قصصُ العُروج(63)
*أرواحُ الأمم*
*الأهلية الروحية:*
يعترف الإسلام بأواصر الدم وقرابات الرحم، لكنه يجعلها ثانوية في مقابل أواصر الروح وأخوة الدين، ولهذا عندما ظهر الطوفان وركب إخوة الدين السفينة ولم يجد نبي الله نوح ابنه قال منادياً ربه: *{ربي إن ابني من أهلي ...}*، فقال له الله: *{يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}* [هود: 46]، ولا تعارض بين الأمرين لأن نوح يتحدث عن ابنه الذي تَحدَّر من صُلبه، والله يوجهه إلى أن النّبُوّة لا ينبغي أن تقيم للبُنُوَّة وزناً ما دام صاحبها كافراً، ويذكر بأن الكفر "عمل غير صالح"، ذلك أنه يمحق سائر الأواصر ويسحق كافة العلائق.
*المفهوم الروحي للأمم:*
مثلما لم يُقِم القرآن وزناً لبنوة الدم في نموذج ابن نوح، فعلى يد نوح نفسه علّمنا القرآن أن الأمم لا تقام على أواصر العرق والجنس بل على روابط الدين والثقافة، فهناك أمة الهداية وأمة المعروف وأمة المنكر، ألا تبرز لنا هذه المعاني بجلاء من قوله تعالى: {قيل يا نوح اهْبطْ بسلام منا وبركاتٍ عليكَ *وعلى أُمَمٍ ممَّنْ معك وأمَمٍ سنُمتِّعهم ثم يَمسُّهم منّا عذابٌ أليم*}؟ [هود: 48].
*رابطة الإيمان:*
عندما يكون الإيمان حاضراً فإنه يُسهِّل الصعب، وعند انعدامه يصير ما هو سهل مستحيلاً.
وقد أورد القرآن دعوتين لرسولين من أولي العزم من الرسل، في الأولى دعا موسى ربه فقال: *{واجعلْ لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشْدُد به أزْري وأشْرِكْه في أمري}*، وفي الأخرى دعا نوح ربه فقال: *{إنّ ابني من أهلي ..}* فاستجاب الله لموسى وجعل أخاه شريكاً له في النبوة والرسالة، ولم يستجب لنوح بل قال له: *{إنه ليس من أهلك ..}*.
وهو درس يعلمنا أن الدعوات تسير وفق النواميس الإيمانية، وأنه لا قيمة للقرابات والأنساب إن خرجت من دائرة الإيمان، وأن الإيمان يُقوّي سائر الروابط والصلات إن كان موجوداً، وإن انعدم فإنه يؤدي إلى انفصالها وانفصامها.
*تَحوُّل العُصْبة إلى عِصابة:*
عندما تتحلّل أي "عُصبة" من الالتزام الصارم بالقيم والأخلاق تصير مؤهلة للانزلاق السريع نحو ثقافة "العصابة"، وذلك مثل إخوة يوسف الذين قالوا: *{لَيُوسفُ وأخوه أحَبُّ إلى أبينا منّا ونحن عُصبة ..}* [يوسف:8]، فقد اقتربوا من أخلاق العصابة؛ عندما كذبوا على أبيهم، وخطّطوا للإيقاع بأخيهم ورموه في غيابة الجُب.
ومن المعلوم أن الذين جاؤوا بالإفك ضد عائشة كانوا عصبة أيضاً، كما قال تعالى: *{إنّ الذين جاؤوا بالإفك عُصبةٌ منكم..}*، ولولا تصدي القرآن لهم ولولا حيوية المجتمع الإسلامي لتحوّلوا مع المدى إلى عصابة !
وسوم: العدد 773