مصر وسَدّ النهضة 2+3
مصر وسَدّ النهضة
علاء الدين حمدي شوَّالي
ضبابية الواقع وتخوفات المستقبل (2)
أهم المحطات في علاقة مصر بإثيوبيا - 1
ـــ تحظى إثيوبيا بمشاعر خاصة لدى المصريين، سواء لإحتضانها الهجرة الأولى للمسلمين فى بداية البعثة النبوية الشريفة، وتقدير النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، لملكها النجاشى، أو لكونها الإمتداد لكنيسة الإسكندرية الأرثذوكسية الأم فى مصر.
ـــ وقد إمتد النفوذ المصرى في الجنوب من عهد محمد على باشا حتى بحيرة فيكتوريا بأوغندا، ومينائى زيلع ومصوع باريتريا، التي كانت جزءا من إثيوبيا، وظل هذا الوضع في حكم فاروق الذي كان يلقب، بعد إلغاء معاهدة 1936، "بملك مصر والسودان وأمير النوبة ومصوع وزيلع ودواخلها" أى بعض إثيوبيا، بمعنى أن إثيوبيا كانت محاصرة بحدود الدولة المصرية شرقاً وغرباً وشمالاً وأغلب الجنوب.
ـــ أيضا، إتسمت العلاقات المصرية الإثيوبية بالكثير من الشد والجذب على مدار التاريخ، فمع كل خلاف بين البلدين القديمين يخرج التهديد الإثيوبى بقطع مياه النيل عن مصر، مثلما أرسل الإمبراطور الإثيوبى مهدداً السلطان الظاهر بيبرس إذا أهان بطريرك الأقباط، الرئيس الروحى للكنيستين المصرية والحبشية.
ـــ أيضا تلك الحساسبة المفرطة للأقلية الأمهرية العرقية الحاكمة في الحبشة، حتى سقوطها 1974، على مرّ العصور تجاه مختلف الأعراق المساكنة والمجاورة، ومنهم المصريين والعرب، ربما لأن الدولة الإثيوبية توسعت على حساب جماعات بشرية تختلف معها فى الجذور واللغة والدين، مما أثار الشعور بالإستهداف الدائم والخوف من المتربصين، ذلك الذى دفع حكام الحبشة الى البحث عن التحالفات دائما، كالتحالف مع مختلف الدول الأوروبية في القرنين 16 و 17 ضد الدول الإسلامية المجاورة خاصىة مصر، ومنها تحالفها مع البرتغال 1508 م، الذى كانت أهم علاماته مشروعا برتغاليا حبشيا مشتركا، لقطع شريان مصر المائي بتحويل مجرى النيل الأزرق ذاته من الحبشة، والقذف به في البحر الأحمر، صحيح أن المشروع كان ضربا من الخيال، إلا أنه عبر عن نوايا الطرف الآخر.
ولعنا نعرف عن سيرة سيف بن ذي يزن، من عيون التراث العربي والمكتوبة في العصر المملوكي، والتى تدور في مجملها حول الحروب العربية الحبشية، وسنكتفى هنا بالإشارة الى العلاقة التاريخية فى عهود مصر الحديثة.
أولا: الفترة من 1822 الى 1935
ـــ عندما تولّى محمد على حكم مصر، ولأسباب عدبدة منها تأمين منابع النيل، أرسل حملاته العسكرية الى الجنوب ليضم أقاصى السودان الى الممتلكات المصرية، وتبعه الخديوى اسماعيل فواصل فتوحاته لتصبح الهضبة الإثيوبية على حدود مصر، ثم حاول اسماعيل السيطرة على العمق الإثيوبى فى عهد الملك يوحنا الرابع ملك إثيوبيا "1868 ـ 1876 م"، إلا أنه هُزِم فى معركة "جندت" 1875، التى تعتبر من الأيام المشهودة فى التاريخ الإثيوبى الحديث، حتى أن بعض المدافع المصرية التى غنمها الإثيوبيون، مازالت تزين الميدان الرئيسى فى مدينة أكسيوم عاصمة إثيوبيا التاريخية، كما أطلق اسم "جندت" على أرفع وسام عسكرى إثيوبى حتى الان.
