حثالة الكتاب يحملون الشعوب مسؤولية الفساد والتخلف

حثالة الكتاب

يحملون الشعوب مسؤولية الفساد والتخلف

محمد المليص

دائما وعبر التاريخ, إن هرم السلطة بحاجة إلى جوقة دينية وجوقة ثقافية لتطويع الشعب وإخضاعه وتنويمه ولإغلاق فمه مهما جاع أو ظلم أو عانى من المرض

كما أن كل شعب في العالم لديه الكثيرين الجاهزين للتطوع في أي من الجوقتين, لأن الإنسان بطبيعته ميال للسير في طريق سهل وآمن يحقق له رغباته وغرائزه بأقل عناء ممكن بعيداً عن إرهاب السلطة. لذا لا غرابة من توفر هكذا جوقات للبيع والشراء في أي عصر وفي أي شعب

وهنا لا يجب أن نلوم المنخرط بأي من الجوقتين بنفس القدر الذي يجب أن نلوم به هرم الإستبداد. أي لا يمكن أن نعاقب امرأة استغلت و قذفها الظلم والفقر للجوء إلى مركز للدعارة, ثم بنفس الوقت نعفي مركز الدعارة من المحاسبة, الحق هو أن نبدأ بمعاقبة مركز الدعارة الذي يستقطب التائهات اللاتي ظلمن واضطررن لبيع أجسادهن, ثم نبدأ بمساعدة التائهات كي لا يوقعن فريسة سهلة لمراكز الإتجار بهن

وكذلك الأمر بالنسبة للسلطة الإستبدادية. حيث يجب أن نحاسب السلطة العليا أولاً, ثم نبني نظاماً ذو آلية محاسبة ديمقراطية تحقق العدل لكل الناس, وبذلك تفقد حثالة الجوقة الثقافية والدينية سوق نخاستها الذي ترتع به على حساب الشعوب..

 طالما أن هرم السلطة الإستبدادية قائماً, فإن سوق شراء الجوقات الدينية والثقافية مليء بالحثالات,  لذا إن الحل هو هدم هرم الإستبداد, ثم البدء ببناء نظام سياسي ديمقراطي قادر على محاسبة الكبير والصغير الذين يفسدون في المجتمع إن كان أميرا أو وزيرا أو قائد الجيش أو رئيس المخابرات.

من يعتقد أن الشعوب الأوروبية لا ترمي القمامة بالشارع لأن عندها أخلاق ورقي وحضارة, فهو واهم وجاهل ولا يفقه شيء بالحضارة الأوروبية حتى ولو زار أوروبا ألف مرة. إن الكثيرين من حثالة الكتاب في بلادنا يطبلون ويزمرون بهذا الأمر لترسيخ مفهوم أن شعوبنا العربية متخلفة وغير راقية وترمي القمامة في الشارع وغير مؤهلة للديمقراطية

إن الشعوب الغربية تعلمت عدم رمي القمامة من خلال فرض غرامات مالية وتطبيق القانون على المخالف إن كان ضابطا أو وزيرا. لا شك عندما يخاف الإنسان من العقوبة إذا خالف القانون فإنه مع الزمن يتأقلم مع عدم ممارسة المخالفة, تماماً كما تأقلمت شعوبنا بعدم نقد رئيس الدولة لأنهم سيدفعون فاتورة مخالفة كبيرة ليسوا قادرين على تحملها

لو تساهلت السلطات في الدول الغربية في تطبيق قانون منع التدخين في الأماكن العامة, لوجدت المخالفين بالملايين, لكن فاتورة التدخين في الأماكن الممنوعة ترهق جيب المدخن, لذا هو لا يدخن في الأماكن الممنوعة, ليس ذوقا وحضارة ورقياً, وإنما خوفاً من دفع فاتورة ترهق جيبه, فالتخجل تلك الحثالة من الكتاب في ترويج هكذا معلومات كاذبة تهدف لتبرئة السلطات وإتهام الشعوب.

من يتتبع تطور الشعوب تاريخياً, يدرك جيدا أن الذين مهدوا لثورات طاحت بالإستبداد, هم ليسوا حثالة الكتاب الذين يتهمون الشعوب والأديان بمسؤوليتهم عن التخلف والجهل والفساد, بل هم الكتاب الشرفاء الذين تعرضوا للسجن وللنفي وللتجويع, و الذين وضحوا للشعوب بأن المسؤول عن الفساد والجهل والتخلف الديني وضياع الحقوق هو رأس الإستبداد ومن حوله في الطبقة العليا من الهرم الذين يستعملون الجوقة الثقافية والدينية في فرض إستبدادهم على الشعوب, وليس هذا الموظف الذي يرتشي أو هذا المواطن الذي يكذب أو هذا المتدين المتخلف, أو حتى مركز الدعارة هذا أو ذاك الذي تلتجئ إليه امرأة داسها المجتمع وقذفها إلى مزابله لتقتات مع الصراصير ما تبقى من تلك المزابل, ففقدت كرامتها وانتهى الأمر بها لممارسة الدعارة كباب رزق في ظلام أهرامات الإستبداد وجبروته.

