نَوْحٌ على بغداد الرشيد
د. مصطفى يوسف اللداوي
يوم أن بدأت الحرب الأمريكية الغربية على العراق في مثل هذه الأيام قبل أحد عشر عاماً، والتي تم الترتيب لها مسبقاً، والتحضير لها جيداً، وقد بُيتت النية لها قديماً، بغض النظر عن الأخطاء التي وقع فيها النظام العراقي، أو المبررات التي توفرت للإدارة الأمريكية، وشجعتها على غزو العراق من جديد، وهي بالتأكيد مختلفة عما أعلن عنه، ومناقضة لما أشيع، ولا علاقة لها بما كان يتناوله العامة، أو يعبر عنه المسؤولون والسياسيون الغربيون، خاصة أنه قد بدأت تظهر بعض الأسرار، وتنكشف بعض الحقائق، التي كانت سرية، وكان تداولها محصوراً بين الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير.
قبل الغزو الغربي كان العراق ناهضاً رغم الحصار، وقوياً رغم العقوبات، وقادراً على الصمود رغم المؤامرات، وضابطاً لأموره الداخلية رغم كل محاولات الاختراق، وإثارة القلاقل والاضطرابات، بقصد إشغاله وإرباكه، وكان بإمكانه أن يكون له دورٌ بارزٌ في مستقبل المنطقة كلها، بما يتناقض والمصالح الغربية، ويضر بالقوة الإسرائيلية، ويحد من قدرتها المطلقة على التفوق والتميز.
ولعل صورة المنطقة التي كان من الممكن أن تكون عليها في ظل وجود العراق دوراً ودولة، ستكون مختلفة ومغايرة تماماً عن صورتها اليوم، لجهة التحالفات وأنظمة الحكم، والتوترات التي تشهدها المنطقة، والعربدة الإسرائيلية المطلقة، التي لا يردعها أحد، وهي التي عانت في حروبها الأولى من الجبهات العراقية، فقد كانت دوماً هي الجبهات الأكثر سخونة، والأكثر قوة وخطورة، ولعل المعارك التي خاضها الجيش العراقي على الجبهات الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي، ما زالت شاهدة على قوته وجبروته، وعناده وثباته.
وقد كان يهم الحكومات الإسرائيلية، أن تؤمن جبهتها الغربية، وأن تكون حدودها من الأردن آمنة، ولا تشكل خطراً على وجودها وأمن وسلامة مواطنيها، وهي الجبهة الأقرب إلى العراق، سواء بواسطة سلاح الدبابات والمدفعية الأرضية والمشاة، أو لجهة سلاح الطيران الذي لا يستغرق وصوله وتحليقه فوق الأجواء الأردنية والفلسطينية سوى دقائق معدودة، الأمر الذي يجعل من الجيش العراقي خطراً على أمن إسرائيل.
هذا إذا أُخذ بالحسبان أن الجيش العراقي كان قوياً، وأن عقيدته تجاه إسرائيل كانت عدائية، وأنه كان يعبأ فكرياً ويجهز قتالياً ضد الكيان الإسرائيلي، وهو ما كان يخيف الإسرائيليين كثيراً ويقلقهم، لجهة قوة العراق العسكرية، وكبر عدد وعديد جيشه، وثراه المادي، وامتلاكه لقدراتٍ نفطية كبيرة، فضلاً عن مساحته الجغرافية الواسعة، التي تجعل من الصعوبة التأثير عليه، وعنده القلب البعيد، والعمق القاصي.
بسقوط بغداد، واحتلال العراق، بدأت التحولات العربية الكبرى، ودخلت الأمة العربية ومعها الأمة الإسلامية منعطفاً جديداً في حياتها، أثر عليها كثيراً، وما زال الأثر باقياً ومستمراً، يتفاعل ويتضاعف، تماماً كما حدث التحول الإسلامي الكبير إثر الغزو المغولي التتري إلى عاصمة الخلافة الإسلامية يومها بغداد، حيث اجتاحها المغول ودمروها، وقتلوا من فيها، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الأمة الإسلامية، التي اتسمت بالذل والهوان والتشرد واللجوء والضياع.
لكن خنوع المسلمين لم يطل، ولم تستمر الهجمة التترية طويلاً، ولم تترك آثارها العميقة على النفوس والقلوب والعقول، إذ سرعان ما انقلب الحال، وتغيرت الأمور، ودخل الغازي التتري في الإسلام، بعد سلسلة هزائم مني بها، لكنه عما قليل أصبح جزءاً من نسيج الأمة، وأحد مكوناتها الأساسية، وشارك بشعبه وعلمائه في رفعة الأمة الإسلامية، فكان منهم علماء ومحدثون وفقهاء ومفسرون وغير ذلك من صنوف العلم الأخرى.