تمكنت القوات المصرية بعد ذلك من إلحاق هزيمة قاسية بجيش "الملك حنا" فى معركة "قلعة جورا" مارس 1876، فى حملة راتب باشا التى شارك فيها أحمد عرابي، لتهدأ الأمور ثم تعود للإشتعال من جديد 1883 بعد الإحتلال البريطانى لمصر 1882، وبعد دخول بريطانيا كطرف له مصالح مائية فى ممتلكاته بالسودان، ثم تعود لتهدأ مع بدايات القرن العشرين بمعاهدة 1902.
خريطة مصر فى نهاية عهد الخديوى إسماعيل 1880 وحتى 1952
ـــ ثم شهدت العلاقات تحسناً ملموساً فى عهد "الملك فؤاد"، بعد حصول مصر على استقلالها 1922، ظهر فى زيارة الأميرة "مينين" قرينة ولي العهد الإثيوبي "الراس تفري، المسمى بالامبراطور هيلاسلاسي بعد توليه العرش، ثم زيارة "الرأس تفرى" نفسه في العام التالي سنة 1924، والتى لاقت ترحيبا رسمياً وشعبيا مصرياً كبيراً، وتبودلت فيها الزيارات بين الرأس وبين الملك فؤاد وسعد باشا زغلول رئيس مجلس الوزراء، وعبر الرأى العام المصرى عن ترحيبه بتحسن العلاقات في شكل تكوين جماعة سميت باسم "أصدقاء الحبشة" غرضها الدفاع عن مصالح مصر القومية وتنمية علاقاتها السياسية مع إثيوبيا.
ـــ أيضا لم تخل تلك الحقية التاريخية من مخاوف نيلية مصرية ظهرت بسبب إصرار بريطانيا على إخلاء الجيش المصرى من السودان، وبالتالى منع مصر عن تأمين النيل، وزادت بعد حادثة اغتيال السير "لي ستاك Lee "Stack، سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام إبان الحكم البريطاني المصري للسودان عام1924, الأمر الذي دفع اللورد اللنبي, المندوب السامي البريطاني فى مصر, إلي تقديم إنذار لرئيس الوزراء سعد زغلول تضمن سبعة مواد, كان أكثرها إيلاما لمصر المادة الخامسة التي جاء فيها: "أن تصدر مصر خلال24 ساعة الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصري المتجهة إلي السودان",
وكان أكثرها إثارة للهواجس النيلية, ما جاء في المادة السادسة, ونصها: "أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من30 ألف فدان إلي مقدار غير محدود تبعا لما تقتضيه الحاجة".
وهى المادة التى كلفت اللنبي منصبه في القاهرة فجأة, بعد أن تعجل في توجيه الإنذار دون انتظار موافقة لندن, التى كانت تعلم أنه أكثر ما يثير الهواجس النيلية عند المصريين, بكل ما يترتب علي ذلك من إشتعال روح المقاومة عندهم, إذ تصبح القضية مسألة حياة أو موت."
أزمة خزان تانا 1927
ـــ لم يمض أكثر من ثلاث سنوات على إنذار اللنبى إلا واشتعلت الهواجس النيلية مرة أخري 1927, وبشكل مختلف, نتيجة عقد أبرم بين شركة أمريكية وبين الحكومة الإثيوبية، لبناء خزان ضخم علي أكبر البحيرات التي تمد النيل بمياهه بحيرة "تانا" أو "تسانا"، كان بإمكانه إحكام القبضة الإثيوبية الأمريكية علي منبع النيل في النيل الأزرق.
وقتها ثار الرأى العام المصرى على إهمال الحكومة المصرية لتنمية العلاقات مع الحبشة، وزاد إشتعاله مع تكشف إبعاد المشروع وكيف أن الخارجية الأمريكية على وشك الموافقة عليه فى إطار المنافسة مع بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كان المخطط أن يتم بيع المياه لبريطانيا لتروى أملاكها فى السودان دون إعتبار للضرر الواقع على مصر!
ـــ إمتد القلق الى بريطانيا, التى نلاحظ أن بعض الإعلام فيها سلك نفس مسلك بعض الإعلام المصرى فى أزمة سد النهضة حالياً من محاولات تسفيه للمشروع، متذرعاً أن النيل عند خروجه من بحيرة تانا يجري في أخدود عميق ضيق, وأن المناطق المحيطة بالبحيرة, عبارة عن مستنقعات وبرك لا تصلح لاستخدام مياه الري، فى حين استندت بعض الصحف البريطانية، من زاوية قانونية، الى تجاهل حكومة أديس أبابا لإتفاقية 1902 بينها وبين بريطانيا، والقرار الذي اتخذته عصبة الأمم, أنه "إذا قامت أية دولة بمشروعات تتعلق بقوة مياهها, وكان لهذه المشروعات تأثير في قوة المياه بالدول المجاورة فعلي هذه الدولة أن تفاوض جيرانها قبل الشروع في أي عمل قد يضر بمصالحهم" ليتراجع الأمريكيون فى النهاية بعد فشلهم فى إقناع بريطانيا، وليس مصر.
