الغربيون هم الأصلحُ في صناعة الحياة من المسلمين!
▪كم نتلو في قرآننا أن الله قد كتب وراثة الأرض للصالحين من عباده، كما في قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أن الأرض يَرثها عبادي الصالحون}، ولكن هناك من يرى أنهم المسلمون على كل حال، رغم أنهم منذ قرنين على الأقل في ذيل القافلة الحضارية، حتى أن بلدانهم صارت كالقصعة التي يتسابق على خيراتها الآكلون النَّهِمُون، فهل أخلف الله وحده للمسلمين الذين يَفترض هؤلاء أنهم هم الصالحون؟! معاذَ الله وحاشاه، إنما هي السُّنن والنواميس.
وهناك من يقول إن الآية تختص بالآخرة حيث سيمنح الله أرض الجنة للصالحين من عباد المؤمنين، وهذا أمر بَدَهي ومعروف من آيات أخرى كثيرة، وهذه الآية ليست منها فهي تتحدث عن وراثة الأرض في الدنيا التي خلق الله الناس من أجل عمارتها وفق منهجه الشامل، وهذا هو مضمون العبادة الكونية لله تعالى في محراب الحياة.
▪ويبدو لي بوضوح أن معنى الصالحين الوارد في قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) هو أنهم الأقدر على استعمار الأرض، بعلومهم النافعة وأفكارهم المكتشفة لمغاور النفس البشرية ومجاهل الآفاق الكونية، وقيمهم المحترمة لإنسانية الناس وحقوقهم، من حريةٍ تُقَدّس كرامة الناس، ومساواةٍ لا تُفرق بين الخلق وفقاً لألوانهم وأعراقهم وألسنتهم ومواقعهم ومكاناتهم، وعدلٍ مكين يعطي لكل ذي حق حقه ولا يبخس الناس أشياءهم، ووحدةٍ تضم في أحضانها جميع المواطنين مهما كانت أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم ومهما تناءت ديارهم، وعطاءٍ سخي يزرع الخير ويُبَسْتِنُ الحياة، وعملٍ دؤوب في جَنبات الأرض يستخرج خيراتها من أجل إعمارها في سبيل إسعاد الإنسان، بجانب امتلاكهم لمقاليد القوة المادية والمعنوية التي تمنع استذلالهم وتجعل كلمتهم هي العليا بين الناس.
▪الجدير بالذكر أن الآية وردت في سورة الأنبياء، كأنها تقول بأن هذا الأمر سُنّة جارية في كل الرسالات وثابتة في كل الأزمان وماضية على كل الأمم، ومما يؤكد ذلك أن الآية التي تليها تقول: {إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين}، كأنها تقول أيها العابدون إن عباداتكم المحضة قد تنفعكم عند الله في الآخرة، لكن وراثة الأرض تحتاج أيضاً إلى العبادة في حَلَبات الأسباب ومضامير السُّنَن، حيث لا يتحقق النصر إلا بالإعداد المادي والمعنوي، ولا يتأتى التمكين الحضاري إلا بمقومات الحرية والوحدة والعدل والنظام والخدمة والقوة، ويجب أن تعتيروا ذلك بلاغاً لكل الأجيال في كل الأزمان، بدلالة أن جيش الصحابة العظام لم ينتصر في غزوة أُحُد رغم أن فخر الدنيا وخير من أنجبته البشرية كان في قلب ذلك الجيش، بجانب المئات من خير من طلعت عليهم الشمس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد ومعاذ وحمزة والمقداد وأسماء وخولة؛ لأن بعضهم أخلّوا بشرط من شروط الصلاح!
ولكي يؤكد القرآن هذا المعنى فقد ورد في الآية التي بعدها: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، فهذا الدين هو رحمة للخلائق كلها، ومن رحمته أنه جعل البقاء للأصلح للناس: {فأما الزّبَدُ فيَذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيَمكُث في الأرض}، مع بقاء سنة المداولة بالطبع: {وتلك الأيام نُداولها بين الناس}، بحسب انسجامهم مع السنن ووفق أخذهم بالأسباب!
▪ولو قمنا بمقارنة موضوعية بين حظ المسلمين من هذا الصلاح وبين حظ الغربيين مثلاً؛ لوجدنا أن حظوظ الغربيين كبيرة ووفيرة، وليس معنا إلا النزر اليسير من مقومات الصلاح وأهليات التمكين رغم ما نمتلك في الجانب النظري من رؤى أقامت بالأمس خير أمة أخرجت للناس، حيث يبدو الغربيون أقرب إلى القيم الحضارية للإسلام من المسلمين بعد قرون من الضلال ومحاولات دائبة للخروج من التيه، عبر إعمال الطاقات العقلية كافة والاستفادة من بقايا القيم المسيحية، واقتباس كثير من قيم العروج الحضاري من المسلمين وعلى رأسها المنهج التجريبي.
