تهافت الخطاب التطبيعي

يخشون تشغيل العقول أو استدعاء الضمائر، فعلى الجمهور الاكتفاء بهضم مقولاتهم التي تتفشى في الشبكات وتندلق من الشاشات إلى غرف الجلوس. يقوم المُكلّفون بترويض الجمهور العربي بوظائفهم بإخلاص، بانتقاء المفردات والتلاعب بالمصطلحات وحشد الذرائع بما يتلاءم مع مقاصد خطاب التطبيع وروحه، ومعهم جيوش إلكترونية تسهر على إغراق مواقع التواصل بمضامين مارقة من العقل والمنطق ومتمردة على المبادئ والقيم. لا فرصة لمناقشة هوس التطبيع المفروض "من فوق" والمدفوع بسطوة الضخ الدعائي المكثف، أما الأصوات الناقدة فقد يطاردها الترهيب والحجب إن تطلّب الموقف.

المراوغة والاستدراج

لا ينفكّ الخطاب التطبيعي عن المراوغة في مسعاه لاستدراج الجمهور إلى استساغة المروق الذي تبشِّر به "صفقة القرن"، فهو خطاب ذرائعي يغترف من فنون التضليل، حتى عندما يتمظهر في أساليب رصينة يتقمّصها متحدثون من مراكز دراسات مزعومة. وقد لا يتجلى الخطاب هذا مباشراً أو ظاهراً دوماً، فرسائله تأتي مستترة أحياناً أو مشبّعة بإيحاءات رمزية قد لا تستثير الملاحظة ابتداء، فهذا أدعى لتمريرها بشكل سَلِس وتحقيق التطبّع الجماهيري معها بالتدرج المرحلي مع التكرار والتثبيت.

يتحاشى هذا الخطاب المكاشفة والوضوح، لانتفاء الثقافة المجتمعية الداعمة لتوجهات التطبيع على مستوى الأمة وشعوبها ومجتمعاتها، بما يفرض عليه التسلل من النوافذ إن أعجزه الولوج عبر البوابة. وفي سبيل ذلك؛ تقع التضحية ببيادق صغيرة على الرقعة، كأن تقوم أسماء هامشية بالتعبير عن هوس التطبيع ومباشرة خطواته بالظهور في منصّة إسرائيلية مع ابتسامات عريضة يضنّون بها على الشاشات العربية، وهكذا يحمل الصغار الأوزار عن أسيادهم الذين يتحيّنون لحظة مواتية للظهور العلني في خنادق الاحتلال.

إنه خطاب التطبيع الذي يقوم على تفاعل متبادل بين أطراف؛ يقع بعضها في مربّع الهرولة العربي، إزاء ما يقع منها في مربع الاحتضان الإسرائيلي، علاوة على ضلوع أطراف على المسرح الدولي في إذكاء الحالة من وراء الشعوب. ليس من عجب، إذن، أن ينطق محسوبون على عواصم عربية بلسان صهيوني مُبين، ومعهم أشخاص اعتماديون على ما يُلقى لهم من فتات.

ما الذي يريدونه؟

تتعدد أحابيل الخطاب التطبيعي حسب السياق والحالة والأطراف، وتلتقي عموماً على تبرير التطبيع وتسويغه والتماس الذرائع والأعذار له، ومحاولة كسب الشرعية لتوجّهاته ونزعها عمّا يناهضها.

ومن مقاصد هذا الخطاب تكييف الوعي الجمعي، عبر تهيئة الأذهان للانزلاقات التطبيعية التدريجية، وإكسابها رصيداً معنوياً زائفاً. ولكبح مساعي مقاومة التطبيع، يجري الإمعان في تشويه رافضي التطبيع والتشكيك بهم، واتهامهم في ولائهم وانتمائهم الوطني والمبدئي، مع استدعاء وصمة "الإرهاب والتطرف" إن تطلّب الموقف، بكل ما يترتب عليها من تبعات عقابية.

وإذ يسعى هذا الخطاب للتيئيس والتثبيط من مقاومة التطبيع، وإحباط روح مساندة قضية فلسطين عموماً؛ فإنه يمنح الانطباع بتنامي "القبول الشعبي" بالحالة التطبيعية والالتفاف الداعم حولها، وتكفي السيطرة على اتجاهات التغريد الشبكي بوسوم مضلِّلة وجيوش إلكترونية لتكثيف الهالة الزائفة في الأذهان.

