التحرش الجنسي سلوك متوارث وليس طارئا
كتب وتساءل وبحث كثيرون حول التّحرّش الجنسي والأسباب التي تقف وراءه، وواضح أنّ هناك تفاوتا بين الشّعوب في قضيّة التّحرّش، بسبب التّفاوت والاختلاف بين الثّقافات، وما يهمّنا هنا الالتفات إلى هذه القضيّة في ثقافتنا العربيّة الشّعبيّة، ومع أنّ قضيّة التّحرّش الجنسي تصدر من الجنسين الذّكور والإناث، إلا أنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن الانسان عندما يسمع مصطلح التّحرّش أنّ المقصود به هو تحرّش الذّكور بالإناث، لأنّ غالبيّة هكذا أحداث تكون بمبادرة من الذّكور، بسبب التّربية الذّكوريّة، مع ضرورة الانتباه أنّ الغالبيّة العظمى من الشّعوب هي مجتمعات ذكوريّة، تضطهد المرأة، فقبل عدّة عقود صدر كتاب للفنّانة الأمريكية أنجيلا ديفيس، وهي تنحدر من أصول افريقية، وصفت فيه معاناة المرأة الأمريكيّة، وما تعانيه من اضطهاد" بأنّها تشبه حالة معاناة السّود في الأنظمة العنصريّة مثل التي في جنوب افريقيا" ووقتذاك لم تكن جنوب افريقيا قد تخلصت من نظام الفصل العنصريّ.
ومعروف أنّ المجتمعات الذّكوريّة تضطهد المرأة، وهذا الاضطهاد يتفاوت بتفاوت مدى ترسيخ العقليّة الذّكوريّة بين شعب وآخر.
ومن البدهيّات أنّ أمّتنا العربيّة مجتمعات ذكوريّة بشكل طاغ. لذا فإنّ الأنثى غير مرحّب بها منذ ولادتها، بل وهي جنين في رحم أمّها بعد تطوّر الطّبّ ومعرفة جنس الجنين قبل أن يولد، وهذه ظاهرة معروفة حتّى قبل الاسلام، فقد جاء في القرآن الكريم:" وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚأَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ".
وفي ثقافتنا الشّعبيّة لا يوجد للمرأة أيّ قيمة انسانيّة، بل إنّ وجودها مرفوض، وسعيد من يخلّف الذّكور ولا يخلّف البنات، لأنّ البنت ليست خلفا، لذا فإنّ من أنجبت بنتا أو أكثر يدعون لها ولزوجها بالخلف الصّالح، والمقصود ابن ذكر أو أكثر، وبناء عليه فإنّ من لم تنجب أبناء ذكورا تتحمّل مسؤوليّة ذلك! وقد تتعرّض للطلاق أو لزواج زوجها من أخرى. وهذه المواقف مدعومة من الثّقافة الشّعبيّة التي لا يزال بعضها سائدا حتّى يومنا هذا، لذا فإنّ شرط حماية استمراريّة الحياة الزّوجيّة للمرأة هو أن تنجب أبناء ذكورا، "الاولاد اوتاد"، وعدم انجاب البنات وحتّى وفاتهنّ أمنية اجتماعيّة،" اللي بتموت وليته من حسن نيته"! وإذا ما وُلدت البنت فإنّها لا تحتاج إلى رعاية كالابن الذّكر،" البنات مثل خبّيزة المزابل"! أي تنمو وتكبر بسرعة دون رعاية، وتدليل البنت من الكبائر" دلّل ابنك بغنيك، ودلّل بنتك تخزيك"! ومن المفارقات المحزنة " ابنك لك وبنتك لغيرك"! و"خير ابنك لك، وخير بنتك لغيرك"!
وعلينا الانتباه لحكاياتنا الشّعبيّة، هذه الحكايات التي يسردها الآباء والأجداد على مسامع الأطفال، هي في غالبيّتها حكايات جنسيّة، ويتمّ الحديث فيها عن الجنس بشكل صريح وواضح.
ونظرا لهذه القسوة غير المبرّرة بحق الأنثى، فإنّ النّساء وعبر أجيال قد ارتضين الدّونيّة، ولتخليص فلذات أكبادهنّ من الاضطهاد ومن المصير الذي ينتظر الأنثى، فإنّهن لا يحببن انجاب البنات هنّ أيضا، ويربّين أبناءهنّ تربية ذكوريّة أيضا، ويغرسن في أذهانهم أفضليّة الذّكر على الأنثى بدءا من طفولتهم المبكّرة، تماما مثلما يغرسن من جهة أخرى الدّونيّة في أذهان بناتهنّ، ومن السّهل على المرء أن يرى طفلا أو رجلا ذكرا يأمر أخته التي تكبره عمرا، وقد يكون عمرها أضعاف عمره أن تقدّم له خدمة مهما كانت بسيطة، في حين لا يحصل العكس.
