رمضان فرصة عرض الذوات على القرآن لتصحيح اعوجاجها وتعزيز استقامتها
من أحاديث رمضان
لقد اقتضت إرادة الله عز وجل أن ينزل القرآن الكريم وهو الرسالة الخاتمة إلى البشرية كافة بين يدي قيام الساعة في شهر الصيام . وعبادة الصيام وتقوم على أساس كبح جماح الشهوات ليسمو الإنسان من درجة المخلوقات الشهوانية التي ابتلي مثلها بالشهوات إلى مستوى المخلوقات النورانية المنزهة عن الشهوات ، وبذلك يحقق ميزة التكريم التي خصه بها خالقه سبحانه وتعالى ، وأخبر بها ملائكته الكرام ،فاستغربوه وتعجبوا منه ،وانتهوا إلى القول : (( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت الحليم الحكيم )). والحقيقة أن أمر الإنسان في منتهى العجب حين يسمو من درجة البهائم إلى درجة الملائكة الكرام . وأعظم تكريم كرم به الخالق سبحانه وتعالى الإنسان هو أنه آتاه من العلم ما يمكنه من استيعاب كلامه ورسالاته التي ظلت توافيه عبر العصور حتى انتهى الأمر إلى نزول الرسالة الخاتمة إلى الناس كافة، وقد ضمنها الخالق سبحانه من التوجيهات ما تجعل الإنسان يظفر بسعادة الدارين: الدنيا والآخرة لينتهي به المطاف إلى مرتبة التكريم .
وما لم يتحرر الإنسان من طبيعته الطينية التي تلابسها الغرائز والشهوات لن يستفيد الفائدة التامة الكاملة من الرسالة الخاتمة التي خصه بها الله عز وجل . وما كل الناس يستطيعون الاستفادة منها لقول الله تعالى : (( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين )). فالقلوب والآذان لها حالاتان حين يعرض عليها القرآن ، ذلك أن القلوب الموكول إليها العلم أو الفقه إما أن تكون عليها أكنة أو أغطية تحول بينها وبين تحصيل العلم والفهم أو تنجلي عنها ، والآذان الموكول إليها السمع الذي يبلغ القلوب إما أن يكون فيها وقر أو صمم يحول بينها وبين حصول السمع أو ينجلي عليها . وبموجب هذا يكون الناس في تعاملهم مع كتاب الله عز وجل صنفين : صنف له قلوب يعقل بها ،وآذان يسمع بها ، وصنف آخر على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقر . ولقد بيّن الله عز وجل هذا الأمر في محكم التنزيل فقال جل شأنه : (( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )). وهؤلاء إنما هم الذين لا يتحررون من طبيعتهم الطينية الشهوانية ،لهذا شبههم الله عز وجل بالأنعام وهي مخلوقات ابتلاها بالشهوات ،ولم يكرمها بالتكليف كما كرم الإنسان ، بل جعلهم أضل من الأنعام لأن هذه لها عذرها إذ خلقت بلا قلوب تعقل خلاف هؤلاء الذين لا عذر لهم وهم يستحقون بذلك أن يكونوا دون الأنعام مرتبة.
ولهذا اقتضت إرادة الله عز وجل أن تقترن عبادة الصيام، وهي عبارة عن كبح جماح الشهوات باستعراض كتاب الله عز وجل لأن الصائم يكون في حالة سمو روحي تؤهله لتلقي هذا الكتاب واستيعاب ما فيه ، و استيعاب ما هو مطلوب منه ليكون في مستوى التكريم الذي شرف به .
و معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن الكريم عن رب العزة جل جلاله أول مرة في ليلة من ليالي رمضان ، لهذا لا يوجد ظرف أنسب لاستعراض هذا الكتاب من ظرف ليالي رمضان المبارك بنزوله ، ولا توجد طريقة أنسب لاستعراضه من قراءته في وضعية صلاة الليل الذي يلفه السكون ، وهي وضعية تساعد على حسن تدبره لما يحصل فيها من خشوع ورد ذكره في قول الله تعالى : (( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون )). ويؤكد قول الله تعالى : (( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمود )) وقوله أيضا : (( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا )) أن أنسب ظرف لاستعراض كتاب الله عز وجل هو ظرف الليل المشهود على الدوام عموما وفي ليالي رمضان خصوصا .
