مسيرة العودة بركان فلسطيني إعلامياً ووطنياً
اختلف إحياء الشعب الفلسطيني لذكرى يوم الأرض الثانية والأربعين هذا العام عما سبقه من إحياءات ، وعلى عادتها ، كانت غزة هي التي صنعت هذا الاختلاف ، فَشُكلت " الهيئة الوطنية العليا للمسيرة " من الفصائل وممثلي اللاجئين ، ونُصِبت عشر خيام كبرى في خمسة مواقع على حدود القطاع مع الوطن المحتل ، ونصبت بعض العائلات خياما صغيرة تخصها ، وشارك مئات الآلاف من الفلسطينيين في الاحتشاد في تلك المواقع . اختلاف الإحياء هذا العام دفعت إليه الأحداث التي تتصل بالقضية الفلسطينية ، وفي قلبها اعتراف إدارة ترامب في 6 ديسمبر الماضي بالقدس عاصمة لإسرائيل في خروج على الإدارات الأميركية السابقة ، وعلى اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل الذي يقضي بتأخير النقاش حول مصير القدس إلى مرحلة " الحل النهائي " . ويضاف إلى قرار ترامب شعور الفلسطينيين بأن أحداث الربيع العربي الكاذب صرفت الاهتمام العربي عن القضية الفلسطينية ، وإن كان الصرف قد خص الأنظمة لا الشعوب العربية التي تفصح كل الشواهد بقوة أنها رغم رداءة وفواجع أحوالها الوطنية ما زالت ترى القضية الفلسطينية هما قوميا لا يجوز الانصراف عنه ، وأن هذا الهم وثيق الصلة بما يصيبها هي ذاتها من شدائد التآمر الغربي والإسرائيلي عليها ومآسيه . ومن مظاهر اختلاف إحياء ذكرى يوم الأرض هذا العام عما سبقه أن منظمي مسيرة العودة خططوا لتواصله حتى 15 مايو القادم ، أي حتى الذكرى السبعين لإقامة إسرائيل باغتصاب الوطن الفلسطيني ، ويسمع حديث عن جعل الإحياء ممتدا دائما وإنْ بزخم أقل ، وربما تنتهي المسيرة بزحف شعبي عارم إلى العمق المحتل ، وهو الكابوس الأخطر الذي ترتعب منه الآن إسرائيل . ما الذي يمكن أن يجنيه الفلسطينيون من هذا الإحياء المختلف لذكرى يوم الأرض ؟
أولا : سيكون هذا الإحياء بركانا إعلاميا يشد أنظار العالم إلى فظاعة وغرابة الجرم الذي اقترفته قوى العالم الكبرى مع الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني باغتصاب وطنه التاريخي ، فيجلب بعض التعاطف والتأييد لهذا الشعب . وسيصيب هذا البركان بحممه الإسرائيليين الذين استناموا إلى روايتهم الباطلة أنهم جاؤوا إلى أرض خالية كانت لهم ذات تاريخ سحيق ، وأن الفلسطينيين الموجودين الآن فيها أولاد عمال قدموا من الدول العربية للعمل في المستوطنات اليهودية قبل " الاستقلال " وقيام إسرائيل ! ومن محاسن الأحداث أن يوم الأرض رافقه هذا العام تقديم نائب رئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة معطيات سكانية صعقت الإسرائيليين ، وفحواها أن الفلسطينيين بين النهر والبحر أكثر من اليهود عددا ، وهي كثرة تحققت منذ سنوات ، وتحدث عنها بيريز رئيس إسرائيل الراحل ، وأشرت لها أكثر من مرة في مقالات سابقة ، والإسرائيليون يتجاهلونها في مستوياتهم الرسمية والإعلامية تجاهل العالم بها تخوفا من تبعاتها المعنوية والسياسية السيئة على مواطنيهم .
ثانيا : تحذير القائمين على مؤامرة " صفقة القرن " بأن الشعب الفلسطيني جاهز عازم على وأد مؤامرتهم ، وأن أي حل لا يقبله لا يمكن أن يكون ، وأنه لا يقبل حلا لقضيته إلا العودة إلى أرضه ، وأن على الذين اقترفوا خطأ اغتصاب وطنه أن يصححوا خطأهم بأنفسهم ، وليس على حساب مصيره . ومن المفارقات المستحقة للنظر والاعتبار أنه في الوقت الذي يحتشد فيه الفلسطينيون قرب حدود أرضهم المغتصبة نسمع أن بعض مستوطني تلك الحدود قد هربوا إلى مدن داخلية في فلسطين المحتلة طلبا للسلامة والأمان ! ومفارقة أخرى تاريخية : بعد النكبة الفلسطينية نصبت للفلسطينيين بمعونة دولية خيام لجوء ، وهاهم اليوم ينصبون بأنفسهم خيام التحدي والأمل والعودة ، و " خيمة عن خيمة تِفْرِق " مثلما تقول إحدى شخصيات غسان كنفاني الروائية .
ثالثا : وغزة مع جراحها الكبيرة النازفة تهب للشعوب العربية التي نكبت بلادها في أحداث الربيع العربي القاتل الكاذب ؛ القدوة الهادية والأمل المتوهج بأن هذه الشعوب يجب أن تقاوم بإرادة حازمة وبأس شديد المؤامرات الغربية والإسرائيلية على أوطانها ، وهي ، هذه الشعوب ، تملك من الطاقات ما هو أوفر ، ومن الظروف ما هو أيسر بما لا يقارن مع طاقات وظروف غزة .
والأهداف الثلاثة السابقة وسواها لن تتحقق بتلقائية وسلاسة ، فإسرائيل التي ارتاعت من مسيرة العودة حشدت لمواجهتها طاقات ووسائل كثيرة . هنا إرادتان متصادمتان ، ومصيران متعارضان ، ويبدو الصراع بينهما معادلة صفرية لا وسطية فيها ، وهذا يُلزمنا بأن نمكن المسيرة من تحقيق تلك الأهداف وما قد يزيد عليها ، وأول اللازم ألا نمنح إسرائيل سهولة إفشالها بأن يتجنب المشاركون في المسيرة الاحتكاك المباشر بالقوات الإسرائيلية المتحفزة على الحدود لقتل وجرح بعض المشاركين ، والمحزن أن هذا ما حدث ، فاستشهد في أول يوم للمسيرة 16 فلسطينيا ، وأصيب ما زاد على الألف . ليس من الشجاعة ومن الحكمة أن تهب عدوك سهولة قتلك أو جرحك دون سبب . أكثر المشاركين شبان وصبيان لا يحسنون تقدير الخطر ، ولعل بعضهم يجهل قيمة الحياة ، وإذا تعزز هذا الجهل بالشعور بالمرارة والسخط تضاعف الجهل بقيمتها ، وهؤلاء الشبان والصبيان دماؤهم فائرة ،وأعصابهم ثائرة ، وهو ما يحبذ لهم الاقتراب من الجنود الإسرائيليين المتحصنين خلف السواتر الترابية العالية . لكي تحسن مواجهة عدوك فكر بطريقته ! وانظر إلى نفسك مثلما ينظر إليك ! الإسرائيليون يرون قتل الفلسطيني والتخلص منه هدفا مصيريا ، فلماذا نسهل لهم تحقيق هدفهم القبيح الشرير ؟!
مسيرة العودة بركان فلسطيني إعلاميا ووطنيا ، ومعركة على الوعي بيننا وبينهم ذاتيا وعالميا ، فلندعه يحقق أهدافنا منه ! ولنجعلهم الخاسرين في هذه المعركة !
وسوم: العدد 766