ولكي ندحض إدعاءات حثالة الجوقة الثقافية والجوقة الدينية الذين يستحمرون الشعوب ويبولون على الصفحات الأولى لصحف الإستبداد خدمة وتبرئة للإستبداد السلطوي كي لا تثور الشعوب وتطلب بناء نظام ديمقراطي يحاسب الصغير والكبير, دعونا  نفترض جدلا, كما يقول المطبلون للإستبداد, أن العرب مبتلين بأسوأ دين, وبأسوأ عادات وتقاليد, وبأسوأ تاريخ وبأسوأ جينات بشرية, وبأسوأ أخلاق عرفتها البشرية. ياترى أليس من الحكمة والمنطق السليم والمسؤولية الإنسانية أن يقود هكذا شعب ,مصاب ومبتلي بكل هذه الأمراض الإجتماعية, قيادة سياسية ذات آلية ديمقراطية تعطي الفرصة للمظلوم أن يشتكي  لهذه القيادة السياسية من خلال نظام عدالة يحاسب فيه حتى القاضي أو رئيس القضاة أو رئيس المخابرات أو الوزير أو الأمير إذا ما تجاوز القانون؟

هل يمكن الوصول لهكذا قيادة سياسية تطبق القانون بدون آلية ديمقراطية يطال فيها الشعب رأس السلطة ومن حوله من خلال القوانين الناظمة لعلاقة السلطة بالشعب ومسؤولياتها, ومن خلال فرصة التغيير كل أربع سنوات وإختيار منافسين للنظام القائم؟

المصيبة هي أن حثالة الكتاب يعون كل هذا بوضوح, لكنهم وجدوا سوقاً لشرائهم فاتبعوا غرائزهم بممارسة الدعارة السياسية ضد شعوبهم بحجة أن أبناء شعوبهم متخلفين وجاهلين ومتدينين بشكل مرضي, والإستبداد هو خير دواء لهم لأنهم لا يفقهون شيئاً والدين زادهم تخديرا وجهلا وفسادا

أنا برأيي المتواضع, إن مومساً تبيع جسدها من أجل المال أشرف مئة مرة من حثالة الجوقة الثقافية والجوقة الدينية الذين يمارسون العهر السياسي ضد شعوبهم من خلال ترويجهم للإستبداد وتحميلهم الشعوب المسؤولية. بل إن ضرر تلك المومس على المجتمع يكاد لا يذكر مقارنة مع ضرر هذه الحثالة من الكتاب.

نطمئن هذه الحثالة من الجوقتين, وما يدعى بالمفكرين والمحللين الذين يروجون للإستبداد ويحملون الشعوب مسؤولية فسادهم وجهلهم وفقرهم وتدينهم المرضي, بأن عصر الإستبداد بدأ بالإنهيار, ولا مكان لهذه الحثالة سوى مجاري الشعوب أو القبور.

السؤال المهم هو كيف تتخلص الشعوب من حثالة الكتاب هؤلاء الذين يملؤون الصحف ومراكز البحث والتحليل والتخطيط للدفاع عن الإستبداد, لتثبيط عزائم الشعوب وتخويفها وتخديرها وغسل أدمغتها وإقناعها بأنها هي المصيبة وليس الإستبداد؟

أجاب على هذا السؤال المهم شعوب أخرى كثيرة ومنها الشعوب الأوروبية التي ضحت بملايين الأبرياء لقهر الإستبداد ابتداءاً بالهرم السلطوي أولاً وإنتهاءاً بالمافيات الدينية التي عقدت قرانها على تلك الأنظمة الإستبدادية وتناغمت مع حثالة الكتاب للحصول على رضى هرم السلطة.

أول أسباب الإنتصار لتلك الشعوب هو حق النقد والمحاسبة بدءاً من رأس الهرم وإنتهاءاً بأدنى موظف, وليس العكس كما يروج حثالة الكتاب العرب بأن يبدأ الإصلاح من القاعدة الشعبية, وليس كما يروج أيضا تجار الدين ومافياته بأن إصلاح الذات أولاً عملا ب "كما تكونوا يولى عليكم" ناسين أن هذه العبارة يمكن تفسيرها بأنكم أيها الناس إن كنتم جبناء وترضون بأن تكون رقابكم تحت أقدام حكامكم فسيبقى الإستبداد والظلم لكم حتى تتمردوا وتثوروا وتقهروا الظلم وتولوا عليكم من يقيموا العدل بينكم.