وبناء على التّربية المجتمعيّة الذّكوريّة، فإنّ المرأة تفاخر بانجابها طفلا ذكرا، وتواصل افتخارها بعضوه الذّكريّ حتّى وهو في المهد، ومن أغاني الهدهدة التي تغنيها الأمّهات لأبنائهنّ الذّكور:
"والزّبرة زبرة عطــــــــــا نايمة تحت الغطـــــا
ولا تحسدي يا حاســـــــده وهذا ربّي اللي عطـى
والزّبرة زباريــــــــــــــها والرّحمن امباريهـــــا
والدّار اللي هي فيهــــــــا بتطبّ البركه فيهـــــــا
وتواصل فخرها بابنها الذّكر وتهدهده فرحة مسرورة في حين تعيب على البنت أنّها أنثى:
والزّبرة زبرة قنفد بتخزق الحيط وبتنفد
ويا جاره ظبّي بنتك
هذا ربّي اللي عطا
والزّنبور لا شاف سرور
بطلع صاغ وبرجع مقعور
ويلاحظ أنّ الأمّهات يكنّ في غايات السّعادة عندما ترى الواحدة منهنّ عضو طفلها أو حفيدها منتصبا لامتلاء مثانته بالبول، وكأنّها بهذا اطمأنّت على فحولته المستقبليّة.
ونظرة فاحصة لأغاني هدهدة كهذه، فإنّها تعتبر نوعا من التّحرّش الجنسيّ بطفل بريء، مع التّأكيد أنّ هذا التّحرّش بريء هو أيضا، وإن كانت تكمن خلفه رغبات جنسيّة غير مقصودة.
وما يهمّنا هنا أنّ هكذا "ثقافة شعبيّة" يتبعها مسلكيّات لافتة، ومنها أنّ الابن الذّكر لا عيب عليه، حتّى لو مشى عاريا، في حين أنّ الطّفلة كتلة من العيب متنقّلة، فلا يسمح لها أن تتصرف بطفولتها البريئة كما يسمح لشقيقها الذّكر، وحتّى الملابس، فإنّ ملابس الطفلة يجب أن تكون "ساترة". حسب ما يرتئيه الكبار.
وهذه التّربية تأخذ أبعادا أخرى، فمثلا "الذّكر رجل أينما ذهب وارتحل، ولا عيب عليه" حتّى لو اغتصب امرأة في مرحلة عمريّة مهما كانت امرأة فلا شيء يعيبه، بينما العيب على المرأة المغتصبة! وهكذا "ثقافة" تشجّع بصورة وأخرى ظاهرة التّحرّش بالنّساء، والتي قد تصل إلى الاعتداء على الجسد وقد تصل درجة الاغتصاب.
ومع كلّ ذلك وبناء على هذه التّربية، ورغم نظرة المجتمع "الدّونيّة" للمرأة فإنّ الرّجل العربيّ يفهم "الشّرف" من خلال ما بين فخذي المرأة، ومن هنا تحصل جرائم ما يسمّى "الدّفاع عن شرف العائلة" والذي تذهب ضحايا له أرواح بريئة، وكثير من هذه الجرائم قد تكون بسبب إشاعة كاذبة، وقد ثبت بتشريح جثث بعض الضّحايا أنّهن قتلن وهنّ عذارى، والنّظرة الدّونيّة للأنثى هي المسؤولة أيضا عن قضايا سفاح القربى، والمرأة هي الضّحيّة دائما، ومن البشاعة بمكان أنّ هناك من يقتلن تحت شعار "شرف العائلة" بعد تعرّضهنّ للاغتصاب، في حين أنّ المجرم "المغتصب" ينجو من القتل". ومن جهة أخرى فإنّ القاتل قد ينجو من العقاب، أو يعاقب بالسّجن لأشهر قليلة، لأنّ القوانين المعمول بها تحميه، ويجري اسقاط تهمة القتل عنه بتنازل وليّ أمر القتيلة عن حقّه، وهذا بحدّ ذاته تشجيع على هكذا جرائم.
ومن ناحية أخرى فإنّ " ثقافة" ربط الشّرف بما بين فخذي المرأة، تحصر "مفهوم "الشّرف" بالمرأة دون الرّجل! فأين شرف الرّجال؟ وهل ارتكاب الموبقات كخيانة الوطن، السّرقة، الكذب، تعاطي المخدّرات....إلخ خارج نطاق الشّرف؟
إنّ اختلال العلاقة بين الذّكر والأنثى نتيجة للثّقافة المجتمعيّة، وما يصاحب ذلك من كبت جنسيّ، والبعد عن التّثقيف الجنسيّ العلميّ والدّينيّ في المدارس وحتّى الجامعات هي أساس في عمليّة التّحرش الجنسيّ، الذي هو ليس حكرا على الذّكور فقط، بل يتعدّاه إلى الإناث أيضا، وإن كان بشكل أقلّ بسبب التّربية الذّكوريّة.
وسوم: العدد 765