الفلسطيني الجديد في السياسة بعد الأمن
د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين
ما فعلناه هو بناء رجال جدد"، تلك العبارات هي زبدة خطاب ديتون عندما وقف متفاخرا في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط عام 2009، وهو يستعرض مهمته في صناعة جيل أمني فلسطيني جديد، لا يمكن أن يكون مبعث تهديد "لإسرائيل"، مقتبسا في خطابه الشهير ذاك كلمات ضابط فلسطيني كبير خاطب أفراد الأجهزة في حفل تخريج أمني: "لستم هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل".
وهو ما عقّب عليه ديتون في حينه بالقول "جعل هذا التغيّر ضباطاً في الجيش الإسرائيلي يسألونني: كم من هؤلاء الرجال الجدد تستطيع أن تصنع؟"
لا يمكن أن يغيب ذلك الخطاب وتلك المهمة عن الحضور في ذهن المتابع للمشاهد المتناقضة على الساحة الفلسطينية:
إذ كيف يمكن أن يفهم "الفلسطيني القديم" مشهد استنفار الحرس "الفلسطيني الجديد" وهو يفتش الحقائب الأكاديمية "للفلسطيني القديم" على مداخل قاعات مؤتمر علمي يفتتحه رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، بينما يصمت صمت الأذلاء عندما يتعرض المستوطنون لموكبه وهو في طريقه إلى رام الله متوجها إلى مكتبه السلطوي الذي يتغول فيه.
وكيف يمكن أن يفهم "الفلسطيني القديم" مشهد إطلاق النار من قبل "فلسطيني جديد" يطارده لأنه يعتبره خارجا على القانون السلطوي كما حصل في بيت لحم قبل أسابيع، وفي غيرها من مدن الضفة الغربية، بينما ينهض ذلك "الفلسطيني الجديد" بدوره الأمني على أكمل وجه، وهو يحفظ دماء أي مستوطن يتمرد على سيادة السلطة الموهومة، ويدخل مناطقها متحديا قانونها وقانون الاتفاقيات المخزية التي أنتجت هذه السلطة.
لا يمكن تفسير تلك المشاهد المتناقضة إلا باستحضار ذلك التعبير اليهودي المؤلم، الذي أصبح النص المؤوِل لتلك المشاهد الأمنية والسياسية المتناقضة للسلطة الفلسطينية.
وهذا المقال يعرض اجتهادا جديدا في سياق ذلك النص (!)، مستنبطا صفات جديدة للفلسطيني الجديد على المستوى السياسي، بعدما تم تجسيد الفلسطيني الجديد على المستوى الأمني، وهو يحمي أمن الاحتلال فيما يتجبر بالناس، ويسترخص إزهاق أرواحهم في مشاهد كثيرة: منذ استمرأت السلطة الفلسطينية قتل "الفلسطيني القديم" عندما احتج على مؤتمر أنابوليس كما فعلت في الخليل عام 2007، أو وهو يستفرد به في المقار الأمنية، يحقق معه بتهمة التسلح، والاستعداد لممارسة الكفاح المسلح، الذي كان شعارا للمنظمة قبل نجاح عملية إنتاج "الفلسطيني الجديد".
ولو أراد ديتون أن يختبر جودة منتجاته اليوم في أية عينه عشوائية، لأثبت كل ساعة أن صناعته فعالة على المستوى الأمني، ولكنه اليوم يمكن أن يتفاخر بنجاح آخر في مهمته الأمنية، حيث يتخلل النفس الديتوني وتسري معه تلك الصفات الجينية المهجنة إلى وجدان الساسة والقادة الجدد لما يسمّى بالمشروع الوطني، وهم يشكلون نماذج متجددة لهذا الفلسطيني الجديد: الذي يستأسد على أهله بينما يستخذي أمام جنود الاحتلال ومستوطنيه، تماما كما حصل مع رئيس حكومة فتح الدكتور رامي الحمد لله، بعدما سخر به وبموكبه السلطوي مجموعة من المستوطنين وبعض جنود الاحتلال.
