نَحْوَ ثورةٍ ثقافية ضدَّ السُّلالية الإمامية
أعتقد أن ثوار 26 سبتمبر قاموا بما عليهم وفق مستطاعهم قبل خمسة عقود ونيّف، فقد كانوا على قدر كبير من النضج كما توضح أهداف الثورة الستة رغم أن كثيرين منهم كانوا عسكريين، وعلى سبيل المثال فقد نصّ الهدف الأول من أهداف الثورة على: “التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما”، ولاحِظوا معي كلمة (ومخلفاتهما) التي تَنمّ عن وعي عميق، غير أن جهل عدد كبير من المواطنين في الداخل وتآمر نزر غير يسير من الأشقاء الأعداء في الخارج، قد أبقيا جمرة الإماميين متقدّة عسكريا لتستمر الحرب الأهلية لبضع سنوات بعد الثورة، ولم ينته الأمر بالحسم العسكري البات وإنما بمصالحة وطنية نزعت مخالب الإماميين العسكرية إلى حد كبير، لكنها أبقت على تراثهم الذي ظل شرراً يتخفّى تحت رماد المصالحة وتراب النفاق الذي يسمونه تُقية والذي استوردوه من قُم ومن النجف، حتى إذا هبّت رياح الظروف المتغيرة تَحَوّل الشََّرَرُ الخامد إلى جَمْر لاهِب، وكان يُفترض بالمثقفين أن يستلموا زمام المبادرة ويقوموا بثورة ثقافية تشكل امتدادا للثورة العسكرية، ولكن نشوةَ النصر وأبواق الفرحة، زرعتا فيهم غرورا أوهمهم بأن ما تم من نصر هو نهاية التأريخ وأن الإمامة قد انطفأت مشاعلها إلى الأبد، وقد حاول الإسلاميون القيام بهذا الدور، ولكن سوء التقدير لقوة الفكر الإمامي أعطتهم نوعاً من التراخي، بجانب أن التيارات القومية واليسارية وأخيرا الحزب الذي استلم زمام الحكم في العقود الأخيرة، كل هؤلاء عمدوا للتصدي لمحاولات استئصال الإسلاميين للفكر السلالي المتعصب، كجزء من منهجهم في المناكفات السياسية والخلط بين القضايا الوطنية والقضايا السياسية ، وذلك بسبب إصابتهم بالأمية الفكرية والسياسية وتغليب التكتيكات على الاستراتيجيات، ومَثَّل إلغاء المعاهد العلمية وتعديل المناهج الدراسية وإبعاد الإسلاميين من مفاصل التربية والتعليم أهم مظاهر التماهي الأحمق عند هؤلاء مع مخططات الإماميين لاستعادة أَزِمّة الأمور ومقاليد البلاد!
وبعد ما حدث يبدو لي أنه ما زال بالإمكان الجمع بين أنصار الجمهورية وأشياع ثقافة البطنين، ولكن من زاوية سياسية بحتة، وهي العودة إلى مخرجات الحوار الوطني ومشروع الدستور الذي اتفقت عليه سائر المكونات السياسية والاجتماعية، وحيث تم الاتفاق على الدولة المدنية والحُكم الاتحادي والمواطنة المتساوية، أما من الناحية الفكرية فإن الجمع بين الجمهوريين والإماميين حلم بعيد المنال ويشبه حلم الجمع بين الملائكة والأباليس تحت سقف الجَنّة، ذلك أن ثورة 26 سبتمبر في الطرف الآخر من الثقافة الإمامية التي تجعل السلطة حكرا على جينات معينة لا تتوفر إلا في أدعياء الانتساب إلى الحسن والحسين!
