«منجم» النزوح السوري: وجه آخر للمأساة ساهم في تأجيل الأزمة المالية
ارتفاع عدد سكان لبنان بأكثر من 25%، خلال سنوات ست، نتيجة تدفّق أكثر من مليون نازح سوري، أمر مرئي لا يمكن تجاهله أو نكرانه. ولا شكّ أنه رتّب ضغطاً إضافياً على البنية التحتية المتهالكة بالأساس والبيئة المتدهورة. إلا أن الإحصاءات التي جمعها معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، تسمح بالاستنتاج أن أثر النزوح السوري لم يكن «مأساوياً» بالحدّ الذي تمّت مقاربته، سواء سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً. لا بل على العكس، يقول باحثون اقتصاديون إن هذا اللجوء ساهم في تأجيل الأزمة المالية في لبنان التي نعيش وطأتها في الوقت الراهن، من خلال ضخّ كميات هائلة من العملات الأجنبية ـــ يلهث وراءها لبنان حالياً ـــ وذلك عبر المساعدات النقدية التي قدّمتها الدول المانحة والمؤسسات الدولية. ولا ينحصر الأثر الإيجابي هنا، بل ينسحب أيضاً على زيادة الطلب على السلع والخدمات والمسكن والرعاية والخدمات التي أدّت إلى زيادة العرض وهو ما استفاد منه اللبنانيون وشكّل دخلاً إضافياً لهم.
تدفّقت إلى لبنان منذ بداية الحرب السورية مبالغ طائلة وبالعملات الاجنبية من خلال المؤسسات الدولية لمساعدة النازحين. معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية وثّق هذه المبالغ في كتيب تحت عنوان «101 من الحقائق والأرقام حول أزمة اللجوء السوري»، (إعداد مدير المعهد الدكتور ناصر ياسين)، عبر جمع أرقام مختلفة واردة في إحصاءات رسمية ودولية. ورغم كونها عينة من مجمل ما حصل عليه النازحون أو ساهموا في إنتاجه وضخّه في الاقتصاد، ورغم أن الدراسة لم تستخلص اي نتائج، إلا انها تبقى أرقاماً مرتفعة، وتمكّننا من تقديم استنتاج أولي بأنها رغم ضخامتها لم تستطع أن تؤمّن للنازحين ما يحتاجونه فعلاً، إمّا لهدر قسم كبير منها على نفقات لم تذهب مباشرة إلى النازحين، أو لأنها وظّفت في ما لا يحتاجونه بشكل أساسي، أو بسبب الفساد الذي اعترى عملية توزيع المساعدات.
ولكن تبقى هذه الأرقام رغم عدم شموليتها دليلاً على أن أزمة النزوح السوري تنطوي على وجه آخر «خدم» لبنان، وهو يناهض الأفكار العنصرية التي طغت على التعاطي مع هذه القضية الإنسانية. وجه يصلح ربما لأنه يكون مدخلاً لتصويب بعض الأفكار وإيجاد سياسات وحلول بديلة وتنظيمية لهذا الوجود الضاغط.
نحو 965.5 مليون دولار هو مجموع المبالغ التي ضخّها برنامج الأغذية العالمي في الإقتصاد اللبناني، بشكل مباشر، منذ عام 2012 على خلفية استقبال لبنان النازحين السوريين. وإلى هذا الرقم، مئات ملايين الدولارات «ضخّها» النازحون أنفسهم. ففي عام 2012، مثلاً، وصل حجم ما دفعه هؤلاء لاستئجار مساكن الى نحو 378 مليون دولار، فيما قُدّر حجم عمليات شراء العقارات التي قاموا بها عام 2016 في لبنان بنحو 78 مليون دولار.
وقدّرت الدراسة حجم «المضاعف الاقتصادي» الذي نتج عن المساعدة المالية الممنوحة للنازحين في لبنان والمجتمعات المضيفة لهم بـ1,6 دولار لكل دولار، ما يعني أن المعونة الانسانية البالغة 1.258 مليار دولار التي قدمت إلى لبنان منذ عام 2011 حتى بداية 2017، ضخت في الواقع 2.01 مليار دولار في الاقتصاد اللبناني، وأدّت إلى زيادة مقابلة في الطلب تكملها زيادة في العرض.
وفي هذا السياق، كشف تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لقياس الأثر الاقتصادي للمعونة الانسانية على الاقتصاد اللبناني، أن 44% من حزمة المساعدات للنازحين السوريين في لبنان تم ضخها في الاقتصاد على شكل نقد مباشر للمستفيدين، وأُنفق في السوق اللبنانية منذ نهاية 2011 إلى منتصف 2014.
واللافت هو ما أشارت إليه الدراسة لجهة «استفادة» بعض اللبنانيين من النزوح و«الاستثمار» فيه اقتصادياً. إذ بيّنت أنه بين عامي 2011 و2014 كان لبنانيون يمتلكون 84.1% من الشركات الجديدة التي انشئت بالقرب من المخيمات غير الرسمية للنازحين (17% منهم يقيمون في هذه المخيمات).
