قواعد الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
لقد كثر الحديث في السنوات القليلة الماضية حول ظاهرة (الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) وازداد التشكيك في هذه الظاهرة في سياق التشكيك بكل ما هو إسلامي، ضمن الحرب الشاملة التي باتت معلنة ضد الإسلام وأهله، حتى بات مصطلح الخوف من الإسلام (Islamophobia) اليوم واحداً من أكثر المصطلحات ترداداً في وسائل الإعلام العالمية !
وقد فاقم من الإساءة للإسلام بعض الانتهازيين من غير أصحاب العلم الشرعي الذين تسللوا إلى ميدان الإعجاز العلمي، فنشروا مقالات أساءت إساءة بالغة إلى ظاهرة الإعجاز العلمي، ولعل من أبرز هؤلاء المتسلقين المهندس السوري "علي منصور كيالي" الذي نشر الكثير من المقالات وأفلام الفيديو التي طرح فيها أفكاراً وتفسيرات يدعي فيها جوانب من الإعجاز العلمي، وما هي في الحقيقة سوى هذيان فكري، لا ينتسب إلى العلم بشيء، وبخاصة من ذلك محاولاته المتكلفة لتفسير بعض آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن غيبيات لا يعلمها إلا الله عز وجل .
هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة باتت معروفة من الذين تسللوا إلى ميدان الإعجاز العلمي دون أن يمتلكوا أدواته الشرعية والعلمية، ما جعل الحاجة ملحة لتحديد القواعد والضوابط الشرعية والعلمية التي ينبغي اتباعها في بحوث الإعجاز العلمي .
تعريف الإعجاز العلمي :
الإعجاز مشتق من العجز والضعف أو عدم القدرة، والإعجاز مصدره أعجز وهو بمعنى الفوت والسبق، والمعجزة في اصطلاح العلماء أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة، وإعجاز القرآن يقصد به إعجاز القرآن للناس أن يأتوا بمثله؛ أي نسبة العجز إلى الناس وعدم قدرتهم على الإتيان بمثله، كما جاء في قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً سورة الإسراء، الآية 88.
أما الإعجاز العلمي فهو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة كونية كشفها العلم التجريبي بعد ورودها في الكتاب والسنة بقرون طويلة، وثبت عدم معرفتها وعدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفي هذا دليل قاطع على صدق ما ورد في القرآن الكريم وصدق ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ربه .
فالإعجاز العلمي يقصد به سبق الكتاب والسنة بذكر بعض حقائق الكون وظواهرهِ التي لم تتمكن العلوم المكتسبة من الوصولِ إلى كشفها إلا بعد قرون متطاولة من زمن الوحي .
قواعد الإعجاز العلمي :
البحث في الإعجاز العلمي هو بحث في أقدس مصدرين من مصادر الإسلام هما : القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولهذا ينبغي أن يستند هذا البحث إلى قواعد علمية راسخة، لا أن يترك البحث فيه لكل من هب ودب ممن لا يمتلك أدوات البحث، وأولها إتقان اللغة العربية إعراباً ونحواً وبلاغة، وفي هذا يقول العلامة ابن خلدون في المقدمة : «الإعجاز تقصر الإفهام عن إدراكه وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه»
وثانيها امتلاك الباحث لرصيد معتبر من العلم الشرعي، مع الأخذ بالاعتبار جملة من القواعد التي أفاض بها علماء الإعجاز العلمي نذكر منها :
1- إن علم الله عز وجل هو علم شامل مطلق يحيط بكل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما علم الإنسان فهو علم قاصر محدود معرض للصواب والخطأ .
2 – من نصوص الوحي ما هو قطعي الدلالة، ومنها ما هو ظني الدلالة، وفى العلم التجريبي حقائق قطعية، ونظريات ظنية .
3 - لا يمكن أن يقع تعارض بين قطعي الوحي وقطعي العلم التجريبي، فإذا وقع تعارض فهو يرجع إلى خطأ في اعتبار قطعية أحدهما، وهذه قاعدة جليلة قررها علماء المسلمين قديماً، منهم ابوالعباس ابن تيمية (728هـ) رحمه الله تعالى، الذي وضع كتاباً من أحد عشر مجلداً تحت عنوان (درء تعارض العقل والنقل) ناقش فيه هذه الحقيقة بكل وضوح وجلاء .
4 – إذا حصل توافق بين نص قطعي ونظرية علمية كان النص دليلاً على صحة النظرية؛ أما إذا وقع تعارض ما بين نص قطعي الدلالة ونظرية علمية، رفضت النظرية، لأن النص وحي من الذي أحاط بكل شئ علماً، أما النظرية فهي عمل بشري قابل للخطأ والصواب .