ومن أجل أن تحصل الفائدة باستعراض الرسالة الخاتمة ، وهي رسالة للعالمين أجمعين من بعثة سيد المرسلين إلى يوم الدين ، وكل فرد من العالمين معني بها مباشرة وهي وموجهة إليه ، كما أنها حجة عليه ، لا عذر له معها، لا بد من عرض الذوات عليها لتحقيق هدفين اثنين هما : تقويم اعوجاجها وتعزيز استقامتها ، وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم ،ومن خلاله أمر أتباعه بالاستقامة فقال : (( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير )) ، وليس مع غياب الاستقامة سوى الاعوجاج وهو طغيان ، والطغيان تجاوز الحد في الظلم.
ولتحقيق الهدف المنشود من استعراض القرآن الكريم في رمضان يتعين على من يقوم ويتهجد به في لياليه أن يلتزم بما يلي :
ـ الاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم لقوله تعالى : (( وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين به هم مشركون )) وسلطان الشيطان إنما هو وساوسه التي تحول دون بلوغ الغاية من قراءة القرآن .
ـ التأدب معه والخشوع خلال استعراضه من خلال الحرص على التركيز التام عن طريق تلافي كل سهو أو غفلة ، وليكن تركيز الإنسان في تلقيه كتركيزه حين يتلقى رسالة من غيره أول مرة فيكون حريصا على فهم فحواها لما وراء ذلك من منفعة ترجى أو ضرر يخشى ويحذر.
ـ حسن الأداء وحسن الاستماع أثناء التلقي لقول الله عز وجل : (( وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )) ومن الرحمة أن يعيذ الله عز وجل القارىء والمستمع من الشيطان الرجيم ،فتحصل له الفائدة من القراءة والاستماع. والإنصات حسن الاستماع ، ولا يحسن الاستماع إلا بتحصيل فوائد .
ـ حصول القناعة التامة لدى القارىء والمستمع بأنه هو المعني بما في القرآن الكريم من أوامر ونواه، فلا يمر به نهي إلا انتهى عنه، ولا يمر به أمر إلا ائتمر به ، مع التمييز بين ما أحل الله عز وجل وما حرم ، والحرص على ألا يكون سلوكه مناقضا لما في كتاب الله عز وجل ليكون من الذين قال فيهم سبحانه وتعالى : (( إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا )) ولا وجل إذا مر بقارىء أوبمستمع نهي فلم ينته .
ـ استخلاص العبر من القصص القرآني وهو القصص الحق لقوله تعالى : (( إن هذا لهو القصص الحق )) وليس القصص الحق كالقصص المتخيل أو الافتراضي ، فهذا الأخير يراد به التسلية أما القصص الحق فيراد به التربية والتزكية والبشارة والإنذار. والاستفادة من القصص تكون بالطموح إلى اقتفاء أثر الصالحين وتنكب أثر الطالحين .
ـ الرغبة الشديدة والملحة فيما أعد الله عز وجل لعباده الصالحين من نعيم كريم ، والخوف الشديد مما أعد سبحانه للمغضوب عليهم والضالين من عذاب مقيم.
ـ الاجتهاد في سؤال أهل الذكر عما غمض أو استغلق على الفهم منه لأن الله عز وجل يصفه فيقول : (( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين )) ولا يحصل الفهم إلا بالإلمام باللسان الذي نزل به الذكر الحكيم .
ـ أن يختلف حال القارىء والمستمع عما كان عليه بعد القراءة والاستماع ليكون ذلك مؤشرا على أن اعوجاج النفس قد تم بالفعل تقويمه ، وأن الاستقامة قد تم تعزيزها وتوثيقها وتوكيدها ، وعلى قدر ما يحصل في النفس من تقويم اعوجاجها وتعزيز استقامتها، تكون الاستفادة من استعراض كتاب الله عز وجل في رمضان. ومن لم يقوم اعوجاجها ، ولم يعزز استقامتها، فليس له إلا السهر والتعب في قيامه مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب " .
وفي الأخير نأمل أن يراجع القائمون في رمضان الحكمة من استعراض القرآن الكريم وهي عرض أنفسهم عليه كما يعرضون أجسامهم على آلات الفحص الطبية للكشف عن عللها وبنفس الحرص والخوف من مخاطر تلك العلل.
وسوم: العدد 773