ولو حاولنا فهم سياق هذه العملية الإنتاجية (الفاسدة)، لوجدنا أن خميرة عجينتها تعود إلى عقود سابقة، وإن هذه الولادة المسخ هي نتيجة سلسلة من الانبطاحات لمنظمة التحرير، والتهجين الأمني لرجالاتها:
فقد أنتجت أمريكا البويضات التي تولد عنها ذلك "الفلسطيني الجديد" ضمن حاضنات مشروع حل الدولتين، وأعلنت عنها بوضوح عند انطلاق مشروع ريغان في أيلول عام 1982 الذي عبّر عن المطالب الأمنية في نصوص صريحة، عندما نص على "إجراء انتخابات حرة لاختيار سلطة فلسطينية للحكم الذاتي"، تهدف إلى "إثبات أن الفلسطينيين قادرون على حكم أنفسهم، وأن مثل هذا الحكم الذاتي لا يشكل تهديدا لأمن إسرائيل"، حيث تكون فيه المفاوضات من أجل "التوفيق بين المطالب الأمنية المشروعة لإسرائيل والحقوق المشروعة للفلسطينيين"، حسب ريغان. وهو ما يعتبر اليوم تصويرا حيا لهذا الواقع السلطوي المخزي؟
وهو تماما ما عملت منظمة التحرير بحسبه على ترويض "الفلسطيني القديم"، بعدما أشعل الانتفاضة الأولى بعفويته، بينما كانت هي تحمل شعلة الركض نحو المطالب الأمنية لليهود، وذلك منذ أن انعقد المجلس الوطني في الجزائر في تشرين الثاني 1988، والذي أجاب فيه المجلس الوطني على مقتل خليل الوزير "أبو جهاد" رحمه الله (بما يحمل من رمزية للكفاح المسلح) برد فتح باب الانبطاح الأمني، وتبنت فيه المنظمة عملية تخصيب بويضات إنتاج "الفلسطيني الجديد"، فأبدى المجلس الوطني (في الدورة التاسعة عشر) استعداده الكامل لحفظ أمن الاحتلال ضمن الحل السياسي ونصت مقررات المجلس على "ترتيبات الأمن والسلام لكل دول المنطقة"، فاجتمعت فيه الإشارة الرمزية في الصمت عن قتل قائد الكفاح المسلح، وفي تقبّل التخصيب الأمني الجديد.
ولذلك لم يكن غريبا على المنظمة التي اختزلت قضية فلسطين سياسيا من مشروع تحرر إلى مشروع حكم ذاتي مسخ يعفي الاحتلال من مسئولياته ويجعله احتلالا رخيصا في اتفاقية أوسلو الأولى، أن تتبعها باتفاقية أوسلو الثانية التي وُلد على أوراقها ذلك الفلسطيني الجديد، بعدما تحرك في أحشاء المنظمة لسنوات ظلت خلالها تخادع الفلسطيني القديم بالطهر بينما كانت تتكتم على حمل العهر.
ومكنت تلك الولادة المشوهة الفلسطيني الجديد من هضم سموم اتفاقية الخليل عام 1997 التي وضعت الرتيبات الأمنية لحماية المستوطنين فيها، ثم بلع اتفاقية واي ريفر (The Wye River Memorandum) عام 1998، التي بلغ فيها الفلسطيني الجديد سن المراهقة الأمنية، وتمكن من الإفصاح عن الانخراط في مواجهة ما أسماه "الإرهاب"، تحت إشراف المخابرات الأمريكية.
ثم تتابعت الإبداعات الأمنية لهذا الفلسطيني الجديد، وصولا إلى خارطة الطريق (عام 2002)، ومن ثم تعاقب الجنرالات الأمريكيين على قيادة وتدريب ذلك الفلسطيني لتنفيذ مهامه الأمنية، واشتهر منهم ديتون الذي وصفه البعض بأنه "زعيم فلسطين" الجديد!
ومع نجاح عملية التهجين لإنتاج ذلك الفلسطيني الجديد تحول خوف المستوطن الذي كان يقود سيارته متلفتا ذات اليمين وذات الشمال متخوفا من "الفلسطيني القديم" إلى عربدة، فصار الفلسطيني القديم هو الذي يسير على الطرقات متحسبا من هجوم المستوطنين عليه، بعدما حاصره الفلسطيني الجديد وحمى أولئك المستوطنين.
لقد نجح رامي الحمد الله في "تربيع الدائرة" السياسية، عندما كسر الأعراف الأكاديمية وسمح لحرسه بتفتيش حقائب الأكاديميين، وأكمل التربيع المستحيل أكاديميا (ونظريّا للعارفين بمعضلة تربيع الدائرة رياضيا)، وذلك عندما جسّد حرسه منطق الخنوع للمستوطنين وجنود الاحتلال في مقابل منطق العربدة على الأكاديميين (الذين نشأ الحمد الله فيهم وبينهم)، ليطلق نموذج السياسي الجديد الذي يسير تحت نعال الفلسطيني الجديد في ثقافته الأمنية.
ولذلك يمكن ل"مجموعة الأزمات الدولية" أن تعتبر الحمد الله إنجازا جديدا يضاف إلى تقريرها القديم عام 2010 الذي حمل عنوان: "تربيع الدائرة: إصلاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحت الاحتلال"، حيث يمكن أن تضيف المستحيل الأكاديمي والسياسي –في سلوك الحمد الله وسلطته- إلى ما سطرته من صناعة المستحيل الأمني.