شيطنة التحرر وأنسنة الاحتلال

يميل الخطاب التطبيعي إلى التنصّل القيمي والمبدئي، وهذه توطئة للتنكّر للقدس وفلسطين. يجري في هذا السياق تقديم قضية فلسطين في صورة عبء لا مبرّر لمواصلة احتماله، مع إبراز التطبيع في هيئة ساذجة تمنح انطباعاً بأنه بوابة التقدم والازدهار ومفتاح اللحاق بركب العصر، دون مصارحة بعواقبه الفادحة التي ستدفع الشعوب والبلدان أثمانها من كرامتها وأمنها القومي وقوت أجيالها.

وفي مواجهة الوعي الشعبي اليقِظ وروح التمسك بالحقوق والعدالة والمبادئ؛ يحاول خطاب التطبيع الظهور أحيانا في لبوس الحكمة الواقعية، فهو يزعم الوعي بالواقع ويدّعي المرونة في التعامل معه، مع رمي الأوفياء للحقوق والعدالة بالتصلّب والتحجّر. هكذا يجري تقديم التطبيع في صورة التحاق برَكب وقع التأخّر عنه بلا جدوى، بما يفرض "تصحيح الخطأ، والبحث عن مصالحنا أسوة بغيرنا من الأشقاء"، مع الإيحاء بأنّ رافضي الهرولة محكوم عليهم بالعزلة والترهّل والخروج من العصر.

يستعمل بعضهم نبرة حتمية تقول بنهاية زمن وبدء آخر، فلا مجال عندهم لنبذ الاحتلال بل ينبغي نثر الابتسامات البلهاء على شاشاته. خرج جنرال عربي متقاعد ليحدِّث العالم بلسان إنجليزي متعلثم قائلا: "نتنياهو إز إز إز أَ غريت لِيدَر"، وعبارة أنّ "نتنياهو قائد عظيم" الركيكة هذه لم يحلم رئيس حكومة الاحتلال ذاته بأن يسمع مثلها من وزرائه وجوقته. تُفصِح تعبيرات الجنرال المبتسم عن عبودية طوعية للعدو، يراها بعضهم ضرباً من المازوخية السياسية.

ومقابل تشويه قضية فلسطين وشيطنة كفاحها العادل؛ تُباشِر جوقة التطبيع أنسنة الاحتلال العدواني واختلاق مفهوم وَدود عنه يصلح لأدلّة الترويج السياحي التي تضيق ذرعاً بصور واقعية عن الجدار العنصري وحواجز التنكيل ومعابر الإذلال ومشاهد الإعدامات الميدانية. فالوقائع العدوانية والحقائق الخشنة في تاريخ الاحتلال وسياساته وممارساته مُستبعدة تماماً من خطاب التطبيع الذي يُنشئ عالماً مفترضاً فاقداً الذاكرة ومنقطعاً عن الواقع. ويفتعل هذا الخطاب قواسم مشتركة متوهّمة مع نظام الاحتلال، وقد يأتي بعضها أحياناً تحت ستار لغة دينية مزيّفة ومضلِّلة، بما يراعي موقع الدين عند شعوب المنطقة.

وإذ يرفع خطاب التطبيع شعارات "السلام" الحالمة؛ فإنه يحرص في المقابل على إذكاء لغة الصراع، لكن على جبهات الداخل والإقليم، فهو يرى مصلحته في إبراز أولويّات صراعية مستجدّة، حتى بين العواصم الخليجية الشقيقة، لأجل تقديمها على قضية فلسطين، مع تعمّد النفخ في محارق طائفية وإقليمية ومحلية ومنحها الأولوية الملحّة؛ التي تقتضي، وفق هذا المنطق، تجاوز قضية فلسطين التي يقع تصويرها وكأنها تقادمت.

وزيادة على الإيحاء بالاتجاه العربي الحتمي نحو "مصالحة تاريخية" مع القاعدة الحربية الضخمة في فلسطين؛ يمضي بعضهم إلى نسج دواعي التماهي النفسي مع نظام الاحتلال؛ بافتراض وجود "عدوّ مشترك" بما يبرر الانزلاق إلى الخندق الإسرائيلي بمنطق "عدوّ عدوي صديقي!".

