـ قلت : على ما يبدو ـ رحمه الله ـ كان محبوباً من الجميع ؟
ـ قال : نعم كان محبوباً من أكثر الناس لأنه كان ذا شخصية أنزلته في قلوب أهل عصره منزلة المحبوب المكرم تكريماً مادياً ومعنوياً .
ـ قلت : لماذا البعض لم يحبه ؟
ـ قال : كما في كل عصر يجد العلماء من يحاربهم فلقد حاربه بعض علماء عصره بالاختلاف في الرأي .
ـ قلت : ما علاقتك معه ؟
ـ قال : هو أستاذي وشيخي وموجهي كنت وبعض المجدين من زملائي في المدرسة نتسابق في تحصيل أسماء الكتب النادرة لنسأله عنها ولنعرف هل خلت مكتبته منها ، فكان جوابه دائماً هذا الكتاب يعالج قضية كذا وقضية كذا ويؤخذ عليه كذا وكذا ، وهو في مكتبتي وكثيراً ما كان يقول : ولي عليه تعليقات كتبتها في حواشيه .
كان بيت أستاذي بجوار المدرسة الخسروية المعروفة اليوم باسم الثانوية الشرعية ، وكان له كرسي كبير من القش ، يضعه في ظل مئذنة المدرسة الخسروية التي هي عبارة عن مسجد كبير تحيط به الغرف في الأروقة شأنه شأن المدارس القديمة لا يغير مكان هذا الكرسي أبداً .
وكان الشيخ يأتي من منزله في الصباح وكتابه بيده ، يجلس على كرسيه إلى قرابة الظهر ، وهو يقرأ لا يرفع نظره من الكتاب ، ثم يأتي ثانية من العصر فيجلس على كرسيه يقرأ في كتابه حتى المغرب ، هذا هو شأنه كل يوم وهذا ما يراه الناس منه دائماً .
وقف الدكتور عن الكلام قليلاً شارداً يرجع بذاكرته إلى زمن بعيد يتذكر الماضي ويتابع حديثه قائلاً : أحببت الشيخ حباً جماً ، وأحبني وكان يدرسنا الحديث والتاريخ وأجازني في الحديث ، وكنت أتردد عليه ، أجلس بجانبه كالقط الأليف بجانب صاحبه ، لا أنبس ببنت شفة ، وأتحرك بلطف حتى لا أزعج الشيخ في قراءته ، وتابع حديثه قائلاً : مرت الأيام .. فتلعثم فأجهش بالبكاء ووقف عن الكلام قليلاً وقد انهمرت الدموع من عينيه ، ثم تابع الحديث بصوت أجش شارداً كأنه يتصور طيف الشيخ حينما مرض واستبدت به العلة ولم يعد باستطاعته الذهاب إلى إلى المدرسة لإلقاء دروسه ، وأصدرت الدولة قرارات بقطع راتبه إن استمر في انقطاعه ولكن الشيخ الجليل الوقور المربي أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله مدير المدرسة الخسروية آنذاك عز عليه أن يصدر قراراً بقطع الراتب عن الشيخ دون أن تأخذ الدولة بعين الاعتبار علم الشيخ وجلالة قدره ، وعمره الذي أفناه في خدمة العلم والعلماء حتى كان كبار شيوخ المستشرقين يأتون من البلاد البعيدة ، من ألمانيا والنمسا وغيرها ليسألوه عن مسألة أو كتاب نادر مطبوع أو مخطوط ، فطلب منا المدير الوقور أن نذهب إلى بيته لنحمل العلم منه ، فكنا نلتف حول سريره ليعطينا الدرس المقرر لئلا يقطع راتبه ، كنا نراه وهو على فراش المرض والكتاب في يده والدر يتساقط من بين شفتيه كالؤلؤ النادر .
في يومه الأخير
وفي يوم عصيب علي دخلت على الشيخ في اليوم الذي توفي فيه ، وقد أحيط بالحشايا فرأيته وقد ثقل لسانه وتهدلت جفونه حتى لا يقوى على فتح عينيه إلا بصعوبة والنظارات المكبرة على عيونه ، والكتاب في يده يقرأ فيه سطراً أو سطوراً فيأخذ منه التعب مأخذاً ويضعف عن المقاومة فيسند رأسه هنيهة ثم يعود إلى القراءة ثانية فقلت : يا سيدي يا أستاذي لو تركت القراءة الآن وأرحت نفسك لكان أحسن فإنك تعاني شدة ، فرد علي بكلام لم أستطيع أن أفهمه بتفاصيله لما في لسانه من الثقل ولكني فهمت منه أن هناك مسألة ولا يرد أن يموت قبل أن يطلع على ما قيل فيها ، فذرفت عيناي الدمع ، وقلت له : إن كانت هذه رغبتك فاسمح لي أن أقرأ لك ، وأخذت الكتاب من يده ، وشرعت بالقراءة ، ورفعت نظري إليه فإذا هو مسند الرأس مغمض العينين فظننت أنه يسمعني ، وتابعت قراءتي فدخل ابنه ووجد أباه في غيبوبة فرجاني أن أغادر الغرفة فغادرتها وما هي إلا ساعة حتى بلغني نبأ وفاته .
رحمك الله يا سيدي يا من أكدت لي من جديد أن نبع الإيمان لن يجف ، وأن الخير لن ينقطع وأنه ستبقى هناك مشاعر نبيلة ما بقي هناك إنسان .
فشكرت شيخي أ . د . محمد رواس قلعه جي على هذا اللقاء وودعته قائلة : إلى اللقاء في معرفة عالم من علمائنا القدماء ليستفيد الجيل الناشىء من خبراته الطويلة ومسيرته العلمية الشائقة .
وسوم: العدد 706