ـــ لم تهدأ المخاوف المصرية بتراجع الأمريكيين، مما دفع بالحكومة المصرية، وزارة إئتلافية، ممثلة فى شخص عثمان محرم باشا، وزير الأشغال، الى تبريرات، مشابهة تقريبا لما يطلقه البعض أيضاً حول حالتنا اليوم، من أن النيل الأزرق لا يستمد مياهه كلها من بحيرة تانا، وإنما يستمد معظمها من النهيرات العديدة التي تصب فيه وتغذيه.
فرد عليه الأمير عمر طوسون المهتم بالنيل
قائلاً " قد يكون المشروع في مصلحة مصر لأنه سيؤدي إلي تنبهها لما يضرها وما
ينفعها, ويجب أن نأخذ الحيطة لأن النيل من منبعه إلي مصبه يجب أن لا تتحكم فيه يد
أجنبية وأن يكون الإشراف والسيطرة عليه لمصر وحدها ما دامت حريتها مرتبطة به
ارتباطا وثيقا منذ بدء الخليقة إلي الآن".
كما صرح مصطفي النحاس باشا, قائلاً "إن إنشاء سد علي مخرج بحيرة تانا دون أن يكون
لمصر دخل فيه، وبغير أن توضع شروطه وشروط تصريف مياهه، باشتراكها فيه اشتراكا يضمن
لها حقوقها الثابتة في مياه النيل الأزرق, عمل يعرض حياتها للخطر, فليس في
استطاعتها أن تقره أو تسكت عليه."
بينما جاء رد المتخصصين ممثلا فى مهندس الرى إبراهيم زكي, الذى تولي وزارة الري في أواخر الستينات ولعب دورا هاما في بناء السد العالي، ردا فى مقال نشرته الأهرام على مرتين يومي11 و12 نوفمبر عام1927, تحت عنوان "بحيرة تانا- خرافة تاريخية"، عدد فيه أسبابا يمكنها تبديد مخاوف المصريين النيلية من المشروع، ربما تستحق أعادة النظر فى الأزمة الراهنة، فقال:
إن حجز مياه البحيرة سبع سنوات متتالية معناه إعلاء منسوب مائها أكثر من تسعة أمتار, وهذا يؤدي إلي غرق كل الجزائر بما فيها من مبان, ولن يكون أمام سكانها سوي الرحيل أو الموت غرقا، وتصبح البحيرة بركة ماء راكدة ومصدرا للحميات القاتلة لبقية سكان الحبشة.
يترتب علي سد البحيرة جفاف ثلاثة مجاري كانت مصدرا لمياه للبلدان إلي مسافة عشرين كيلومترا.
سد مخارج البحيرة بالتراب وما يتصل بذلك من دوام عملية الترميم, خصوصا بعد سبع سنوات, أمر لا يمكن للأحباش تحمل نفقاته الطائلة.
ما يمكن أن تتعرض له البلاد الواقعة علي ضفتي النيل في السودان وجنوب مصر عند فتح الخزان بعد عدد من السنوات, إذ تنبأ بضياع مدينتي الخرطوم وأم درمان ثم ضياع مصر السفلي كلية في أقل من عشرة أيام
لن تشعر مصر إطلاقا بحجز هذه المياه إذا لاحظنا أن مياه النيل تتغير بفروقات هائلة من عام لآخر, والذي وصل عام1916 إلي60 ألف مليون متر مكعب بينما كل ما يصل إلي مصر من البحيرة زمن الفيضان لا يتجاوز2500 مليون متر مكعب.
ـــ ورغم ذلك، استمرت المفاوضات سرا بين بريطانيا وإثيوبيا وشركة هوايت الهندسية الأمريكية، ربما كنوع من السياسة الذكية لإفشال المشروع، وانتهت الى عقد مؤتمر يحضره مندوب كل من السودان وإثيوبيا والشركة الأمريكية للتفاوض في شأن الخزان، ورفضت بريطانيا مشاركة مصر فى المؤتمر، ثم عادت ووافقت مقابل مساهمة مصر مادياً في تكلفة تنفيذ المشروع.