خلق دوامات مخصصة للطلاب السوريين وتعليمهم في المدارس الرسمية على نفقة الجهات المانحة ساهم، بدوره، في توفير عدد لافت من فرص العمل للبنانيين. فبعدما أدرجت وزارة التربية والتعليم العالي، ضمن برامجها، دواماً مسائياً خاصاً بالأطفال السوريين عام 2012 (بدأ تنفيذه فعلياً عام 2013) لسد الفجوات التعليمية الناجمة عن النزوح، ارتفع عدد المدارس التي أضافت دواماً مسائياً إلى برامجها ثلاثة أضعاف من 90 مدرسة عام 2013 إلى 330 عام 2017، ما وفّر كثيراً من فرص العمل لمئات من اللبنانيين واللبنانيات. إلا أن اللافت أنه رغم هذا البرنامج، بقي مئات الآلاف من أطفال النازحين في لبنان خارج المدارس من دون تلقي أي تعليم. ووفق الدراسة، فإنّ من بين كل ثلاثة أطفال سوريين لا يرتادون المدرسة في لبنان، إثنان منهم يعملان.
ورغم أن حجم المبالغ التي «ضخّها» النزوح السوري في الإقتصاد اللبناني كان لافتاً، إلّا أن الدراسة تُشير إلى معطيات تشي بأنّ استجابة المؤسسات الرسمية المعنية للأزمة لم تكن على قدر تلك الأموال. تلفت الدراسة، مثلاً، إلى أن عدد السكان تضاعف في 56 منطقة وزاد بين 50% و100% في 84 منطقة أخرى، الا أن بلديات هذه المناطق عانت من محدودية الموارد والمقدرات، فلم تتمكّن 70% منها من تقديم الخدمات الأساسية، فيما افتقرت نحو 57% من البلديات الأخرى الى البنى التحتية الإدارية. علما أنه تم تخصيص 73 مليون دولار لـ240 بلدية واتحاد بلديات لتحسين آلية تقديم الخدمات، ولتوظيفها في استثمارات كفيلة بتأهيل الأماكن العامة والمستشفيات والمدارس والإسكان. كما تم دعم البلديات بتزويدها بـ97 موظفاً إضافياً بهدف تعزيز دورها بوصفها خط الاستجابة الأول للأزمة. وكجزء من خطة لبنان للاستجابة للأزمة، استثمر مبلغ 105 ملايين دولار لتحسين تقديم الطاقة والمياه في المجتمعات المضيفة، وتم تأمين حاجة أكثر من مليون من أصل 2.4 مليون ممن كانوا في حاجة إلى حصول أفضل على المياه والكهرباء، بعد تحسين شبكات توزيع المياه وتوفير خزانات الصرف الصحي للمناطق النائية. كما تم تعيين 772 موظفاً إضافياً في الإدارات الرسمية اللبنانية لتعزيز قدراتها على الصعيد الميداني.
أكثر من مليون سوري لجأوا منذ بداية الحرب إلى لبنان، وبات عددهم يوازي تقريباً ربع السكان اللبنانيين. 66000 هو عدد النازحين الذين يقدر أنهم عادوا بشكل عفوي إلى سوريا من البلدان المجاورة بين كانون الثاني وتشرين الأول 2017. 89% من النازحين في لبنان عبّروا عن رغبتهم بالعودة إلى سوريا، إلا أن مخاوف تتملّكهم تحول دون ذلك، كعدم وجود فرص لتأمين سبل العيش، التجنيد العسكري الإلزامي، النقص في المأوى/ فقدان الممتلكات العقارية، الاضطهاد والملاحقة، عدم استقرار الأمن، الخ...
يعاني الأطفال السوريون من انعدام الأمن الغذائي الذي يعرّضهم لتداعيات صحية سلبية ترتبط بتناول الغذاء بكميات أقل من اللازم. وتشمل هذه التداعيات سوء النمو، النمو المعرفي الضعيف، وفقر الدم. في لبنان، يعاني 1 من كل 4 أطفال نازحين من فقر الدم. وفي إطار خطة لبنان للاستجابة للأزمة 2017 ــــ 2020، يحتاج لبنان إلى 308 ملايين دولار لتمويل الخدمات الصحية لـ 1535297 شخصاً. 82940 هو عدد النازحين الذين حصلوا على مساعدات غذائية في لبنان عام 2016، من خلال قسائم طعام عبر بطاقات مصرفية الكترونية بقيمة 27 دولاراً للشخص شهرياً. وقد ركز العاملون في مجال الأمن الغذائي أيضاً على تعزيز الاستثمارات الزراعية وتوسيع آفاق ذوي المشاريع الصغيرة، سعياً إلى تعزيز ممارسات صحية قوية، وتدعيم هيكليات الأمن الغذائي المحلي. رغم ذلك، فإن 77% من الأسر عانت من نقص في المأكل أو المال لشراء الغذاء
يواجه الأطفال السوريون الذين ولدوا في لبنان خطر أن يصبحوا مكتومي القيد. وبحسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، لم يتم تسجيل 83% من أصل 130 ألف طفل سوري ولدوا في لبنان منذ عام 2011. وهناك أسباب عدّة تحول دون تسجيل النازحين لأطفالهم، أهمها طول مدة العملية ونقص التوعية في صفوفهم في ما يتعلق بمتطلبات التسجيل وغياب وثائق الزواج أو الإقامة جراء النزوح.
يضع ذلك الأطفال أمام مشاكل في ما يتعلق بتمتعهم بحقهم في الحصول على هوية قانونية وجنسية، وحريتهم في التنقل وحقهم في التعليم والرعاية الصحية والعمل. وقد عملت الحكومة اللبنانية على إصدار مرسوم لتسهيل تسجيل الولادات. اجراءات اتمام عملية تسجيل الأطفال تبدأ في مكان الولادة، ثم عند المختار، فدائرة النفوس، وأخيراً دائرة وقوعات الأجانب. 98% يقومون بالمطلوب في مكان الولادة، لكن 2% فقط يصلون إلى الخطوة الرابعة والأخيرة. والنتيجة: أطفال محرومون من الجنسية.
وسوم: العدد 792