وقد يباشر هذا الخطاب التهوين من حالة احتلال فلسطين عبر حيلة المقارنات المُختزَلة والسطحية مع حالات صراع وعدوان أخرى، مثل استدعاء أعداد الضحايا أو مساحات أراضٍ تقع السيطرة عليها في حالات احتلال متعددة ونحو ذلك، وهو منطق ساذج يقضي بإغفال معظم قضايا العالم إن لم تحاكِ مساحة التيبت. يقع هنا إغفال خصوصية قضية فلسطين وتجاهل طابع العدوان عليها الذي يستند إلى مشروع دولي لا يستهدف فلسطين وحدها ولا ينحصر تأثيره في رقعة محدودة، بما لا يجعلها صراع حدود تقليديا كما يوحي به مروِّجو التطبيع.

وبينما يتنصّل المطبِّعون من مواثيق والتزامات مبدئية؛ فإنّ بعضهم يقدِّسون انهيارات التسوية ويعظِّمون مبادراتها التي تتجاهل قيم التحرّر والحقوق والعدالة. ثم إنهم يُسرِفون في منح أوسمة الشجاعة والإقدام والذكاء الاستراتيجي على هوسهم التطبيعي، ولا يفوتهم استعمال "شرعية تاريخية" مزعومة لتبرير مروقهم الراهن بسابق تجربة "نضالية" يتباهون بها؛ كي يتعالون بها على النقد والمساءلة، وسيرفع أحدهم عقيرته بالتحدي: "أين كنتم عندما كنا نقوم بكذا وكذا؟".

ليس خافياً أنّ بعض سِمات الخطاب التطبيعي تأتي أحياناً بدون قصد، ويمكن تشخيصها حتى في سياقات لا يُراد منها أن تكون تطبيعية، فلا يقضي الاشتراك في بعض السِّمات بصدورها عن مقصد تطبيعي ابتداء، لكنّ الفحوى من شأنها تعزيز الخطاب التطبيعي أو التضافر معه بدرجة أو بأخرى.

أحابيل التطبيع وطرائقه

لا يكتفي الخطاب التطبيعي بمستوى واحد أو بنبرة فريدة، فقد يأتي بأساليب اقتحامية أو هادئة، صادمة أو تدريجية، صريحة أو مستترة. فقد يُحمَل التطبيع بأسلوب اقتحامي يبدو مفاجئاً أو صادماً بطبيعته، وهو ما يتجلى مثلاً في إقدام مسؤول أو شخصية عامّة، من الدرجة الثانية أو ما دونها غالباً، على مواقف وتصريحات تطبيعية.

ويكتسب الأسلوب الاقتحامي تأثيره من كسر حواجز نفسية، وإشغال الجمهور بالقضية، واستثارة ردود مناوئة نحو جنرال متقاعد أو مسؤول مغمور أو شخصية من الدرجة الثانية أو ما دونها؛ مع إعفاء السياق ككلّ من المسؤولية عن الوِزر. وقد يقع هذا الانزلاق لتهيئة الأجواء لانزلاقات تتبعه، وقد يكون فقاعة اختبار لردود الفعل، أو يأتي ستاراً لتطبيع أعمق يجري تحت السطح. وتقوم الإرادة السياسية باستعمال هذا الأسلوب كي تنأى بنفسها عن مسلك يراه شعبها قذراً، فتلجأ إلى التطبيع بقفازات يمكن التخلي عنها إن تلطّخت بالأوحال، بما يشير إلى المصير البائس التي آلت إليه وجوه وقع استدراجها إلى خطوات تطبيعية عبر العالم العربي طوال أربعة عقود.

ومقابل الأسلوب الاقتحامي الصادم يأتي نظيره الهادئ أو الناعم، الذي يكتسب مفعوله من امتصاص الصدمات وتلافي ردود الفعل الجارفة، أو الأسلوب التدريجي الذي يأتي خطوة خطوة أو يتفاعل جرعة جرعة، والذي يُراهِن على تكييف الوعي الجمعي واستدراجه لاستساغة التطبيع بشكل ميسّر كي لا يستثير هبّة ساخطة.