وبمجرد أن علم الرأي العام المصري بعودة هذا المشروع مرة أخرى حتى ثار وشن هجوما شديدا عليه، ورغم الهجوم استمرت الحكومة المصرية، بينما ظلت الحكومة البريطانية تؤجل قرار بناء الخزان، ليتم الغاؤه مع الحرب بين إيطاليا وإثيوبيا سنة 1935
ـــ وهكذا يتضح أن بريطانيا اتبعت كل الوسائل لتأجيل بناء الخزان حماية لمصالحها، وان كانت في نفس الوقت لم تظهر ذلك، بل أظهرت اهتمامها الصورى به حتى تحافظ على مصالحها ونفوذها من الأطماع الدولية والأمريكية تحديداً.
ونستكمل فى الحلقة القادمة، إن أراد الله، ثم أذن مضيفونا وكان فى العمر بقية.
مصر وسَدّ النهضة
ضبابية الواقع وتخوفات المستقبل (3)
أهم المحطات في علاقة مصر بإثيوبيا ـ 2
مصر والحرب الايطالية الإثيوبية
ـــ شهد العام 1896 ، المواجهة الأولى بين إثيوبيا وإيطاليا وأسفرت عن هزيمة الايطاليين في موقعة عدوة، ورغم ذلك، وبعد وصول الفاشيست الى الحكم في ايطاليا، إندلعت الحرب مرة أخرى بين البلدين أكتوبر 1935، وزارة عبد الفتاح يحى باشا فى مصر، لتقع إثيوبيا تحت الإحتلال حتى بدايات أربعينيات القرن الماضى.
ـــ وبعد إندلاع الحرب، اتبعت الحكومة المصرية، وزارة محمد توفيق نسيم باشا، سياسة الحياد بين الدولتين، إيطاليا وإثيوبيا، نظراً للعلاقات التى تربطها بهما معاً، فى حين كان الرأي العام المصري منحازاً بالكامل مع إثيوبيا من منطلق العلاقات التاريخية والدينية، وإعتبر المصريون، وبمنتهى الوعى، أن تهديد إيطاليا لإثيوبيا هو تهديد لمصر وأمنها، خاصة وإيطاليا تحتل ليبيا على حدود مصر الغربية، ومعنى إحتلالها لإثيوبيا أنها إحتلت أيضاً الحدود الجنوبية الشرقية لمصر، مما يسهل على حكومتها الفاشية أن تحقق هدفها وتهديد مصر والسودان، وبريطانيا أيضاً دولة الاحتلال، عن طريق إثيوبيا وليبيا، وأن منابع النيل الإثيوبية ستسقط في أيدي الايطاليين.
ـــ دفع ذلك الوعى بالشعب المصري لإظهار تعاطفه مع إثيوبيا ومساندة موقفها، فإحتج على حكومته عندما وقعت مع إيطاليا إتفاق تسهيلات جوية يتجدد كل ستة شهور، كما إحتج على ترحيل العمال المصريين، الذين استأجرتهم الحكومة الايطالية، للعمل في مستعمراتها في شرق أفريقيا، في بناء المنشآت العسكرية لإستخدامها في الحرب ضد إثيوبيا، فأجبر الحكومة المصرية على إلغاء جوازات سفر هؤلاء العمال ومنع ترحيلهم.
كما إحتج الرأي العام المصري أيضاً على التسهيلات التي قدمتها الحكومة المصرية، في تخفيض أجور السفر في السكك الحديدية، لنقل العمال الايطاليين من مدينة الاسكندرية الى السويس، وكذلك سماحها بتأخير عربات النقل في هذه السكك الحديدية، لنقل المؤن والذخائر الحربية الى السويس، تمهيدا لنقلها الى إريتريا حيث تجرى الاستعدادات الحربية لغزو إثيوبيا.
ثم دخل الرأي العام المصري مرحلة جديدة في تأييده لإثيوبيا، بدأت بنداء الى الأمة المصرية لمد يد العون لاخوانهم الإثيوبيين، فقدمت التبرعات، وتوالت طلبات التطوع في الجيش الإثيوبي، كما أعلن فريق من الضباط المصريين المتقاعدين رغبتهم في السفر الى إثيوبيا للانضمام الى جيشها، بصحبة مهندسين وصناع طلبوا التطوع في الحرب أيضاً.