أما الغزو الأمريكي الغربي الأخير على العراق، فقد أصاب الأمة العربية والإسلامية في قلبها، وغير موازينها، وأعاد تركيب فسيفسائها من جديد، بما يخدم مصالحه، ويحقق رغائبه، ويطمئن حلفاءه، ويعيد الثقة إليه بزوال الأخطار المحيطة، وذهاب الهواجس المقلقة.
فلم يعد العراق الذي كان، بكل ما كان فيه من العيوب والملاحظات، لجهة السياسة الداخلية، وما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان، القوة التي تخيف، والعمق الذي يريح، إذ كان تاريخياً جبهة قتالٍ معادية للكيان، يخيفه ويربكه، ويرى فيه خطراً حقيقياً، وهو ما لم يعد اليوم كذلك، فقد فكك الاحتلال الأمريكي جيش العراق القومي، الذي كانت ألويته القدس وحطين وعين جالوت وأجنادين وغيرها، وشيطنت رجاله، واجتثت أحزابه، وجعلت من يوم سقوط بغداد عيداً وطنياً، يعطلون فيه، وبه يحتفلون، وما ظنوا أن سقوط بغداد كان سقوط الكرامة، وإنهيار جدار الحصانة، وضياع حصنٍ من حصون المقاومة والصمود.
إن من ركب عربات الاحتلال، وجاء على ظهر دباباته، وحمى نفسه بمدافعه، وقتل المواطنين بقذائفه، وشارك في تدمير العراق، وخرب اقتصاده، وساهم في نهب خيراته، وتمزيق حضارته، وبرر الاحتلال ودافع عنه، ولم يراجع نفسه فيقاومه، أو يطالب برحيله، بل رضي أن يكون عميلاً تابعاً له، ومنفذاً لسياسته، لا يمكن له أن يرث مجد السابقين، ولا أن يكون حامي كرامة الأمة، وحصنها المنيع.
ولن يصدقه أحد إن رفع الشعارات، ونادى بحفظ الكرامات، والذود عن الحرائر، وحماية المقدرات، بل هو مكمن الخطر، وبوابة الشر، وعنوان الفساد، والبديل الأنسب لسلطات الاحتلال، ينفذ ما عجزوا عنه، ويفرض بالقوة ما لم يقوَ الاحتلال على فرضه، ويصد بجسد شعبه الأعزل عن العدو السهام والنبال، ويكون فداءً لهم، ومضحياً في سبيله.
ولعل الفتنة الطائفية والعرقية، والمحاصصة المذهبية، هي أحد أهم الأهداف الأمريكية، التي زرعت بذورها في العراق، وروتها برجالٍ صُنعوا على يديها، وتربوا في كنفها، وأشرفت مؤسسات مختصة على تدريبهم، ليقوموا بالدور نيابةً عنهم.
وما السجون التي تغص بلونٍ طائفي، والممارسات المهينة التي تشي بمذهبية واضحة، وسياسات الإقصاء والحرمان والملاحقة، والاعتداء والهجوم والقتال، إلا من ثمرات المحتل الأمريكي، التي كان يتمنى تنفيذها بنفسه، فلما عجز أوكلها إلى عملائه، الذين أثبتوا أنهم أقدر منه وأخلص، وأقوى وأفضل.
مازال في العراق عروقٌ صادقة تنبض، وفيه آمالٌ باقية لم تنضب، وعنده من القدرات والإمكانيات ما يجعل الآمال المنوطة به وعليه كبيرة، فإنه قادرٌ على التغيير والتأثير، والفعل والمبادرة، ولكن عندما تكون سلطاته منتخبة، ومعبرة عن رأي شعوبها، وخادمةً له، ترعى شؤونه وتدافع عنه، وتحرص عليه وتساوي بين مواطنيه، وعندما تستمد قوتها من شعوبها، وتلفظ القوى الغربية، وترفض الانضواء تحتها، أو الاحتماء بمظلتها، وتدرك أنها قوية بشعوبها وقدراتها وخصوصياتها، وأنها لن تكون عربية إلا إذا انعتقت من الإرادات الاستعمارية، التي لا تحب أوطاننا، ولا تسعى لمصالح شعوبنا، بل كل ما يهمها نفطنا وغازنا وما تنتجه بلادنا.