ثمة أساليب فائقة النعومة تتيح تمرير المضمون التطبيعي غير الظاهر في سياق إيجابي يبدو نبيلاً، وهذا من قبيل تغليف السلوك التطبيعي بمقاصد "مبدئية" أو تعبيرات "وطنية"، وقد يقع هذا بسذاجة وحُسن نيّة أحياناً، مثل بعض دعوات زيارة القدس تحت الاحتلال بذريعة "الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني على الأرض"، مع إغفال الأبعاد الإشكالية التي ينطوي عليها التطبيق.

ثمة طرائق أخرى من التحايل، يجسِّدها الأسلوب التمهيدي مثلاً، الذي يعمد إلى تكييف الوعي بطريقة التسريبات غير المؤكدة، التي تُبقي خطوات التطبيع الفعلية موضع ضبابية وتأويلات لا يمكن الجزم بها، وقد تتكشّف حلقاتها بالفعل أو يقع الإقدام العلني عليها بعد أن تكون الذهنية العامة قد تهيّأت لها بما يكبح حدّة ردود الأفعال. ألا يبدو مثيراً للفضول في هذا المقام أن تتجاهل عواصم عربية فيض التقارير العبرية عن لقاءات وزيارات متكررة يباشرها مسؤولوها البارزون إلى مخادع الاحتلال من وراء شعوبهم، فلا تنفيها ولا تؤكدها؟

أما الأسلوب الاستباقي والردعي فيباشر التمهيد لخوض حفلة التطبيع بحملة تشويه ووصم لفلسطين ولمقاومتها، بغرض كبح ردود الفعل المتوقعة التي قد تستنفرها مساعي التطبيع ذاتها.

وثمة أساليب أكثر خشونة، منها النزعة الثأرية أو الانتقامية الذي تقدِّم الهرولة باتجاه نظام الاحتلال في هيئة انتقامية تثأر من موقف ما محسوب على الشعب الفلسطيني. وقد تجلّى مثل ذلك في سياق صدمات وصراعات وأحداث عرفها العالم العربي؛ كما يتجلى بقوة في التأجيج الدعائي عبر الشاشات والشبكات. لهذا يستمرئ بعض مروِّجي التطبيع مهاجمة الشعب الفلسطيني بشكل أعمى وإثارة الأحقاد والضغائن بين الأشقاء.

وقد يبلغ التسخين مداه بأسلوب الوصم والشيطنة، عبر جعل قضية فلسطين محسوبة على لون سياسي منبوذ أو تيار فكري مرفوض أو على دولة مناوئة أو على تجربة حكم معيّنة، فيستسهل مناهضو التيار ومناوئو الدولة ومعارضو التجربة إياهم إسقاط موقفهم هذا أو نظرتهم تلك على قضية فلسطين أيضاً، على نحو ساذج ولا يمكن تبريره. ويختزن أسلوب "وَصم القضية" في ذاته جاهزيةً أوفر لخوض تجارب تطبيعية "نكاية بالقضية" أو تحت إغراء تقديرات استراتيجية زائفة أو مصالح عارضة. وما يعزِّز هذا المنحى وفرة النمط الاستعمالي لقضية فلسطين في خطابات بعض العواصم، علاوة على تذرّع أطراف سياسية وأطياف فكرية بها، بما يحفِّز ردوداً ناقمة من مناوئيها تستهدف القضية أيضاً.

ذرائع لتبرير الانزلاقات

إنّ الخطاب التطبيعي هو، بالأحرى، خطابات متعددة الأشكال والتعبيرات تبعاً للمصدر والحالة والبيئة والجمهور والوسائل والسياقات؛ لكنّ مضامينها الرائجة تشترك في عناصر نمطية ذات منحى تبسيطي وساذج غالباً، وتتخللها تناقضات ضمنية. وواقع الحال أنّ مضامين الخطاب التطبيعي لا تهدف إلى الإقناع والاستمالة دوماً؛ بل قد تكون مقاصدها تبريرية ذرائعية، أو لدفع الاتهام عن أصحابها، أو للتعمية على مواقفهم بسُحُب دخان تحرف الأنظار عن الواقع.