▪إن حقائق الواقع تقول بأن الغربيين في عصرنا هم الأشد اهتماماً بالعلم، إذ ينفقون على البحث العلمي مئات المليارات من الدولارات بينما لا يعطي المسلمون للبحث سوى الفتات، ولأن العمل انعكاس للعلم فإن الغربيين هم الأحرص على الأوقات حيث يصل متوسط ساعات العمل إلى عشر ساعات في اليوم بينما لا يصل في أكثر بلدان المسلمين المتوسط إلى ساعة واحدة، ثم إن الغربيين الأكثر عملاً ودأباً والأشد سيراً في مناكب الأرض، سواء في مجال الصناعة أو التجارة أو الخدمات أو الزراعة، حتى أن بلداننا العربية التي يعمل أكثر من نصف سكانها في الزراعة تستورد قرابة 50% من حاجاتها الزراعية من الغرب الصناعي وهذه من أغرب الغرائب ومن أعجب المفارقات!
وليت الأمر توقّف عند هذا الحَدّ فإن قيمة الإتقان تَحكم الصنائع وتُميِّز السِّلع الغربية بالجودة العالية، حتى أن المسلم لو خُيِّر بين دواء ألماني أو مصري مثلاً فإنه سيختار الدواء الألماني، وبالمثل فإنه سيختار أدوات التجميل والعطور الفرنسية والأحذية الإيطالية والأقمشة البريطانية والإلكترونيات الأمريكية، ولن يختار مثيلاتها في البلدان العربية، إن وُجدت، إلا مضطرا لأن قيمتها أقل!!
▪ولو قارنا بين الغربيين والمسلمين في مجال الحريات والحقوق الإنسانية والمواطنة المتساوية؛ لوجدنا أن البون شاسع بين نصيب كل طرف، حيث تتمتع الشعوب الغربية بحقوق وحريات جعلتها تعيش في رفاهية منقطعة النظير، ولذلك نجد أجيال الشباب في بلداننا التي تذهب للتعلم هناك لا تعود، فهناك إحصائية تتحدث عن أن 50% من الشباب السعودي الذين يذهبون للدراسة في أمريكا لا يعودون، وهذا مثل من بلد الحرمين والذي يتمتع ببحبوحة العيش، هذا بجانب أن أكثر الشباب يحملون أشواق الهجرة إلى الغرب، ويموت الآلاف سنويا في البحار وهم يحاولون تحقيق أحلامهم بطرق غير شرعية، ذلك أن شعوبنا تتلظّى تحت أثقال الطغيان وتئن من أوجاع القهر، وتعاني من ويلات الفقر، ولا تكاد ترى طريقها من شدة ظلمات الجهالة، والعجيب بعد هذا كله أن تجد من يستغرب من هزائم أوطاننا في كافة المعارك والأعجب منهم من يَعدّونها من صور الابتلاء، ضاربين المثل بهزيمة الصحابة يوم أُحُد رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بين أظهرهم، بينما كان الأمر واضحاً للعلماء السابقين حتى وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية(ت/ 728هـ) يقول: (إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة على الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة)!!
▪إن تفوّق الغربيين لا يقتصر على ما مر، فهم يفوقون مسلمي هذا العصر في حضور الوعي الجَمعي وبروز قيمة الوحدة والإئتلاف وإتقان مناهج الحوار وإحكام آداب الاختلاف، ويملكون من وسائل النظام والتنظيم وأساليب الانسجام والوئام الكثير، بما يجعلهم مجتمعات منسجمة ومتماسكة وذات أهداف وغايات واحدة، رغم ثراء الوسائل وتنوع الأساليب ورغم تعدد المشارب وتضارب الأفكار، أما المسلمون فإنهم مضرب المثل في الاختلاف على كل شيئ وفي كل وقت، حتى صارت مجتمعاتنا أشبه ببيوت العنكبوت من حيث تَسيّد قيم العشوائية والتخبّط والارتجال وبروز آفات الصراع والاحتراب والانقسام الخلَويّ الذي لا ينتهي إلا ليبدأ، حتى أن الكاتب البريطاني أنتوني ناتنج قال: (إن مصيبة العرب هي فرديتهم، فلو دخل خمسةٌ منهم غرفة لخرجوا بستة أحزاب)!!
▪ولا شكّ أن الغربيين يمتلكون شتى وسائل القوة المادية والمعنوية، إذا استثنينا من ذلك الجوانب الروحية، حيث يمتلكون جيوشا قوية مبنية على أسس علمية ومنهجية بعيداً عن الدوران حول فلَك العصبيات الضيقة أو الولاءات العمياء للحكام، وبحوزتها شتى أسلحة العصر التي صنعتها أيدي خبرائها، ويَصبّون طاقة الكراهية ضد من يعتبرونهم أعداء أوطانهم وحضارتهم، هذا بجانب امتلاكها لشتى القوى الإعلامية والنفسية والمالية التي تجعل أيدي هذه الجيوش طويلة وتمتد إلى سائر البقاع، بينما جيوشنا مغلولة الأيدي ومحجوبة الرؤية ولا تدرك لها غاية سوى أنها كلاب حراسة للأنظمة الحاكمة التي تعيث في الأرض فساداً، ولا تعرف لها عدواً سوى الشعوب والمعارضات السياسية أو جيوش البلدان الشقيقة!