وبعد شلّال الدماء الذي ما زال يتدفق نتيجة الانقلاب الحوثي، لو حدث اتفاقٌ ما بين أنصار الجمهورية وأشياع الإمامة، فلن يكون إلا ثمرة انتصارات عسكرية على الأرض وتقدُّم سياسي للشرعية في المحافل الإقليمية والعربية والدولية، ولو حدث ذلك فلن يكون هناك عيد غير عيد 26 سبتمبر، على الأقل من جهة أنه محل اتفاق الجميع بما فيهم الانقلابيين الإماميين الذين لم يملكوا الجرأة حتى الآن على التنكّر لثورة 26 سبتمبر نظرياً وإن كانوا يدأبون ليلاً ونهاراً من أجل تفريغها من محتواها، بينما تمثل محطّة 21 سبتمبر نكبة كبرى عند الغالبية العظمى من اليمنيين ولن تكون أبداً عيدا وطنيا بأي حال من الأحوال، وربما أن للأقدار حكمة في جمع المناسبتين المتناقضتين في شهر واحد وأيام متقاربة، وهي أن يتذكر اليمنيون ما ينتظرهم من إجرام شيعة 21 سبتمبر إن لم يُحقّقوا أهداف ثورة 26 سبتمبر!
وفي هذا المقام فإنني من مؤيدي صياغة مادة في الدستور تُجرِّم الفكر الإمامي السلالي، وتعتبر الخروج على أهداف ثورة 26 سبتمبر خيانة عظمى للوطن، وذلك على غرار ما فعلته ألمانيا مع النازية وإيطاليا مع الفاشية، لكن ذلك ليس ضمانة كافية لعدم عودة الإمامة بعد مدة من الزمن طالت أو قصرت، حيث لابد من حرث العقول وتغيير القناعات، ولابد من توسيع دوائر الوعي وتحرير عامة اليمنيين من عقدة النقص التي تجعلهم مستعدين لعبودية الأسياد، وذلك عبر ثورة ثقافية شاملة، تقوم باستئصال أشواك السلالية والمناطقية والقبلية واقتلاعها من جذور الوعي الوطني وتهيل عليها تراب الحرث الثقافي الشامل.
ويجب أن تكون المناهج الدراسية حجَر الزاوية في الثورة الثقافية المنشودة، والتي يجب أن تقوم باجتثاث أشجار العصبيات الزّقّومية، واستزراع فسائل التديّن الواعي والاستنارة الدينية، وغرْس قيَم الولاء الوطني وخلْق الحِسّ الجَمْعي وسط اليمنيين، وذلك وفق أساليب علمية متطورة يساهم في صياغتها علماء في النفس والاجتماع والتأريخ والسياسة والمناهج والتربية، وبطرائق حديثة تبتعد عن الحشو والتلقين والمباشرة الوعظية.
ولا شكّ بأن التطرف الشيعي الهادوي في بلادنا، والذي تَجَسَّد في النازية الحوثية، يحتاج إلى منظومة متكاملة من المعالجات الشافية الوافية، وفي القلب منها القيام بثورة ثقافية كاملة الوعي ومبنية على معرفة دقيقة بالمجتمعات المحلية، حيث ينبغي أن تتضافر فيها المناهج الدراسية والندوات الفكرية والمشاريع الثقافية والمؤتمرات العلمية والمشروعات البحثية، بجانب المساجد التي ينبغي أن ترسي قيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة بصرامة، كقيم حضارية ووطنية تنتمي إلى صُلب هذا الدين، وبحيث تُبيِّن بوضوح للجماهير بأن العصبيات المختلفة إنما هي من الكبائر المقيتة في تعاليم هذا الدين الحنيف، وأنها من خصائص ثقافة القطيع التي لا تليق باليمنيين الذين أفردهم القرآن والسنة بالذكر الكريم كما لم يحدث لأي شعب آخر، وبجانب ذلك لابد من إجراءات قانونية وعقابية ضد من يثيرون الأفكار السلالية والعصبيات الطائفية، ومن يُشعلون نيران الفتن التي تُقطّع أواصر الوطن وتُمزّق وشائج الشعب، وأن تكون المحافظة على الوحدة الوطنية في مقدمة أولويات صُنّاع القرار، وذلك من زوايا التشريع والتقنين، والتربية والتعليم، وكذا من زاوية التنمية العادلة والمستدامة حتى لا تبقى أي مشاعر بالمظلومية عند أي طرف، ومحاربة الأعراف التي تُشرعن لأي من هذه الظواهر الوبائية، وتجفيف كل منبع يمكن أن يساهم في تغذية هذه الظواهر الآسنة بأي صورة من الصور.
فمن سيتولى زمام المبادرة ويحوز شرف السبق في الثورة الثقافية المنشودة يا ترى؟
وسوم: العدد 791