يلجأ بعضهم مثلاً إلى مهاجمة الشعب الفلسطيني وازدرائه وتخوينه، في حيلة ذرائعية لتبرير التطبيع. من المألوف أن يقع في هذا السياق استعمال مكثّف لفرية ساذجة تقول إنّ "الفلسطينيين باعوا أرضهم"، وهو سطو على الحقيقة واجتراء على التاريخ لمجرد تبرير موبقات الحاضر التي تشمل الانزلاق التطبيعي إلى خنادق الاحتلال.

ويُطلِق أولئك المتحدثون مقولات من قبيل: "لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين!"، وقد يقولون: "ولِمَ لا نفعلها إن كانوا قد فعلوها؟!". إنها ذرائع واهية يقع الإسراف في إطلاقها دون فرصة نقاش عادلة.

ومن الشائع أن يعمد متحدثو التطبيع إلى لوْم الضحية بتحميل فلسطين مسؤولية الاحتلال الواقع عليها. يأتي ذلك، مثلاً، بالتذرّع بعدم الأخذ بنصائح "حكيمة" من عاصمة عربية، أو بالاحتجاج بـ"الانقسام الفلسطيني" واتخاذه مشجباً للتنصّل من القضية الفلسطينية، دون الجرأة على فحص ملابسات هذا "الانقسام" المدفوع إقليمياً ودولياً.

ومن مراوغات الخطاب التطبيعي أن يدفع الاتهام عن نفسه بمزاعم مُقابِلة عن ضلوع أطراف أخرى، محسوبة على أنها "وطنية" أو "إسلامية" مثلاً، بما يماثل ذلك أو يفوقه، بغرض التشكيك بحيدة اللوْم ونزاهة الاتهام، ودفعهما صوب وجهة أخرى، أو إظهار التطبيع حالة عامة بالأحرى لا يصحّ لوم الضالعين فيها. 

"شرعية النضال والتضحيات"

ليس نادراً تبرير موبقات الحاضر بصلاح الماضي؛ المفترض أساسا. فقد يلجأ بعضهم إلى "الشرعية النضالية والتاريخية" التي يتمسّحون بها للتغطية على توجهاتهم التطبيعية، ولتوظيفها بشكل عكسي عبر إقحام سابق البذل ضد الاحتلال في معرض تبرير لاحِق التصالح معه. وقد لا يتردد الخطاب التطبيعي الرسمي في النفخ في "التضحيات التي بذلناها لأجل فلسطين والخسائر التي تكبّدناها"؛ وأنّ الأوان قد حان "كي نلتفت إلى أنفسنا!".

ومن مراواغات هذا الخطاب تبرير ذاته بتصريحات ومواقف منسوبة إلى "محسوبين" على القضية الفلسطينية، بصفة تحفل بالتدليس والاختلاق وسوء الفهم أو إساءة التأويل أحياناً. ومن شأن ذلك أن يوفر غطاءً متوهّماً للتطبيع من جانب؛ وأن يشغل جهود مناهضته باحتواء هذه الذرائع الواهية على حساب التصدي للتطبيع ذاته.

ويَسُوق بعضهم مبررات ساذجة للتوجّهات التطبيعية، فهي تأتي عندهم بغرض "الضغط على إسرائيل!"، أو لأجل "تعزيز كفة الأطراف الراغبة بالسلام على حساب المتطرفين!" أو "لمنح فرصة للسلام!"، ولا يفوتهم القول إنّ الانزلاق إلى التطبيع هو "كي نستخدم نفوذنا لدعم أشقائنا الفلسطينيين!".

وتتذرّع الدول والحكومات في محاولة تبرير التطبيع بتوجّهات عربية أو دولية، لاسيما مبادرات التسوية السياسية (مثل المبادرة العربية للسلام لسنة 2002)، وأنّ انزلاقاتها جاءت "عملاً بالتوجّهات المقررة" أو "التزاماً بمقررات القمّة". وقد يذهب بعضهم إلى تقديم التطبيع في صورة استجابة لدعوات "أشقائنا الفلسطينيين" وتماشياً مع رغبات "القيادة الفلسطينية".