إن الشعب الأوروبي لم يحصل على هامش ديمقراطي لا بأس به, من خلال إصلاح الذات أولا ونشر الأخلاق كي تبتعد الناس عن الكذب وعن السرقة وعن الرشاوي, بل صعدت إلى أعلى جبل الإستبداد وبدأت بتطهير الجبل من الأعلى وإلى الأسفل

لكن للأسف أثناء تطهير هرم السلطة من الأعلى, نتيجة لضخامة الأموال المسروقة من الشعب والشبكات الإجتماعية الضخمة التي بناها الإستبداد من أجل إرهاب الشعب و فرض سلطته, تمكنت قيادات مقنعة وزئبقية من الهرم القديم من ركوب موجة التطهير الديمقراطي, والتظاهر بأنها ضد الظلم ومع الشعب ومع الديمقراطية, وتسللت إلى الأحزاب وتمترس البعض منها في مراكز قيادة الجيش والمخابرات معلنين مباركتهم لإنتصار الشعوب والخضوع للقيادة السياسية المنتخبة ديمقراطيا, تماماً كما حدث في مصر أثناء الثورة على مبارك, وفوق ذلك, الحديث هنا عن أوروبا, راحوا يروجون من خلال شرائهم لمحطات الإعلام ولأعضاء برلمان بعينهم ليكونوا سنداً في تنفيذ سياسة أولائك الزئبقيين المنتمين إلى عهد الإستبداد, وهكذا دخلت الشعوب في صراع جديد مع الإستبداد في ظل العملية الديمقراطية. لكنه صراع يهزم رويدا رويدا الإستبداد المتسلل إلى النظام الديمقراطي الذي فرخه الإستبداد البائد.

الحمد لله أنه رغم كل الإمكانيات الضخمة للعسكر وللمخابرات في الدول الأوروبية, فإن شعوبها التي دخلت مسرح السلطة وبقوة, تنزع أنياب تلك المافيات المخابراتية والعسكرية وعملائها المندسين في العملية الديمقراطية, من خلال معارك ديمقراطية تجنب الشعب هدر دمه. إنها عملية طويلة وشاقة, لكنها تسير إلى الأمام وتسجل إنتصارات متتالية. إن ما حدث في أوروبا, هو يحدث بشكل مشابه في بعض الدول العربية الآن, وإن الإستبداد العسكري والمخابراتي وحتى الديني يحاول جاهداً التسلل إلى العملية الديمقراطية من أجل ديمومة الإستبداد الذي اعتادوا عليه ومكنهم من استحمار الشعوب ومص دمائهم

لا إستبداد بعد اليوم, فعلى العسكر والتيارات الدينية والشيوعيين والعلمانيين وكل أطياف المجتمع أن يختصروا الطريق ويطهروا أهراماتهم التنظيمية من ممارسة الإستبداد ونشر ثقافة النقد والعدل وإختيار القيادات من خلال صناديق إنتخابات نزيهة وأن يستعدوا للمنافسة على قيادة المجتمع من خلال صناديق إنتخابات نزيهة.

ولكي لا يظن البعض, أنني أروج إلى عداء مع المخابرات والعسكراللذين هم ضرورة هامة لحماية أي شعب من المجرمين داخليا وخارجيا, فإنني أقصد هنا الخونة من المخابرات والعسكر الذين يمارسون أبشع أنواع الإستبداد والظلم في الظلام الدامس متسترين بالأمن والإستقرار وهم يدوسون على الدستور والقوانين, وهم كذابون ومجرمون وعلى علاقة مع شبكات فساد في المجتمع

المصيبة هي أنه حتى في الدول الديمقراطية هناك قوانين تنظم إدارات الجيش والمخابرات منذ عصور الإستبداد الدموي, لم يسمح للشعوب إلى الآن أن تغيرها إلا بشكل طفيف, وذلك لأن مافيات الجيش والأمن يخوفون الشعوب من الإرهاب ومن ضياع الأمن. وأحياناً إن المخابرات تنشر إشاعات كاذبة عن سرقة أطفال أو عمليات إرهابية كاذبة من أجل تمرير سن قوانين فضفاضة خالية من أي محاسبة تعطي المخابرات صلاحيات إضافية من أجل العربدة والظلم كما يشاؤون بعيدا عن أي محاسبة بحجة ضرورات أمنية.

لذا لا يمكن لأي شعب أن يقضي على الفساد والظلم, حتى ولو غير هرم السلطة وحقق الديمقراطية, بدون أن يصبح إدارة المخابرات والجيش خاضعة للتفتيش المدني من خلال هيئات برلمانية وقضائية. وهذا سيتحقق ولو بعد عقود لأن الشعوب فتحت ثغرة كبيرة في جبل المخابرات والعسكر في الدول الديمقراطية, وإن هذه الثغرة تتوسع يومياً. وإن العدوى المحمودة من الشعوب التي هزمت الإستبداد تنتقل وبسرعة الضوء إلى الشعوب التي يتحكم بها الإستبداد, وما الإنترنت إلا وسيلة من وسائل العدوى المحمودة هذه, فطوبى للإنترنت, رغم كل سلبياتها, لنشرها النور إلى كهوف الظلم والإستبداد والأنفاق التي تذبح فيها الشعوب بعيدا عن أعين البشريه.