5 - إذا كان النص ظني الدلالة والحقيقة العلمية قطعية، يمكن تأويل النص في ضوء النظرية .
4 – إذا وقع التعارض بين حقيقة علمية قطعية، وبين حديث نبوي ظني في ثبوته، فيؤول الظني من الحديث ليتفق مع الحقيقة القطعية، وفي حال تعذر التوفيق يقدم القطعي .
الإعجاز العلمي والغيبيات :
الغيب في الاٍسلام هو العلم الذي يختص به الله سبحانه وتعالى دون غيره من خلقه، وقد يظهر الله بعض الغيبيات إلى من يصطفي من الرسل والأنبياء،
والغيب هو كل حقيقة لا يدرك طبيعتها العقل ولا الحواس، ومن أجل ترسيخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين أبطل الإسلام كل طريق يدعي البشر أنهم يعلمون الغيب من خلاله، فأبطل الكهانة والتنجيم والطيرة، وقد وضع سلف الأمة من العلماء منهجاً سديداً في النظر إلى الغيبيات؛ منها ما يتعلق بأمر الصفات الإلهية وأحوال يوم القيامة وغيرها من الغيبيات التي لا سبيل إليها إلا طريق الوحي .
وخلاصة منهج السلف في هذه المسألة هو الوقوف على ما دلت عليه النصوص دون تكلف لمعرفة الكيفيات والتفاصيل التي لم يبينها الوحي، لأن البحث فيها كالبحث في الظلام، وقد كان السلف لا يتكلفون ما لا علم لهم به، وهذا هو المنهج السليم الذي يجدر بالباحثين في الإعجاز العلمي أن يتبعوه، فلا يتعرضوا لشيء من الغيبيات احتياطاً لدينهم وعلمهم .
من ثمرات الإعجاز العلمي :
للبحث في الإعجاز العلمي ثمرات كثيرة نذكر منها :
1 – الدعوة إلى الله : فقد كسبت بحوث الإعجاز العلمي بعض كبار العلماءفي العالم الذين دخلوا في الإسلام عندما اطلعوا على جوانب من هذا الإعجاز؛ كما حصل مثلاً مع البروفسور الكندي كيث مور (Keith Moore) وهو من أشهر العلماء المعاصرين في علم الأجنة (Embryology) الذي يعد كتابه في هذا العلم مرجعاً علمياً عالمياً، وقد نشر مور طبعة خاصة من كتابه هذا ذكر فيه ما ورد في الكتاب والسنة حول خلق الجنين وأطواره، وأثبت فيه مدى تطابق ما جاء في الكتاب والسنة مع أحدث حقائق هذا العلم، وقد ألقى المذكور محاضرة في ثلاث كليات طبية في الممكلة العربية السعودية عام (1404هـ) بعنوان (مطابقة علم الاجنّة لما في القرآن والسنة) من حقائق كونية وأسرار كونية لم يكن في إمكان بشر أن يعرفها وقت نزول القرآن، وقد كانت هذه الحقائق مما دفع المذكور إلى إعلان إسلامه على الملأ في أحد مؤتمرات الإعجاز العلمي كما ذكر الدكتور عبد المجيد الزنداني .
2 - تصحيح الأفكار الخاطئة : فإن ما جاء في الكتاب والسنة يصوب بعض الأفكار الباطلة حول أسرار الخلق وغيرها من أسرار الوجود، ومنها على سبيل المثال ما كان شائعاً لقرون طويلة بين علماء التشريح من أن الجنين يتكون من دم الحيض واستمر ذلك الاعتقاد إلى أن اكتشف المجهر في القرن السادس عشر الميلادي بينما الكتاب والسنة بينا خطأ هذا الاعتقاد قبل (14 قرناً) في زمن لم تكن فيه مجاهر ولا وسائل بشرية لكشف هذه الحقائق، فقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على أن الولد يتكون من ماء الرجل وماء المرأة، وقد أشار إلى هذه المسألة الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) حيث قال : "وزعم كثير من أهل التشريح أن منى الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده وأنه إنما يتكون من دم الحيض وأحاديث الباب تبطل ذلك" (الفتح : 11/480).
3 – بيان التكامل بين الكتاب والسنة : فإذا جمعت نصوص الكتاب والسنة الصحيحة وجدت بعضها يكمل بعضها الآخر فتتجلى بها الحقيقة مع أن هذه النصوص قد نزلت مفرقة في الزمن، وهي مفرقة فى مواضعها من الكتاب الكريم، وهذا النظم والتكامل لا يكون إلا أن يكون وحياً من عند الله تعالى الذي خلق السموات والأرض وما فيهن (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) سورة الملك 14 ، وفي بيان هذا التكامل بين الكتاب والسنة رد قاطع على الجهلة الذين ينادون اليوم بإسقاط السنة !