ولا يتوانى التضليل عن حشد مسوغات زائفة لتبرير ذاته بأي ثمن، باللجوء إلى اجتزاءات من النصوص المرجعية أو الوقائع التاريخية على نحو فجّ. يُباشِر بعضهم الاحتجاج التلفيقي المضلِّل والمدلِّس بآيات من القرآن الكريم أو مواقف من السيرة النبوية بنزعها من سياقها وإرفاقها بتأويلات باطلة. وتبلغ المفارقة مداها عندما يأتي هذا من متحدثين يطالبون بـ"فصل الدين عن السياسة".

كما يقع استدعاء وقائع منسوبة إلى تجارب تحرّر ونضال لدى أمم أخرى، بغَضّ النظر عن صدقية الشواهد أو سلامة منهجية الاستدعاء الانتقائي من خارج السياق أو صحة عقد المقارنة معها، فما يهمّ الوالغين في التطبيع هو الانتقاء التبريري لا العبرة الاستلهامية.

مصادرة الواقع والعقل

التطبيع عند مروِّجيه هو من مقتضيات "الواقعية"، وهو تعبير عن "الحنكة"، بما يعني ضمناً إلصاق ما يناقض ذلك من المصطلحات البرّاقة بالمواقف المبدئية الرافضة للاحتلال والعدوان.

وتجد بعض أبواق التطبيع فرصتها في افتعال نعرات وأحقاد وضغائن مع الشعب الفلسطيني، كما فعل وزير سوداني مثير للجدل في حكومته وحزبه، سعياً لتطويق حالة التعاطف الشعبي مع القضية ولمحاولة عزلها معنوياً وإظهار الواقفين معها في هيئة الخارجين عن الذات الجمعية "نحن" أو المتناقضين مع الهوية الوطنية ومصالح الأمن القومي.

تصعد في هذا الشأن نبرة متشنجة يطيب لها تشديد النكير على "الفلسطينيين"، مع التذرّع بمقولة "الخصوصية" التي تعني في هذا المقام الإعراض عن الالتزامات المبدئية والتنكّر لأواصر الأمّة بالتلازم مع التمسّح بعتبات الاحتلال. يقول هؤلاء إنّ "أولويات الوطن" تتقدّم على أي التزام آخر، لكنّ "وطنهم" هنا لا يعني الوطن الحقيقي على الأرجح، بل هو شعار مضلل للمروق من التزامات مبدئية، وقد يعني النظام السياسي أو الشخص الأوحد الممسك بخطامه دون مساءلة. لم يكن مفاجئاً في هذا الشأن أن تصعد شعارات "نحن أوّلاً" في زمن الهرولة نحو الاحتلال في تسعينيات القرن الماضي. وتُسمَع في هذا السياق تعبيرات من قبيل: "العرب خذلونا!"، "ماذا قدّم لنا العرب؟"، "علينا التفرّغ لأنفسنا!". ويُلاحَظ أنّ هذه النبرة استُعمِلت في الساحة الفلسطينية ذاتها لتبرير الانزلاق التبريري خلف "وعود السلام" الحالمة التي انتهت بالقضية إلى "ورطة القرن".

ومن أبرز النزعات الصاعدة في الخطابات التطبيعية الراهنة؛ التعويل على استثمار الاستقطابات وحالات العداء والخصومة المتفاقمة ضمن العالم العربي والإسلامي للتهوين من أولوية الصراع مع نظام الاحتلال أو لإرجائه أو لنفيِ مبرراته، مع تقديم أولويات صراعية داخلية وإقليمية على التناقض مع نظام الاحتلال. وبمعزل عن حقيقة ما يجري على الأرض؛ يتذاكى بعض الجالسين على التلّ بتسليط الاهتمام على أولوية صراع إقليمي أو طائفي أو محلي؛ لمجرد التخلص من عبء الالتزام المؤكد نحو القدس وفلسطين، ولتبرير التطبيع مع أرباب الاحتلال بالتالي.

وتبقى مشكلة مروِّجي الخطاب التطبيعي هي مع العقول إن وقع تشغيلها، ومع الضمائر إن جرى استدعاؤها، ومع الاحتلال إن باشر جولة قصف كفيلة بإنعاش الذاكرة وإظهار واقعه دون مساحيق تضليل.

 

وسوم: العدد 762