▪ومن المفارقات الغريبة في هذا الشأن أن معظم الدول الإسلامية جاءت فى قائمة أسوأ الدول من حيث معيار القيم الإسلامية، بحسب دراسة اعدها أكاديميون مختصون من خلفيات مسلمة بجامعة جورج واشنطن الأمريكية.
وتستند الدراسة التى أشرف على إعدادها البروفيسور حسين اسكاري أستاذ الاقتصاد الدولى والعلاقات الدولية بجامعة جورج واشنطن ود. شهر زاد رحمن، والمسماة (معيار الإسلامية Islamicity Index ) على استقاء المبادئ الاسلامية من القرآن والأحاديث النبوية وتطبيقها على اربعة مجالات رئيسية:
(1) إسلامية الاقتصاد: بما يشمل تساوى الفرص والمساواة الاقتصادية ومكافحة الفقر.
(2) وإسلامية الحكم والقانون
:بما يشمل المساءلة والاستقرار السياسي وحكم القانون.
(3) وإسلامية الحقوق الإنسانية والسياسية: بما يشمل حقوق التعليم والصحة والحرية الدينية.
(4) واسلامية العلاقات الدولية:
وتشمل الحفاظ على البيئة واستدامة الموارد وحجم الإنفاق العسكرى كنسبة من الناتج القومى الإجمالى، ومن ثم ترتيب البلدان بحسب الدرجات التى تحوزها فى (113) مبدأ اسلامى .
▪وبحسب إسلامية الاقتصاد تَصدّرت القائمة إيرلندا، تليها الدنمارك، لوكسمبورج، السويد، بينما احتلت ما تسمى ب(إسرائيل) المرتبة (27) ، قبل أى دولة اسلامية أخرى، ولم تدخل فى قائمة الـ(50) الأولى سوى دولتين (إسلاميتين) هما ماليزيا (33) والكويت (42).وأما من حيث جملة معايير الإسلامية (Overall Islamicity) ، فكانت الدول العشر الأولى على التوالى:نيوزيلندا، لوكسمبرج، إيرلندا، إيسلندا، فنلندا، الدنمارك، كندا، المملكة المتحدة، أستراليا، هولندا، بينما اندرجت معظم الدول الإسلامية في مراكز مختلفة ضمن المائة الثانية!.
▪وتُذكّرنا هذه المُفارقات بمقولة الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه، حينما ذهب إلى فرنسا فوجد قيم الإسلام الحضارية تتحرك في الواقع بينما يتيه المسلون بعيدا عن دينهم، حيث قال: (ذهبتُ إلى أوروبا فوجدت إسلاماً بلا مسلمين وعدت إلى الشرق فوجدتُ مسلمين ولم أجد الإسلام)!!
وهي مقولة عميقة تُبرز بُعد المسافة بين المسلمين وبين قيمهم الحضارية، حيث اختزل معظم المسلمين الإسلام في مجموعة من الشعارات التي لا ظل لها من الحقيقة وعدد من الشعائر التي لا روح فيها، حتى أصبحت شُعَب الإسلام في واد والمسلمون في واد آخر، لدرجة يمكن القول معها بأننا مسلمون بالقول لا بالفعل أو مسلمون مع وَقْف التنفيذ، مما دفع بداعية تركي للصُّراخ بمرارة بأن (الآذان شَبِعت والعيون جَوعَى)!!
▪ومن المؤكد أن هذه القيم هي التي تصنع قيمة أي أمة، وأن هذه المقدمات هي التي تتحكم بنتائج الوراثة، وأن مدخلات التمكين تتركّز في ما ذكرنا هنا من قيم، ومن ثمّ فإن المُخرجات والنتائج لن تتغير ما لم تتغير المُدخلات والمقدمات، مهما كان الإيمان القلبي قوياً والتوكل على الله حاضراً، ومهما كانت المساجد مليئة بالمصلين والألسن تلهج بالدعاء لاستنزال نصر الله، ذلك أن نصر الله لعباده ثمرةٌ لنصرتهم إياه، ونصره يتم من خلال التساوق مع مشيئته التي هي السُّنَن، وهي لا تحابي رُوّاد المساجد ولا تجامل حُجّاج بيت الله الحرام، ما داموا يواجهون الأعداء بدون أسلحة الأسباب التي يمتلكونها!
وسوم: العدد 796