عَمَارةُ الأرْضِ..وَتَسّخيرُ الكْونِ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

من حكمة الله تعالى..ومن بدائع صنعه سبحانه..أن جعل عمارة الأرض وتسخير مكنونات الكون مهمة جميع الخلائق..حتى إذا تخلفت أو تقاعست أمة من الأمم عن النهوض بشرف أداء هذه المهمة والتكليف الربَّانيّ الجليل..تقدمت للنهوض بمسؤولياتها أمة أخرى..وهكذا لتبقى عملية العمارة والتسخير العظيمة ماضية -بمشيئة الله تعالى- إلى ما شاء الله جلَّ جلاله..وبين يدي إنجاز وتيسير أسباب تحقيق هذا التكليف الربَّانيِّ المقدس لقوله تعالى:"إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"ولقوله تعالى:"هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"اقتضت مشيئته سبحانه أنْ:

جعل الأرض سكناً للخلائق كُلِّها كما في قوله تعالى:"وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ"وأودع فيها أرزاقهم كما في قوله تعالى:"فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ"وجعلها ميدان عبوديتهم وأنشطتهم وإبداعاتهم كما في قوله تعالى:"قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ".  وأقام سبحانه مبدأ الحاجة بين النَّاس..فلا يستطيع أحد من الأفراد أو المجتمعات أن يستغني عن أحد..حيث وزعَّ أرزاقه وقدرات عباده سبحانه بين النَّاس على امتداد الأرض..كما في قوله تعالى:"أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا". وأقام جلَّ شأنه مبدأ التَّسَاخُرِ بين النَّاس لقوله تعالى:"وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا". وأهلَّ الله سبحانه النَّاس وأعدهم للنهوض بما كلَّفهم به من مهام لقوله تعالى:"رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ"وأكد ذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:"اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ". وقرر جلَّ جلاله أن النَّاسَ شركاء في الانتفاع بخيرات الأرض والكون كما في قوله تعالى:"وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ". وقرر تباركت أسماؤه مبدأ احترام مشروعية الانتفاع المتبادل بمكنونات الكون..وفق مبدأ إجلال قدسيَّة حق التملك للأفراد والمجتمعات.

أجل إنَّ عمارة الأرض وتسخير مكنونات الكون..لصالح قدسيَّة حياة النَّاس كُلَّ النَّاسِ..ولصالح إجلال كرامتهم وحرياتهم ومصالحهم..ولصالح صون قُدسيَّة سلامة البيئة بشقيها(المادي والمعنوي).إنما هي منَّةٌ ونعمةٌ ورحمةٌ من الله تعالى بالعباد كلَّ العباد..فالنَّاسُ في الحياة الدنيا شركاء في التمتع والانتفاع بهذه النعمة بلا استثناء لقوله تعالى:"مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ"أما الآخرة فلها أحكامها وقواعدها ومعاييرها وضوابطها وفق مشيئة الله تعالى..لذا ينبغي على المجتمعات أن تُوطِّن تربية أجيالها في الحياة الدنيا..على بناء ثقافة الإخاء الإنساني والتعايش ولتكامل والتعاون والتنافس مع غيرهم..من أجل العمل معاً على عمارة للأرض والكون..وهذا لا يعني بحال من الأحوال إلغاء الخصوصيَّات والارتقاء بها بكلِّ أنواعها..فإعداد كفاءات ومهارات أجيال كل مجتمع..وبعث روح الإنماء والتطوير والابتكار والإبداع في ثقافتهم وأدائهم..إنما هو أمرٌ قُدسيٌّ يؤهلهم ويجهزهم للنهوض بمسؤوليات التكليف الربَّاني الأقدَّس في المساهمة والمشاركة بمسؤوليات النهوض بقُدسيَّة عَمارةِ الأرضِ وتسّْخيرِ مكنونات الكون لصالح الجميع..والله المستعان سبحانه.

وسوم: العدد 771