إضافة الى المظاهرات الضخمة لتأييد قضية إثيوبيا، فى رسالة مفادها أنه على المصريين أن يثبتوا للعالم أن مصر ما زالت حية تدافع عن جارتها من غير ضعف أو تعاون، وأنه يجب عليها أن تكون خصما ثالثا، وعلى الحكومة المصرية أن تستعد بالدفاع عن البلاد وتمنع كل تسهيل يقدم لإيطاليا من أى نوع.
ـــ وعندما نشبت الحرب الايطالية الإثيوبية بالفعل، في الثاني من شهر اكتوبر 1935، دخلت اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة مرحلة المساعدة المادية المباشرة لإثيوبيا، وتقرر إنشاء صندوق للتبرعات ولجنة لفحص طلبات الأطباء والصيادلة والممرضين، والاتصال بمخازن الأدوية والصيدليات للتبرع بالأجهزة والأدوات الطبية، وشرعت الهيئات العلمية والدينية والتجار والطلاب في إرسال النداءات الى أعضائها، تستحثهم على المبادرة بالمعونة المادية، كما تقرر سفر الأمير اسماعيل داود الى إثيوبيا تلبية لدعوة الإمبرطور هيلاسيلاسي، ولكي يكون أيضا حلقة إتصال بين اللجنة العامة، والحكومة الإثيوبية في كل ما له علاقة بالبعثات الطبية التي تقرر إرسالها الى إثيوبيا، وسافرت البعثة الطبية الأولى مع الأمير اسماعيل داود في 24 اكتوبر 1935 أى بعد 22 يوما من اندلاع الحرب.
وظل الشعب المصري يقدم كل ما يستطيع أن يقدمه لمساعدة إثيوبيا في أزمتها، بل ضحى بأحد أبنائه من الأطباء الذين كانوا يعملون في البعثات في سبيل الزود عن إستقلال إثيوبيا، وقام بتشييع جنازته في القاهرة في احتفال مهيب عظيم كأنه مات عن مصر نفسها، كان هذا هو موقف شعب مصر الرائع الأصيل.
ـــ أما من جهة الحكومة المصرية نفسها فقد ظلت متبعة سياسة الحياد، حتى نشبت الحرب فعلا، فوجدت نفسها أمام تيار الرأي العام المصري الجارف المؤيد لإثيوبيا، وأطماع ايطاليا التي بدأت تتحقق في الخطوة الأولى منها بإعلان الحرب، ثم شجعها تحرك بريطانيا ضد إيطاليا، فتخلت مصر عن حيادها وتورطت رسمياُ في الأزمة الدولية، وأصبحت معرضة لعداوة ايطاليا التي إحتجت بشدة لدى الحكومة المصرية، على تنفيذها للعقوبات التي فرضتها عصبة الأمم عليها
وبدأت الحكومة المصرية في ضوء هذه المتغيرات، الى المساهمة بدورها في دعم المجهود الشعبي المصري الذي كان يبذل لصالح إثيوبيا، فأعفت البعثات الطبية والمعونات الطبية المسافرة الى إثيوبيا من دفع اجور السفر والنقل كما إعترفت باللجنة العامة للمساعدة الطبية للحبشة، وقدمت احتجاجا رسميا الى الحكومة الايطالية على ضرب المستشفى المصري بأديس ابابا بالقنابل أثر هجوم جوي ايطالي .
وإستمر الدعم المصرى حتى عاد الإمبراطور هيلاسلاسى من المنفى 1941، بعد إنتصار القوات البريطانية والإثيوبية على القوات الإيطالية عام 1941، ولكن لم تستعد إثيوبيا السيادة حتى توقيع الإتفاق الأنجلو- إثيوبي ديسمبر 1944.
الفترة بعد الثورة المصرية 1952
ـــ أيقنت مصر، جمال عبد الناصر، أن إفريقيا هى عمق الأمن القومى المصرى، فدعم ناصر بشدة إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية 1963، مستفيداً من أيدولوجياته التحريرية وتحوله الى زعيم إفريقى كبير، وربما عمل على أن يكون مقرها فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا توطيداً للعلاقة مع إثيوبيا، فربطته بالإمبراطور هيلاسيلاسى علاقات صداقة ومودة، تلاشت معها المحاولات الإثيوبية التاريخية المتكررة لإستخدام مياه النيل كورقة ضغط، إضافة الى البعد الدينى فى الدور الكبير للبابا كيرلس بطريرك كنيسة الإسكندرية وقتها.