4 – إظهار جوانب جديدة من حكمة التشريع الإلهي : مما خفيت حكمتها على الناس وقت نزول الوحي، واكتشفها العلماء في عصرنا، ومنها مثلاً اكتشاف الحكمة في تحريم أكل لحم الخنزير وتحريم الخمر، واعتزال الجماع في الحيض "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض" سورة البقرة222 ، وغيرها من التشريعات السماوية الحكيمة .
5 - بيان صدق رسالة الإسلام في عصر الكشوف العلمية، فإذا كان المعاصرون لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - قد شاهدوا بأعينهم كثيراً من المعجزات، فقد قدر الله عز وجل أن يري أهل عصرنا معجزات تتناسب مع طبيعة العصر، ويظهر لهم بها أن القرآن حق، مصداقاً لقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) سورة فصلت 53 ، وهذه هي رسالة الإعجاز العلمي في عصرنا، لاسيما وأن أهل عصرنا لا يذعنون لشيء مثل إذعانهم للعلم .
6 - تصحيح مسار العلم التجريبي . فقد جعل الله النظر في المخلوقات - الذي تقوم عليه العلوم التجريبية - طريقاً إلى الإيمان به سبحانه، وطريقاً إلى الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أن أهل الأديان المحرفة كذبوا حقائقه، وسفهوا طرقه، واضطهدوا دعاته، فواجههم حملة هذه العلوم التجريبية، بإعلان الحرب على تلك الأديان، فكشفوا ما فيها من أباطيل، وأصبحت البشرية في متاهة، تبحث عن الدين الحق، الذي يدعو إلى العلم، والعلم يدعو إليه، فوجدوه في الإسلام، وهذا ما يوفر للمسلمين اليوم فرصة كبيرة لتصحيح مسار العلم، وإعادته إلى الطريق الصحيح، طريق الإيمان بالله ورسوله، والتصديق بما في الكتاب والسنة من هداية ورشاد .
7 - تنشيط المسلمين للاكتشافات الكونية ، بدوافع إيمانية؛ فإن التفكير في مخلوقات الله عبادة ، والتفكير في معاني الآيات والأحاديث عبادة، وتقديمها للناس دعوة إلى الله تعالى، وهذا كله متحقق في بحوث الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وهذا من شأنه أن يحفز المسلمين على اكتشاف أسرار الكون بدوافع إيمانية تعبر بهم فترة التخلف التي هم فيها اليوم .
تنبيهات :
يندرج في قضايا الإعجاز العلمي ما يتعلق بالظواهر الكونية، أما ما يتعلق بالعقيدة والعبادات والغيبيات فلا تدخل في هذه القضايا، وإنما تؤخذ كما وردت في الكتاب والسنة دونما تكلف لإدخالها في قضايا الإعجاز العلمي . إن التفسير العلمي لنصوص الوحي مرفوض إذا اعتمد على النظريات العلمية التي لم تثبت ولم تصل إلى درجة الحقيقة العلمية، ومرفوض كذلك إذا خرج بنصوص الوحي عن لغته العربية . ومرفوض أيضاً إذا صدر عن خلفية تعتمد العلم أصلاً، وتجعل القرآن تابعاً . مرفوض كذلك إذا خالف ما دل عليه القرآن الكريم في موضع آخر أو دل عليه صحيح السنة . وهو مقبول بعد ذلك إذا التزم القواعد المعروفة في أصول التفسير من الالتزام بما تفرضه حدود اللغة العربية، ومقاصد الشريعة، مع التحري والاحتياط الذي يلزم كل ناظر في كتاب الله، وسنة نبيه . وهو مقبول ممن رزقه الله علماً بالكتاب والسنة، وعلماً بالسنن الكونية، ولا يقبل من كل من هب ودب، فكتاب الله وسنة رسوله أعظم وأكرم من عبث العابثين .
والخلاصة .. أما وقد ثبتت أهمية بحوث الإعجاز العلمي في تقوية إيمان المؤمنين، ودفع الفتن - التي ألبسها الإلحاد ثوب العلم - عن بلاد المسلمين، ولما ثبتت فائدة هذه البحوث فى دعوة غير المسلمين، وفى حفز المسلمين للأخذ بأسباب النهضة العلمية، واليوم .. أكا وقد ثبتت أهمية هذه البحوث فقد بات من واجب المسلمين الاجتهاد فيها واعتبارها من فروض الكفايات في عصرنا، وتشجيع الباحثين فيها ودعمهم مادياً ومعنوياً .
(( والله ولي التوفيق ))
وسوم: العدد 782