يقول عبد الناصر عن إثيوبيا:
"نحن بلدان متجاوران فى قارة ضرب عليها الإستعمار نطاقه لتكون له دون أهلها كالبقرة الحلوب، ونحن شريكان فى هذا النهر الخالد الذى يفيض الخير والبركة على شاطئيه من هضبة الحبشة إلى المقرن من أرض السودان إلى المصب فى البحر المتوسط، فكل ذرة من ذرات ذلك الماء المتدفق فى مجراه بين المنبع والمصب تتناجى همساً بأمانى مشتركة تلتقى عندها عواطف المصريين والسودانيين والأحباش جميعاً، إننا اليوم وقد صارت أمورنا بأيدينا، فقد وجب علينا أن نلقى أضواء على الحبشة، وأن نوثق علاقات الإخاء والمودة بيننا وبين الشعب الذى تربطنا به أوثق الصلات منذ أبعد أعماق التاريخ"
ورغم ذلك فقد شاب الأمور بعض التوتر أحياناً، خاصة فى فترة الخمسينيات او مع الإعلان عن بناء السد العالى، قبل أن تعود وتستقر، نسبياً، خلال فترة السيتينيات.
الفترة بعد حرب أكتوبر 1973
ــ كان للدول الافريقية، وفى مقدمتها إثيوبيا، دور مشرف أثناء حرب73 في الوقوف بجانب مصر، حيث ساعدت في إغلاق باب المندب لمنع الإمدادات الجنوبية لاسرائيل وأعلنت أن الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية هو إحتلال عنصري وبغيض.
إلا أن مصر، السادات ثم مبارك، لم تستفد من ذلك الموقف الإستراتيجي الرائع للأسف، ولكن زادت ثقتها في الجانب الافريقي أو ضمنت نواياه تجاهها، فى الوقت الذى كان يأمل هذا الجانب وينتظر الكثير من مصر الكبيرة، سواء فى مجالات التعليم والتنمية والتثقيف الدينى، أو فى كونها جسراً للدعم العربى الاستثمارى والتمويلى.
ولكن للأسف، شهد الواقع إهمالا مصرياً شديدا ترك أثره علي العلاقات المصرية الافريقية على وجه العموم، خاصة مع تركيز مصر جهودها الديبلوماسية علي الدول العربية، بعد إتفاقية كامب ديفيد، غير منتبهة أن هناك 52 صوتا لحلفائها الأفارقة في الأمم المتحدة، ستحتاجهم عندما ترغب في إستصدار اي قرار تتطلع إليه.
ـــ وبعد سقوط الحكم الإمبراطورى الإثيوبى 1974 وتولى "منجستو هيلاماريام" للحكم والتحول بإثيوبيا الى الأيدولوجية الشيوعية، عند هذه النقطة انتهت التبعية الروحية والعملية للكنيسة الإثيوبية مع الكنيسة الأم فى مصر، وضعف النفوذ المصرى تماماُ، زاد منه إنضمام مصر الى ما عرف وقتها بـ "تحالف سفاري" المضاد للمد الشيوعي عام 1975 ، والمكون من الولايات المتحدة ومصر والمغرب والسعودية وكينيا وإيران، حيث إعتبره "منجستو هايلا مريام" مؤامرة مصرية موجهة ضد إثيوبيا، حتى أنه في خطبة جماهيرية له عام 1979 حطم زجاجة مملوءة بالدم على إسمي مصر والسعودية، متوعداً الدولتين بالحرب والإنتقام وقطع ماء النيل عن مصر، وقوبل هذا التهديد برد عنيف فورى حاسم من الرئيس السادات، أعلن فيه إستخدام السلاح الرادع لمن تسول له نفسه شيئا من ذلك، فإلتزم منجستو الصمت، لعدم موائمة الظرف السياسى، وعدم وجود حلفاء غربيين لمساندة نظامه الشيوعى بطريقة علنية.
ثم كانت محاولة الإغتيال الفاشلة للرئيس الأسبق مبارك فى أديس أبابا 1995، تلك التى أخرجت العلاقات الإثيوبية من دائرة الحسابات المصرية، بعد أن خرجت منها الحسابات الإفريقية ، أو كما سنستكمل فى الحلقات القادمة، إن أراد الله، ثم أذن مضيفونا وكان فى العمر بقية.